فلسطين التاريخ / أعلام بيت المقدس

نبذة من سيرةإبراهيم بن عبد الواحد الملقب بعماد الدين .

هو إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي الدمشقي الفقيه الزاهد، الورع العابد، الشيخ عماد الدين أبو اسماعيل وأبو اسحاق أخو الحافظ عبدالغني المقدسي. ولد بجماعيل نواحي نابلس بفلسطين سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وكان يقول: أخي الحافظ عبدالغني أكبر مني بسنتين. وهو ابن خالة الموفق. وهاجر إلى دمشق مع جماعتهم سنة إحدى وخمسين وخمسمائة لاستيلاء الفرنج على أرضهم.

      وقرأ القرآن وسمع من أبي المكارم بن هلال وعبد الرحمن بن علي الخرقي وغيرهما وحفظ غريب القرآن للعزيزي ومختصر الخرقي في الفقه. ورحل إلى بغداد مرتين أولاهما: مع الشيخ الموفق سنة تسع وستين فقرأ القرآن على أبي الحسن البطايحي، وسمع من أبي محمد بن الخشاب وصالح بن الرحلة وشهدة الكاتبة والشيخ عبدالمغيث الحربي وغيرهم.  وسمع بالموصل من خطيبها أبي الفضل الطوسي وتفقه ببغداد على أبي الفتح بن المنى حتى برع وناظر وأفتى ورجع إلى دمشق وأقبل على إشغال الناس ونفعهم.

      قال الشيخ موفق الدين – في حق العماد لما سئل عنه - : كان من خيار أصحابنا وأعظمهم نفعاً وأشدهم ورعاً وأكثرهم صبراً على تعليم القرآن والفقه، وكان داعية إلى السنة وتعليم العلم والدين وكان يقري الضعفاء والفقراء ويطعمهم ويبذل لهم نفسه وكان من أكثر الناس تواضعاً واحتقاراً لنفسه وخوفاً من الله تعالى، وما أعلم أنني رأيت أشد خوفاً منه، وكان كثير الدعاء والسؤال لله تعالى، وكان يطيل الركوع والسجود في الصلاة ويقصد أن يقتدى بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقبل من أحد يعذله في ذلك، ونقلت له كرامات كثيرة.

      وقال الحافظ الضياء: كان عالماً بالقرآن والنحو والفرائض وغير ذلك من العلوم وصنف كتاب الفروق في المسائل الفقهية، وصنف كتاباً في الأحكام ولكنه لم يتمه، وكان مليحاً وكان من كثرة أشغاله واشتغاله لا يتفرغ للتصنيف والكتابة.

      قال : وسمعت الشيخ موفق الدين يقول: ما نقدر نعمل مثل العماد رحمه الله، كان يتألف الناس ويقربهم حتى ربما ردد على إنسان كلمات يسيرة من السحر  إلى الفجر!! وقال الضياء: كان رحمه الله يتألف الناس، ويتلطف بالغرباء والمساكين حتى صار من تلاميذه جماعة من الأكراد والعرب والعجم، وكان يتفقدهم ويسأل عنهم وعن حالهم ولقد صحبه جماعة من أنواع المذاهب، فرجعوا عن مذاهبهم لما شاهدوا منه، وكانوا يتحدثون عنه ويذكرون لنا من كراماته وكرمه وحسن عشرته وكان سخياً جواداً كثير المعروف حتى كان بيته مأوى للناس، وكان ينصرف كل ليلة إلى بيته من الفقراء جماعة كثيرة من أصحابه فيقدم إليهم ما حضر.

      قال: وكان لا يكاد يفتر من الاشتغال: إما بالقرآن أو الحديث أو غيره من العلوم وأقام بحران مدة وانتفعوا به، وكان يشتغل بالجبل إذا كان الشيخ الموفق بالمدينة فإذا صعد الموفق الجبل نزل هو فاشتغل في المدينة، وكان يقعد في جامع دمشق من الفجر إلى العشاء، لا يخرج إلا لما لا بد منه، يقرئ الناس بالقرآن والعلم، فإذا لم يبق له من يشتغل عليه اشتغل بالصلاة، وكان داعية إلى السنة وتعلم العلم والدين، وختم عليه جماعة من الأصحاب.

      قال : وما أعلم أنه أدخل نفسه في شيء من أمر الدنيا، ولا تعرض لها، ولا نافس فيها وقد يفتح لأصحابنا بعض الأوقات بشيء من الدنيا، فما أعلم أنه حضر عندهم يوماً قط في شيء من ذلك، وما علمت أنه دخل يوماً إلى سلطان ولا إلى وال، ولا تعرف بأحد منهم، ولا كانت له رغبة في ذلك. قال: وكان محافظاً على الصدق والورع، سمعته يقول لرجل: كيف ولدك؟ فقال: يقبل يدك، فقال: لا تكذب!! وكان كثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يرى أحداً يسئ صلاته إلا قال له وعلمه، ولقد بلغني أنه خرج مرة إلى قوم من الفساق فكسر ما معهم فضربوه ونالوا منه، حتى غشي عليه، فأراد الوالي ضرب الذين نالوا منه. فقال: إن تابوا ولزموا الصلاة فلا تؤذهم وهم في حل من قبلي، فتابوا ورجعوا عما كانوا عليه.

      قال: ورأيته ربما يكون في مسجد فإذا أخذ من لحيته شعرةً أو من أنفه شيئاً جعل ذلك في عمامته، وربما برى قلماً فيحتفظ من القلامة، ولا يدعها في المسجد، وكان إذا أفتى في مسألة يتحرز فيها احترازاً كثيراً، حتى كان بعض الفقهاء يتعجب من فتاويه وكثرة احترازه فيها!! وسمعت من يقول: كان يكون على ثوبه غبار فيقول لي: اذهب فانفضه خارج المسجد. وسمعت أبا محمد بن عبدالرزاق بن هبة الله الدمشقي يقول: سمعت الشيخ عبدالله البطايحي رحمه الله يقول: أشكلت علي مسألة في الورع فما وجدت من أفتاني فيها إلا العماد!! وكان رحمه الله: لا يرى أن يخرج الحصير من المسجد ليجلس عليها خارج المسجد، والحصير التي للمحراب لا يجلس عليها خرج المحراب!! وسمعت أحمد بن عبدالله بن أبي المجد الحربي يقول: كان الشيخ العماد عندنا بالحربية – يعني ببغداد- وكان إذا دخل بيت الله ولم يسم خرج فسمى ثم دخل!!

      وسمعت من شيخنا وإمامنا موفق الدين أبي محمد المقدسي يقول: عمري أعرفه –يعني الشيخ العماد – وكان بيتنا قريباً من بيتهم –يعني في أرض المقدس جماعيل- ولما جئنا إلى هنا فما افترقنا إلا أن يسافر أحدنا، ما عرفت أنه عصى الله معصية!! وسمعت الإمام أبا إبراهيم محاسن بن عبدالملك التنوخي يقول: كان الشيخ العماد جوهرة العصر، وذلك أن واحداً يصاحب شخصاً مدة ربما تغير عليه، وكان الشيخ العماد: من صاحبه لا يرى منه شيئاً يكرهه قط كلما صحبته ازداد بشره ورأى منه ما يسره وهذا شيء عظيم، وليس يكون كرامة أعظم من هذا!!

      قال الضياء: ولعله ما قعد عنده أحد إلا حصل له منفعة في العلم والزهد أو اقتباس شيء من أخلاقه أو أوراده وغير ذلك، وكان يذم نفسه ذماً كثيراً ويحقرها ويقول: إيش يجئ مني؟ إيش أنا؟ وكان كثير التواضع!!

      وسمعت الشيخ موفق الدين قال: ما رأيت من اجتمع فيه من خلال ، كانت في الشيخ العماد كان أكثر ذماً لنفسه منه!! ولقد حضرت عنده مرة وقد أخذته الريح، وكان لا يقدر على الكلام فوقفت، فلما قدر على الكلام شرع في ذم نفسه وقال:  اللهم أصلح فساد قلبي وجعل ينوح على نفسه: أنا كذا أنا كذا حتى أبكاني!!

      وسمعت الإمام أبا عبدالله يوسف بن عبد المنعم بن نعمة المقدسي يقول: كنت أكتب طبقات السماع على الشيخ العماد، فكنت أكتب: الشيخ الإمام العالم الزاهد الورع. فخاصمني على ذلك خصومة كثيرة. ثم ذكر الضياء من كرمه وحسن عشرته: أن بعض أصحابه كانت تكون الحاجة إليه، فيمضي إلى بيته، فيقيم عنده اليوم واليومين قال: وما رأيته يشكي من ذلك شيئاً!! قال: وما أظن أني دخلت عليه قط إلا عرض علي الطعام!! قال ولم يزل هذا دأبه من وقت ما عقلنا ، وكان يتفقد الناس ويسأل عن أحوالهم كثيراً وربما بعث إلى الناس نفقة سراً!! قال: وسمعت عن بعض أهله أنهم قالوا: ربما كنا نؤذيه فما يغضب علينا ويقول: الذنب لي!! وأنه كان يدعو لمن ظلمه ويحسن إليه!! قال: ولقد كان أعار داره التي في الدير لابن أخيه عز الدين أبي الفتح مدة يسكن فيها ثم لم يعد إلى سكناها قط وتركها له، ولم يكن له غيرها!! قال: وكان من إكرامه لأصحابه ومعارفه: يظن كل أحد أن ما عنده مثله من كثرة ما يأخذ بقلبه ويكرمه، وكان يلقى الناس بالبشر الدائم!! وكان ربما تكلم على أحدنا ونصحه وحرضه على فعل الخير والاشتغال حتى كان قلب الشخص يطير من كثرة دخول كلامه في القلب!! قال: وأوصاني وقت سفري فقال: أكثر من قراءة القرآن ولا تتركه فإنه يتيسر لك الذي تطلبه على قدر ما تقرأ!! قال: فرأيت ذلك وجربته كثيراً، فكنت إذا قرأت كثيراً تيسر لي من سماع الحديث وكتابته الكثير وإذا لم أقرأ لم يتيسر لي!!

      قال: وكان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة تفل عن يساره ثلاثاً واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم وكبر تكبيرة يرفع صوته بذلك، ثم يستفتح، قال: فلم أر أحداً أحسن صلاة منه ولا أتم منها بخشوع وخضوع وحسن قيام وقعود وركوع، وربما كان بعض الناس يقول له: النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر التخفيف وقال لمعاذ: (أفتان أنت؟) فلا يرجع إلى قولهم، ويستدل عليهم بأحاديث أخر منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكون في الركعة الأولى حتى يمضي أحدنا إلى البقيع ويقضي حاجته ويأتي والنبي صلى الله عليه وسلم لم يركع. وقول أنس: لم أر أحداً أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى يعني : عمر بن عبد العزيز رحمه الله – قال الراوي: فحزرنا في ركوعه وسجوده عشر تسبيحات. وبحديث: (كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائماً حتى يقول القائل: قد نسي). قال : وقيل عن شيخنا: إنه كان يسبح عشراً، يتأنى في ذلك!!

      قال: وسمعت أبا عبدالله محمد بن طرخان يقول: كنا نصلي يوماً خلف الشيخ العماد وإلى جانبي رجل كأنه كان مستعجلاً فلما فرغنا من الصلاة حلف لا صليت خلفه أبداً، وذكر حديث معاذ، فقلت له: ما تحفظ إلا هذا؟ ورويت له الأخبار التي وردت في تطويل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إني قعدت عند الشيخ العماد وحكيت له، وقلت له: أنا أحبك وأشتهي أن لا يقال فيك شيء، فلو خففت؟ فقال: لعلهم يستريحون مني ومن صلاتي قريباً يا سبحان الله! الواحد منهم لو وقف بين يدي سلطان طول النهار ما ضجر وإذا وقف أحدهم بين يدي ربه ساعة ضجر!!

      قال: وكان يقضي صلوات، فربما قضى في اليوم والليلة صلوات أيام عديدة، حتى كان بعض من يحكي يقول: ربما قضى الشيخ في عمره صلاة كذا كذا مائة سنة!!

      قال: وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان كثير الدعاء بالليل والنهار، قال: وكان إذا دعا كأن القلب يشهد بإجابة دعائه من كثرة ابتهاله وإخلاصه، وكان إذا شرع في الدعاء لا يكاد يقطعه ولو اجتمع أهله وجيرانه، فيدعو وهم حاضرون ويستبشرون بذلك وكان يفتح عليه من الأدعية شيء ما سمعته من غيره قط، وربما بكى بعض الحاضرين عند دعائه وذكر من توخيه أوقات الإجابة وأماكنها.

      وكان يكثر في دعائه من قوله: اللهم اجعل عملنا صالحاً واجعله لوجهك الكريم خالصاً ولا تجعل لأحد فيه شيئاً، اللهم وخلصني من مظالم نفسي ومظالم كل شيء قبل الموت ولا تمتني ولأحد علي مظلمة يطلبني بها بعد الموت، وإذا قضيت بالموت –ولا بد من الموت- فاجعله على توبة نصوح بعد الخلاص من مظالم نفسي ومظالم العباد – قتلاً في سبيلك على سنتك وسنة رسولك صلى الله عليه وسلم شهادة يغبطني بها الأولون والآخرون واجعل النقلة إلى روح وريحان ومستراح في جنات النعيم ولا تجعلها إلى نزل من حميم وتصلية جحيم. ومن دعائه: أسألك باسمك الكريم ووجهك المنير وملكك القديم أن تصلى على محمد وعلى آل محمد وأن ترزقني رضوانك الأكبر والفردوس الأعلى وما قرب إليها من قول وعمل ونية، والخاتمة بأفضل خاتمة تختم بها لعبادك الصالحين والعلم والعمل به والحلم والحكم، والفهم والحفظ والغنى عن الناس وزوال الوسواس، والشبهات والنجاسات والدين والحاجة إلى الناس، والتزين بما يشينني عندك، اللهم طهر ألسنتنا من الكذب والغيبة والنميمة وقلوبنا من النفاق والغل والغش والحسد والكبر والعجب وأعمالنا من الرياء والسمعة وبطوننا من الحرام والشبهة وأعيننا من الخيانة فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور!! في دعاء كثير.

      قال الضياء: توفي رحمه الله ليلة الخميس وقت عشاء الآخرة السادس عشر من ذي القعدة سنة أربع عشرة وستمائة ودفن يوم الخميس، وكان صلى تلك الليلة المغرب بالجامع ثم مضى إلى البيت وكان صائماً فأفطر على شيء يسير. وحكي عنه: أنه لما جاءه الموت جعل يقول: يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث فأغثني!! واستقبل القبلة وتشهد ومات رحمه الله. ورثاه الصلاح موسى بن شهاب المقدسي بأبيات منها:

عيني وقلبي منك اليوم متبول
لكنه الآن بالأحزان مأهول
والدمع من خشيه الله مسبول
قد زانها منك تكبير وتهليل


 

يا شيخنا يا عماد الدين قد قرحت
أوحشت والله ربعاً كنت تسكنه
كم ليلة بت تحييها وتسهرها
وسجدة طالما طال القنوت بها


       
رحمه الله رحمة واسعة ، .