فلسطين التاريخ / الشتات الفلسطيني

ما بين غزة والقدس ولبنان

ما بين غزة والقدس ولبنان

 

للكاتب : عبدالعزيز الغريب

 

 على الشرفاء من أهل لبنان أن يقوموا بكسر حصار أهل المخيمات وأن يوجهوا قوافلهم البرية ويحركوا مؤسساتهم الإغاثية والحقوقية والإعلامية للمخيمات للوقوف على معاناتهم.

 

الأوضاع المزرية التي يعيشها الفلسطينيون في لبنان لا تقل - حجماٌ ونوعاً - عن معاناة الفلسطيني في غزة والقدس، فمنذ أكثر من ستين عاما والمعاناة كانت وما زالت؛ فالفلسطيني في لبنان دون سواه من جنسيات العالم كلها يمنع من تملك أي حق عيني، تحت ذريعة قانون: «حماية الحقوق العينية العقارية في لبنان والحفاظ على وطنيتها».

فالأرض التي عاش عليها قرابة الستين عاماً لا يحق له أن يتملك فيها بيتاً أو عقاراً!! بل ولا يحق له أن يورث ولا أن يوصي ولا حتى أن يوقف ذلك العقار لله تعالى، وترميم  بيته الذي يسكنه في مخيمات البؤس والظلم ممنوع، فتحظر مواد البناء من الدخول إلى المخيمات، كما تمنع مواد البناء والترميم من الدخول إلى غزة، والأمر سيان في القدس حيث تمنع قوات الاحتلال الصهيوني متمثلة ببلدية القدس من ترميم البيوت إلا بتراخيص تفوق تكاليفها ثمن البيت بأكمله .

وكما أن أكثر من 75 % من أهل غزة عاطلون عن العمل، وكما أن التضييق الاقتصادي القاتل يفرض على أهالي القدس، فإن في لبنان معاناة من نوع آخر ألا وهي القوانين والقرارات التي تمنع الفلسطيني من ممارسة 72 مهنة، فضلاً عن منع الانتساب إلى النقابات؛ فلا تقاعد ولا تأمينات اجتماعية؛ ولا وكالة غوث اللاجئين (الأونوروا) قادرة على تقديم الخدمات سواء الصحية أم المعيشية؛ مما فاقم من معاناة سكان المخيمات وجعلهم في مآس فوق مأساتهم الأساسية، وهي سلب أرضهم وتشتيتهم بين الحدود والمخيمات . 

والغريب أن تسوغ تلك الممارسات في لبنان وعلى لسان قادتها بأن ذلك لمصلحة الفلسطينيين، يقولون: نحن نمارس تلك الإجراءات حتى لا نوطنهم لتبقى الرغبة لديهم في العودة إلى وطنهم السليب!! وحقيقة الأمر أنهم يعذبونهم ويقتلوهم ببطء من أجل إبقاء فلسطين حية في أذهانهم!! وإن كانت الأسباب الحقيقية لا تخفى على كل متابع لواقع الفلسطينيين في لبنان وأبعاد تلك القوانين.

وبين حين وآخر نسمع تصريحات القادة اللبنانيين المطمئنة التي تصف الفلسطينيين في لبنان «بأنهم ضيوف، وعلى قادة لبنان أن يحفظوا شأنهم إلى أن يعودوا إلى ديارهم»، وهذا نص ما قاله رئيس مجلس الوزراء اللبناني السابق فؤاد السنيورة لصحيفة (السفير) اللبنانية 22/9/2008م.

ولكن الواقع يقول شيئاً آخر؛ فقبل سنتين كنت في مكة لأداء مناسك العمرة، وفي الفندق الذي أقمت فيه التقيت مع إخوة من دول شتى، وجمعنا لقاء كان فيه شباب معتمرون من القدس، وآخرون من المخيمات في لبنان، ودار الحديث بيننا، وكلٌ أخذ يسرد معاناته؛ فأهل القدس وصفوا معاناتهم وممارسات الاحتلال اليهودي للتضييق على المسلمين لإجبارهم على الخروج من القدس، وكيف أن الجدار العازل عزلهم عن امتدادهم الفلسطيني؟ وكيف فرغت القدس من المؤسسات العربية والإسلامية؟ وإجراءات اليهود المتسارعة لتهويد ما أمكن وكأنهم في سباق مع الزمن، وخلاصة ما قالوا: «إذا استمر اليهود على هذه الوتيرة فإن الوجود الفلسطيني في القدس سيكون مستحيلاً في ظل تلك الممارسات ... وإهمال العالم العربي والإسلامي والدولي لحقوق المقدسيين وأهل فلسطين في مقدساتهم وأرضهم «!!

وبعد ذلك تحدث أحد القادمين من مخيمات لبنان، وحقيقة أذهلني ما قال من حجم المعاناة والآلام التي يعيشها أهالي المخيمات ... أوضاع مأساوية تفتقر إلى الاحتياجات الإنسانية القصوى، وأزقة وحارات ضيقة، وبيوت متلاصقة مثلما تتلاصق زنازين السجون، وكأنها زرائب بشرية، ومجار تسيل في الزقاق، وتلوث وأمراض، حياة لا تصلح للكائن البشري المسمى (إنساناً)، ويطلق عليها منازل مؤقتة - إن صح التعبير –!! بؤس وحرمان من أبسط حقوق الإنسان؛ حيث تصل نسبة البطالة من 40 إلى 50 % وقد تفوق ذلك، عاطلون عن العمل مما اضطر بعض الأطباء والمهندسين للعمل بائعين يجرون عربات خضار، أو عمالاً في مطعم... ضغط وتضييق وإهانة، والحال كما هو الحال لم يتغير ولم يتبدل!! وأعجبني تعليق أحد الإخوة من القدس حيث قال: «هانت علينا مصيبتنا حين سمعنا مصيبتكم»!!

الواقع أن هؤلاء اللاجئين يعيشون مأساة حقيقية؛ حيث إن البيئة السياسية والقانونية اللبنانية تشكل بيئة طاردة للفلسطينيين بحجة منع توطينهم، على الرغم من أن الفلسطينيين لا يرغبون أصلاً في التوطين، وإنما يرغبون في معاملة إنسانية عادلة غير مرتبطة بإعطائهم الجنسية أو الحقوق السياسية الخاصة بأقرانهم اللبنانيين.

فالاحتجاج بأن الإبقاء على معاناة الفلسطينيين وحرمانهم من حقوق الحياة الإنسانية الكريمة يعين على استمرار اهتمامهم بقضيتهم. حجة واهية طالما لامست أسماعنا، وذرفت من معيشتهم المهينة أعيننا؛ إذ إن استمرار المعاناة يدفع الفلسطينيين للهجرة إلى دول أوروبا الغربية وأميركا وكندا وأستراليا وأميركا الجنوبية..الخ، حيث توجد مخاطر أكبر في توطينهم وذوبانهم وابتعادهم عن مركز الاهتمام بقضيتهم.

وما زال الفرق كبيراً وواضحاً بين التصريحات الرسمية للمسؤولين اللبنانيين المرحبة باللاجئين الفلسطينيين بوصفهم إخوة في بلدهم الثاني، وبين المعاملة الفعلية لهؤلاء اللاجئين، فالقوانين والقرارات التي تنظم وجودهم كانت وما زالت قاسية وتنتقص انتفاضاً  كبيراً من حقوقهم الإنسانية، فكانت معاناتهم في خط تصاعدي من أيام اللجوء الأولى.

نحن نقدر وقوف الشرفاء من أهل لبنان مع معاناة إخواننا في غزة وتسيير السفن والقوافل لإغاثتهم وكسر حصارهم ومعاناتهم، وأدعوهم كذلك لأن يوجهوا قوافلهم البرية ويحركوا مؤسساتهم المدنية من إغاثية وحقوقية وإعلامية للمخيمات للوقوف على معاناتهم، والضغط على أصحاب القرار بإعطائهم حقوقهم المدنية والاجتماعية والصحية من دون أن نخل بأمن لبنان وبحقوق مواطنيه.

.