فلسطين التاريخ / تاريخ
حصار فلسطين... شهادة للتاريخ.
حصار فلسطين... شهادة للتاريخ
بعد تسعة أشهر من المعاناة قرر وزراء الخارجية العرب رفع الحصار المالي عن الشعب الفلسطيني، حيث قال الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى إن: "الدول العربية لن تلتزم بأية قيود تفرضها دولة أخرى على الفلسطينيين"!!
حصار حكايته بدأت بعد أن دفعت ورعت الدول الغربية الانتخابات التشريعية في فلسطين، وكانت بشهادات المراقبين نزيهة، ونجحت حركة حماس بـ 74 مقعداً من أصل 132، وشُكلت الحكومة بأعضاء من حماس حيث رفضت فتح المشاركة بتلك الحقائب الوزارية.
نتائج الانتخابات كانت مفاجأة للجميع، وانتاب الغرب هالة من الهلع، وسارعت القيادة الأميركية بفرض الحصار على الحكومة المنتخبة، وعملت بنجاح على عزلها دبلوماسياً وإضعافها مادياً بشتى الوسائل، ودارت في فلكها الدول المانحة والاتحاد الأوروبي والرباعية التي رعت عملية السلام!! ودول الجوار التي انصاعت للمطالب الغربية!!!
واشترطوا على الحكومة قيود شديدة لفك الحصار تخالف المبادئ والثوابت والبرامج التي انتخبها المنتخبون من أجلها وفي مقدمتها: "الإصلاح والتغيير" وامتنع الكيان اليهودي تسليم السلطة الفلسطينية المبالغ العائدة من رسوم الضرائب والتي تجبى على المعابر والتي تخص السلطة الفلسطينية وتصل إجماليها إلى ما يقارب 70 مليون دولار شهريا!! وفرض القيود من جهته ليراقب المعابر وضمان الحصار التام على الشعب بأكمله سلطة وحكومة وشعباً ... عقاباً، لا للحكومة الجديدة فقط بل للشعب الذي ضل السبيل بانتخابه ممثلين له على غير شاكلة من تهواهم أمريكا والاحتلال اليهودي وأعوانه!! وساهمت دول غيرها بالحصار بأن منعت بنوكها التحويلات إلى فلسطين.
كانت النتيجة عجز مالي في خزينة الحكومة شلّ كل قدراتها، وحرم الموظفين رواتبهم على مدى 9 شهور، وأدخل أكثر من 80% من الشعب الفلسطيني تحت خط الفقر والعوز والذل.
حصار شرس لم يحدث في تاريخ ذلك الشعب منذ ما يقرب من مئة عام، فرض على شعب بأكمله، ومعه استمرت المجازر والتصفيات، واختطاف المنتخَبين، وتجويع الناخبين، ليستجدي هذا الشعب في أرضه "الكيلو من الطحين" لهدف واحد هو الإذلال الذي عبر عنه رئيس حكومة الاحتلال الأسبق إيهود باراك بقوله: "إسرائيل تعلمت أنه ليس ثمة سبيل لتحقيق النصر بالاحتلال، وإن الطريق الوحيد هو اختيار شدة المهانة"!!
وبعد 9 شهور أعلن عن قرب التوصل والاتفاق على بعض الأسماء لتستلم الحكومة، حينها نطقوا وقالوا من أعلى منبرٍ في الجامعة العربية سنكسر الحصار وسنرسل الأموال وسنساعد المرضى والثكلى والأرامل والأيتام، ليوهموا الشعوب المغلوب على أمرها بأننا قد بادرنا وكسرنا الحصار، وليكن ما يكن؟!!!
الغريب تلك الجرأة المفاجأة والتي طالما انتظرناها ونحن نعيش مع الشعب الفلسطيني يوماً بيوم في شهوره التسعة التي مرت بأسوأ حال، والتي لم تمر على شعب على وجه الأرض مثلها ... لا أقول هذا مبالغة أو تعاطفاً، ولكن واقعاً شل العقول، وقيد الأقلام، وألجم الأفواه عن وصف الواقع المرير.
نعم سيرفع الأسياد ذلك الحصار المجرم على شعب كانت جريرته انتخاب من يمثله. لكن ليس بأيديكم سيكسر، فلو كانت المبادرة لكسر الحصار قبل الإعلان عن قرب الاتفاق على تشكيل حكومة جديدة بدلاً من الحكومة الحالية، لعلنا صدقنا ما سمعنا!!
كيف مضت أيام رمضان في فلسطين ؟!
ألم يكن من الأجدر أن تطلق تلك المبادرات والتحديات قبل شهر رمضان هذا العام ... ألا يعلمون كيف مضت أيام رمضان هذا العام في فلسطين ... حالة العوز وضيق الحال بلغت بالكثير من الأسر أن لا تجد على مائدة الإفطار إلا موائد متقشفة كالماء وحبات من التمر، وبعضهم كان طعامه القليل من الخبز، والبعض الآخر كان العدس الصنف الوحيد على مائدته طوال أيام الصيام .... والمؤسسات الخيرية والإنسانية وقفت عاجزة بعد أن أصابها ما أصابها من الحصار ومنع تحويل الأموال لحساباتها الخيرية، مما أفقد الآلاف من الأسر والأيتام والأرامل والمرضى والمقعدين مخصصاتهم وكفالاتهم الشهرية، فأصبحت المؤسسات والجمعيات الخيرية والإنسانية مكتوفة الأيدي أمام تلك المعاناة التي تُنقل لنا بالصوت والصورة عبر القنوات الفضائية ولا نجد من يحرك ساكناً ...
مجرمو الحصار:
نود أن نعرف من المجرم في هذا الحصار ... من نفذ الحصار؟... ومن طبق الأوامر؟... ومن منع التحويلات على أشكالها؟... ومن تجاوز في قيوده ما فرضته السياسة الأمريكية على الدول والمؤسسات والحكومات والبنوك؟!! ...
أليس من حقنا أن نتساءل ونسائل مؤسساتنا لماذا التزمت الصمت أمام معاناة ليس لها مثيل؟!! ولماذا حرمتم شعب بأكمله من توفير طعامه، وأدخلتموه في دوامة الجوع والمذلة والمهانة؟!! أليس من حقنا أن نعرف كيف يترك شعب لمدة 9 شهور وهو يتجرع الجوع الذي رافقه الذل والهوان من خذلان القريب قبل البعيد؟!! ألا ينبغي أن تكون تلك الكلمات في كسر الحصار منذ اليوم الأول الذي فرض فيه السجّان حصاره، وتجويعه للسجين!!
إسالوا البنوك والمصارف العربية كم من التحويلات المالية للمؤسسات الخيرية في فلسطين منعت من الدخول إلى حساباتهم؟! وكم حوالة رجعت لمصدرها؟! وكم عانى الأيتام، وتألمت الأرامل، وذرفت أعين المرضى وأقربائهم دماً قبل الدمع والأسى؟!!
ألا يحق لنا أن نقاطع البنوك التي ساهمت في الحصار كونها شاركت في المشروع الأميركي الغربي لنصرة اليهود واحتلالهم لأرض فلسطين. فلو أن الحصار كان على الحكومة والسلطة!!، فلماذا ساهمتم بحصار المؤسسات الإنسانية والخيرية والطبية؟!! أليس من حق من حوصر ما يقارب السنة أن يحاسب من حاصره ومنع عنه كل مقومات الحياة؟!! أتريدون أن تمر مثل تلك الأحداث من غير مساءلة؟!! ألا يجب أن يحاكم مجرمو الحصار كطغاة ضد الإنسانية.
شهادة التأريخ:
تسعة شهور من الحصار سيسجلها التاريخ كما سجل في صفحاته إضراب عام 1936م والذي استمر ستة أشهر احتجاجاً على السياسة البريطانية في تهويد فلسطين والعمل على تمكين العصابات اليهودية وتجهيزها لاحتلال فلسطين.
نريد من مؤرخينا أن يأرخوا لمرحلة الحصار بكل تفاصيلها وأبعادها ومواقف الآخرين منها، وأن لا تقتصر على الصفحات السوداء في تسجيل تلك المرحلة، فهناك جوانب مضيئة كثيرة لا بد من تسليط الضوء عليها، فقضية فلسطين لا نريد أن نختزلها بحصار فرض عليها، وجاري العمل على فكه!!
وبعد هذا هل فعلاً سيزول الحصار؟ وهل سيرى أهل فلسطين النور من جديد، وستنتهي معاناتهم وآلامهم، وسيقف اليهود وآلتهم العسكرية عن ممارسة هواياتهم اليومية من قتل وتدمير؟!! أم سيكون مصير كل حكومة جديدة كمصير حكومة "محمود عباس" أيام "عرفات" وكحكومة "قريع" أيام "محمود عباس" وكحكومة "إسماعيل هنية" الأخيرة .... لا أظن أن مشكلة فلسطين هي مشكلة حكومة أو من يرأسها لكنها مسيرة احتلال بغيض وظلم عانى منه الفلسطينيون خلال أكثر من مائة سنة، بسبب مقاومتهم حيناً، أو لاستسلامهم حيناً آخر، أو لإبرامهم العقود والعهود والاتفاقات، أو لرفضهم لبند معين من مجمل اتفاقية مقترحة!! وما هذا الحصار إلا حلقة من حلقات الحرب الصهيونية على فلسطين الأرض والشعب والقيادة مهما كان طيفها!!!
عيسى القدومي
15/11/2006م