فلسطين التاريخ / تاريخ

من روائع أوقاف المسلمين ( 7/10 ) البيمارستانات ( المستشفيات )

 

 

 

 

 

 

من روائع أوقاف المسلمين

 ( 7/10 )

عيسى القدومي

البيمارستانات ( المستشفيات )  

 

 

 

تاريخ الوقف الإسلامي منذ عهد النبوة إلى ما يقرب مئة عام مضت تعددت مجالاته وخدماته ، وكان من أبرزها الرعاية الصحية للمجتمع ، و أول مستشفى في الإسلام أنشئ في عهد الوليد بن عبد الملك ، وكان خاص بالمجذومين وجعل فيه الأطباء، وأجرى لهم الأرزاق ثم تتابع إنشاء المشافي، وقد كانت تعرف باسم البيمارستانات (1) أي دور المرض.

 

المستشفى العضدي في بغداد :

تتابع الوقف الإسلامي لإقامة المستشفيات ، وتعددت مجالات الطبابة فيها ، من أبرزها  المستشفى العضدي في بغداد الذي بناه عضد الدولة بن بويه عام 371هـ، والذي اختار مكانه الطبيب المشهور "الرازي" ، وجمع له من الأطباء أربعة وعشرين طبيباً وألحق به أقسام توفر كل ما يحتاج إليه الطبيب والمريض والدارس من مكتبة علمية وصيدلية ومطابخ ومخازن.

 

مستشفى النوري الكبير في دمشق

أنشأه السلطان الملك العادل نور الدين الشهيد سنة (549هـ- 1154م) من مال أخذه فدية من أحد ملوك الفرنج ، وكان بنائه من أحسن ما بنى من المستشفيات في البلاد كلها شرط فيه أنه على الفقراء والمساكين.

ويعدّ البيمارستان النوري من أشهر الآثار العربية الإسلامية الباقية ليس فقط في مدينة دمشق، بل أيضاً في العالم الإسلامي، حيث مازال يحتفظ بالكثير من عناصره المعمارية والزخرفية والكتابية، ويعدّ مثلاً حياً معبراً عن التقدم العلمي والحضاري للعرب المسلمين. ‏

ويقع وسط مدينة دمشق القديمة، في الشارع المسمى باسمه بمنطقة الحريقة إلى الجنوب الغربي من الجامع الأموي، وجنوب منتصف سوق الحميدية بحوالي مئة متر تقريباً. ‏ ظل بيمارستان النوري عامراً إلى سنة 1317هـ .. وقيل إنه منذ أن عمّر لم تنطفئ فيه النار. ‏,ذاعت شهرته أنه بعد من أوائل الجامعات الطبية في الشرق.

واستمر بدوره حتى أواخر القرن التاسع عشر، إلى أن أنجز بناء مستشفى الوطني (الغربا) سنة 1899م، في عهد الوالي حسين ناظم باشا، أيام السلطان عبد الحميد الثاني، فتحول إلى مدرسة للإناث، ثم إلى ثانوية تجارية (مدرسة التجارة).. وفي عام 1978م أصبح متحفاً للطب والعلوم عند العرب، يضم في قاعاته مجموعة مهمة من الآثار الطبية والصيدلانية والعلمية، التي تبين أهمية العلوم ودور العرب في ابتكارها وتطويرها. ‏

قال خليل بن شاهين الظاهري في كتابه النجوم الزاهرة بعد أن زار دمشق: "وبها بيمارستان لم ير مثله في الدنيا قط.. وحدثت طرفة أحببت أن أذكرها، وهي أني دخلت دمشق 831هـ ـ 1447م، وكان بصحبتي رجل أعجمي من أهل الفضل والذوق واللطافة، وكان قصده الحج في تلك السنة، فلما دخل البيمارستان المذكور، ونظر ما فيه من التحف والمآكل واللطائف التي لا تحصى تمارض، وأقام به ثلاثة أيام، ورئيس الأطباء يتردد إليه، فلما فحصه وعلم حاله، وصف له ما يناسبه من الأطعمة الحسنة والدجاج والفواكه والحلوى والأشربة.. وبعد ثلاثة أيام كتب له الطبيب كلمة جاء فيها: " إن الضيف لا يقيم فوق ثلاثة أيام".. وهذا يوحي بأن الطبيب أدرك أنه متمارض، ومع ذلك فقد عامله كأحد الضيوف، وهذا غاية الحذاقة واللطف. ‏ كان بيمارستان النوري مؤسسة عمرانية، ومحطة إنسانية للناس جميعاً، ووسائل التشخيص والوقاية والعلاج فيه تتحدث ببلاغة عن عظمة حضارتنا.. لذلك كله كان نصباً تذكارياً للعبقرية العربية والاسلامية .

 

المستشفى الصلاحي :

أنشأه السلطان صلاح الدين الأيوبي بعد أن حرر القدس والمسجد الأقصى وأرض فلسطين من القيد الصليبي ، وسمي ( البيمارستان الصلاحي ) ليعيد الحياة إلى القدس ووقف السلطان عليه مواضع وزوده بالأدوية والعقاقير ، حيث كان علم الطب يُدرس فيه إلى جانب ممارسته عملياً (2) .

 

مارستان قلاوون :

والمستشفى المنصوري الكبير والمعروف بمارستان قلاوون ، كان داراً لبعض الأمراء فحولها الملك المنصور سيف الدين قلاوون إلى مستشفى عام ( 683هـ- 1284م ) ، وأوقف عليه ما يغل ألف درهم في كل سنة ، وألحق به مسجداً ومدرسة ومكتباً للأيتام . وكان هذا المستشفى نموذجاً يحتذى في التنظيم والترتيب، جعل الدخول إليه والانتفاع منه مباحاً للجميع من ذكر وأنثى ، وحر وعبد ، وملك ورعية ، وجعل لمن يخرج منه من المرضى عند برئه كسوة ، ومن مات جُهز وكفن ودُفن ، ووظف له من العاملين والخدم لرعاية المرضى وخدمتهم ، وجعل لكل مريض شخصان يقومان بخدمته ، ولكل مريض سريراً وفرشاً كاملاً .. وأدى هذا المستشفى عمله الجليل ، وأخبر بعض الأطباء الذين عملوا فيه أنه كان يعالج في كل يوم من المرضى الداخلين إليه والناقهين والخارجين أربعة آلاف نفس ، ولا يخرج منه كل من يبرأ من مرض حتى يعطى كسوة للباسه ، ودراهم لنفقاته حتى لا يضطر للالتجاء إلى العمل الشاق فور خروجه .

جاء في نص الوقفية لهذا المستشفى العظيم، كما ذكرها مؤلف تاريخ البيمارستانات في الإسلام : " ويصرف الناظر من ريع هذا الوقف ما تدعو حاجة المرضى إليه من مشموم في كل يوم، وزبادي فخار برسم أغذيتهم، وأقداح زجاج وغرار برسم أشربتهم، وكيزان وأباريق فخار، وقصاري فخار، وزيت للوقود عليهم، وبماء من بحر النيل باسم شربهم وأغذيتهم، ... ويصرف الناظر ثمن ذلك من ريع هذا الوقف، في غير إسراف ولا إجحاف، ولا زيادة على ما يحتاج إليه، كل ذلك بحسب ما تدعو الحاجة لزيادة الأجر والثواب ... 

ويصرف الناظر في هذا الوقف لرجلين مسلمين موصوفين بالديانة والأمانة، يكون أحدهما خازناً لمخزن حاصل التفرقة، يتولى تفرقة الأشربة والأكحال والأعشاب والمعاجين والأدهان والشيافات، المأذون له في صرف ذلك من المباشرين، ويكون الآخر أميناً يتسلم صبيحة كل يوم وعشيته أقداح الشراب المختصة بالمرضى والمختلين من الرجال والنساء المقيمين بهذا المارستان، ويفرّق ذلك عليهم ويباشر شرب كل منهم لما وصف له من ذلك ... 

ويصرف الناظر من ريع هذا الوقف لمن ينصبه بهذا المارستان من الأطباء المسلمين الطبائعيين والكحالين والجرائحيين بحسب ما يقتضيه الزمان وحاجة المرضى، وهو مخيَّر في العدة وتقرير الجامكيات ما لم يكن في ذلك حيف ولا شطط، يباشرون المرضى والمختلين الرجال والنساء بهذا المارستان، مجتمعين ومتناوبين باتفاقهم على التناوب، أو بإذن الناظر في التناوب، ويسألون عن أحوالهم وما يتجدد لكل منهم، من زيادة مرض أو نقص، ويكتبون بما يصلح لكل مريض من شراب وغذاء وغيره في دستور ورق ليصرف على حكمه، ويلتزمون المبيت في كل ليلة بالمارستان، مجتمعين أو متناوبين، ويجلس الأطباء الكحالون لمداواة أعين الرمداء بهذا المارستان، ولمداواة من يرد إليهم به من المسلمين بحيث لا يرد أحد من المسلمين الرمداء من مداواة عينية بكرة كل يوم، ويباشرون المداواة ويتلطفون فيها، ويرفقون بالرمداء في ملاطفتهم، وإن كان بينهم من به قروح أو أمراض في عينه تقتضي مراجعة الكحال للطبيب الطبائعي، راجعه وأحضره معه، وباشر معه من غير انفراد عنه، ويراجعه في أحوال برئه وشفائه...

ومن حصل له الشفاء والعافية ممن هو مقيم بهذا البيمارستان المبارك صرف الناظر إليه من ريع هذا الوقف المذكور كسوة مثله على العادة، بحسب الحال من غير زيادة تقتضي التضييق على المرضى والقيام بمصالحهم، كل ذلك على ما يراه الناظر ويؤدي إليه اجتهاده بحسب ما تدعو إليه الحاجة. وعلى الناظر في هذا الوقف أن يراعي تقوى الله سبحانه وتعالى سرّاً وجهراً، ولا يقدم صاحب جاه على ضعيف، ولا قويّاً على من هو أضعف منه، ولا متأهلاً على غريب، بل يقدم في الصرف إليه زيادة الأجور والثواب والتقرب إلى رب الأرباب".

والمستشفيات كانت عامة تفتح أبوابها لمعالجة الجمهور، وبالمجان للجميع ، لا فرق بين غني وفقير ، وبعيد وقريب، وكانت تقسم إلى قسمين قسم للذكور وقسم للإناث ؛ وكان الأطباء يشتغلون بالنوبة ولكل طبيب وقت معين يلازم فيه قاعاته التي يعالج فيها المرض وفي كل مستشفى عدد من الفراشين من الرجال والنساء والممرضين والمساعدين، ولهم رواتب معلومة وافرة وفي كل مستشفى صيدلية كانت تسمى خزانة الشراب وفي المستشفيات معاهد طبية أيضاً، ففي كل مستشفى إيوان كبير (قاعة كبيرة) للمحاضرات؛ وكان هذا هو النظام السائد في مستشفيات العالم الإسلامي خلال أكثر من عشرة قرون سواء كانت في المغرب أم المشرق... في مستشفيات بغداد ودمشق والقاهرة والقدس ومكة والمدينة والمغرب والأندلس (3).

 

مستشفى مراكش :

وهو من مستشفيات المغرب أنشأه المنصور أبو يوسف ، بعد أن اختار له موقعاً مميزاً ذو إطلالة تريح النفس ، وأمر أن تزرع الساحات وأن تكون نوافذ غرف المرضى تطل على تلك البساتين المثمرة من كل ما يشتهيه الأنفس، وأجرى فيها مياهاً ووزع في أرض المشفى البرك ذات الرخام الأبيض ، وجعل لكل مريض ثياب للنهار ولليل ، ولم يقصره على الأغنياء دون الفقراء ، بل كان لكل الناس القريب نمنهم والغريب ...

 

سؤالنا :

كيف كان الرعاية الطبية في أوروبا حينما كانت مستشفياتنا بهذا التخصص والرقي والإنسانية ؟! ألم تكن تتيه في الظلام ؟ ولا تعرف الدقة والنظافة عوضاً عن علوم الطبابة والأدوية ؟!

 

حالة المستشفيات في أوروبا :

يصف المستشرق الألماني " ماكس مايرهوف " حالة المستشفيات في أوروبا في العصر الذي كانت في المشرق الإسلامي على ما سبق ذكره ، قال د. ماكس " إن المستشفيات العربية ونظم الصحة في البلاد الإسلامية لتلقي علينا الآن درساً قاسياً مراً ، لا نقدره حق قدره إلا بعد القيام بمقارنة بسيطة مع مستشفيات أوروبا في ذلك الزمن نفسه ". يقول د . مصطفى السباعي في كتابه من روائع حضارتنا : " حتى القرن الثامن عشر ( 1710م ) والمرضى يعالجون في بيوتهم أو في دور خاصة ، كانت المستشفيات الأوروبية قبلها عبارة عن دور عطف وإحسان ، ومأوى لمن لا مأوى له ، مرضى كانوا أم عاجزين .. إننا كنا أسبق من الغربيين في تنظيم المستشفيات بتسعة قرون على الأقل ، ومستشفياتنا قامت على عاطفة نبيلة لا مثيل لها في التاريخ ولا يعرفها الغربيون حتى اليوم " (4).

 

نوادر الأوقاف للرعاية المرضى :  

ومن نوادر وروائع الأوقاف التي أوقفت لرعاية المرضى وتخفيف آلامهم وقف مؤنس المرضى والذي كان في مدينة طرابلس حيث خصص ريعه لتوظيف اثنين من الممرِّضين يقفان قريبًا من المريض، بحيث يسمعهما ولا يراهما، فيقول أحدهما لصاحبه: ماذا قال الطبيب عن هذا المريض؟ فيردُّ عليه الآخر: إن الطبيب يقول: إنه على خير، فهو مرجو البُرء، ولا يوجد في عِلَّته ما يُقلق أو يزعج، وهذا مما يساعد المريض على النهوض من فراشه للأثر النفسي الذي تتركه تلك الكلمات التي سمعها على المريض !

لا شك أن الوقف الإسلامي كان له دور ريادي في تنمية القدرات العلمية للمجتمع المسلم ، وإسهام بارز في إمداد الحضارة الإسلامية بالعلم والمال والقوة والإبداع والإنسانية ، مما رعى مسيرة الحضارة وديمومتها حتى في أشد الظروف حلكة . وكان له الدور عبر العصور في دعم الأنشطة العلمية والمدارس والجامعات والإنفاق على المخترعين والمبدعين في شتى العلوم، فنبغ من أبناء المسلمين- بسبب ذلك الدعم المتواصل من أموال الوقف- نوابغ في علوم الطب والكيمياء والبصريات وعلوم الفلك والحركة، والصيدلة، وهذا ما يدعونا أن نجتهد في العمل من أجل توفير أوقاف تصرف على البحوث العلمية وإعادة مكانة العلم بين أجيالنا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 



1 - البيمارستان : كلمة فارسية مؤلفة من ( بيمار ) ومعناها المريض أو العليل ، و ( ستان ) معناها النزل أو المكان ، وقد حُرفت مع الزمان فصارت ( مارستان ) و ( مرستان ) , وبعد أن كانت تطلق على المستشفى من أي نوع كان ، راح الناس يطلقوها على مستشفى الأمراض العقلية فقط .

- أوقاف بيت المقدس وأثرها في التنمية الاقتصادية ، مروان أبو الربع ، الدار العثمانية ؛ عمان الأردن ، ط1 / 2005م . 

3 - من روائع حضارتنا ، مصطفى السباعي ، دار الوراق ، بيروت  ط1/2999م .

4 - من روائع حضارتنا ، مصطفى السباعي ،ص 243 ؛ دار الوراق ، بيروت  ط1/1999م

 

 

.