فلسطين التاريخ / أعلام بيت المقدس

نبذة من سيرة: محمد بن قدامة

 

هو الأخ الأكبر للموفق، قال ابن أخته الحافظ ضياء الدين: مولده سنة ثمان وعشرين وخمسمائة بجماعيل، من قضاء نابلس بفلسطين. هاجر به والده وبأخيه الشيخ الموفق وأهلهم إلى دمشق سنة احدى وخمسين، لاستيلاء الفرنج على الأرض المقدسة، فنزلوا بمسجد أبي صالح ظاهر الباب الشرقي، فأقاموا به مدة نحو سنتين ثم انتقلوا إلى الجبل، قال أبو عمر: فقال الناس: الصالحية، الصالحية، ينسبوننا إلى مسجد أبي صلاح، لا إنَّا صالحون قال أبو الفرج الحنبلي – ونقلته من خطه – أنزلهم والدي في مسجد أبي صالح فاستوخم المسجد عليهم، فمات في شهر واحد قريب أربعين نفساً فأشار عليهم والدي بالانتقال إلى الجبل حيث هم الآن، فانتقلوا إليه، وكان رأياً مباركاً.

 

      حفظ الشيخ أبو عمر القرآن وقرأه بحرف أبي عمرو، وسمع الحديث من والده، وأبي المكارم وأبي تميم سلمان ابن الرحبي وعن ثمانية غيرهما من العلماء في الحديث، وقدم مصر فسمع بها من الشريف أبي المفاخر سعيد بن حسن المأموني وأبي محمد بن برى النحوي، وخرج له الحافظ عبد الغني المقدسي أربعين حديثاً من رواياته وحدَّث بها، وسمع منه جماعة، منه الضياء والمنذري، وروى عنه ابن خليل وولده أبو الفرج عبد الرحمن قاضي القضاة وحفظ منه مختصر الخرقي في الفقه، وتفقه في المذهب وقرأ النحو على ابن برى بمصر، وكتب بخطه كثيراً، من ذلك: (الحلية لأبي نعيم) و (تفسير البغوي) و (المغني) في الفقه لأخيه الشيخ موفق الدين والإبانة لابن بطة، وكتب مصاحف كثيرة لأهله، وكتب (الخرقي) للناس والكل بغير أجرة!! وكان سريع الكتابة، وربما كتب في اليوم كراسين بالقطع الكبير!! قال الحافظ الضياء: وكان الله قد جمع له معرفة الفقه والفرائض والنحو مع الزهد والعمل وقضاء حوائج الناس. قال: وكان لا يكاد يسمع دعاء إلا حفظه ودعا به، ولا يسمع ذكر صلاة إلا صلاها ولا يسمع حديثاً إلا عمل به، وكان لا يترك قيام الليل من وقت شبوبيته، وسافر هو وجماعة فقام في الليل يصلي ويحرس الجماعة، وقلل الأكل في مرضه قبل موته حتى عاد كالعود، ومات وهو عاقد على أصابعه يسبح، وحدثت زوجته قالت: كان يقوم الليل فإذا جاءه النوم عنده قضيب يضرب به على رجليه فيذهب عنه النوم، وكان كثير الصيام سفراً وحضراً، قال ولده عبدالله: إنه في آخر عمره سرد الصوم فلامه أهله، فقال: إنما أصوم أغتنم أيامي لأني إن ضعفت عجزت عن الصوم وإن مت انقطع عملي!!. وكان لا يكاد يسمع بجنازة إلا حضرها ولا بمريض إلا عاده، ولا جهاد إلا خرج فيه، وكان يقرأ في الصلاة في كل ليلة سبعاً مرتلاً. ويقرأ في النهار سبعاً بين الظهر والعصر، فإذا صلى الفجر قرأ آيات من القرآن بعد أن يفرغ من التسبيح، ثم يقرأ ويلقن إلى ارتفاع النهار ثم يصلي الضحى صلاة طويلة، وكان يصل بعد أذان الظهر قبل سنتها في كل يوم ركعتين يقرأ في الأولى أول المؤمنون وفي الثانية آخر الفرقان وكان يصلي بين المغرب والعشاء أربع ركعات يقرأ فيهن اسجد ويس وتبارك والدخان، ويصلي كل ليلة جمعة بين العشاءين صلاة التسابيح ويطيلها ويصلي يوم الجمعة ركعتين بمائة (قل هو الله أحد) وكان يصلي في كل يوم وليلة اثنتين وسبعين ركعة نافلة، وله أوراد كثيرة، وكان يزور القبور كل جمعة بعد العصر، ولا ينام إلا على وضوء ويحافظ على سنن وأذكار عند نومه: من التسبيح والتكبير والتحميد وقراءة تبارك وغيرها من القرآن ويقول بين سنة الفجر والفرض أربعين مرة يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت. وكان لا يترك غسل الجمعة، ولا يخرج إلى الجمعة إلا ومعه شيء يتصدق به، وكان يحمل هم أصحابه، ومن سافر منهم تفقد أهله وكان يتفقد الأشياء النافعة مثل النهر والسقاية وغير ذلك مما فيه نفع للمسلمين وكان يؤثر بما عنده لأقاربه وغيرهم، ويتصدق كثيراً ببعض ثيابه، حتى يبقى في الشتاء بجبة بغير قميص، وكثيراً من وقته بغير سراويل، وكانت عمامته قطعة بطانة، فإذا احتاج أحد إلى خرقة أو مات صغير قطع منها له، وكان يلبس الخشن وينام على الحصير، وكان ثوبه إلى نصف ساقه، وكمه إلى رسغه، وربما تصدق بالشيء وأهله محتاجون إليه، ومكث مدة لا يأكل أهل الدير إلا من بيته يجمع الرجال ناحية والنساء ناحية، وكان إذا جاء شيء إلى بيته فرقه على الخاص والعام، وكان يقول: لا علم إلا ما دخل مع صاحبه القبر، ويقول: إذا لم تتصدقوا لا يتصدق أحد عنكم، وإذا لم تعطوا السائل أنتم أعطاه غيركم.

 

      وكان يحب اللبن المصفى بخرقة، فعمل له منه مرة فلم يأكل منه، فقيل له، فقال: تركته لحبي إياه!! ثم لم يأكله بعد ذلك، وكان رحمه الله إذا خطب ترق القلوب ويبكي بعض الناس بكاءاً كثيراً، وكان له هيبة عظيمة في القلوب، حتى كاد أحد الطلبة يريد أن يسأله عن شيء فما يجسر أن يسأله، وإذا دخل المسجد سكتوا وخفضوا أصواتهم، وإذا عبر في طريق والصبيان يلعبون هربوا. وإذا أمر بشيء لا يجسر أحد أن يخالفه.

 

      وكان كثيراً ما يكتب إلى أرباب الولايات شفاعات لمن يقصده، فقال له المتولي يوماً: إنك تكتب لنا في قوم لا نريد أن نقبل فيهم شفاعة ونشتهي أن لا نرد رقعتك!! فقال: أما أنا فقد قضيت حاجة من قصدني وأنتم ان أردتم أن تقبلوا ورقتي وإلا فلا. فقال له: لا نردها أبداً. واحتاج الناس في سنة إلى المطر فطلع معهم إلى مغارة الدم ومع نساء من محارمه واستسقى ودعا الله، فجاء المطر حينئذ وجرت الأودية شيئاً لم يره الناس من مدة. وذكر بعضهم قال: جئنا مرة إلى عنده ونحن ثلاثة أنفس جياع فقدم إلينا سكرجة فيها لبن وكسيرات فأكلنا وشبعنا وأنا أنظر إليها كأنها لم تنقص.

 

        ووصف سبط بن الجوزي قال: كان معتدل القامة حسن الوجه عليه أنوار العبادة لا يزال مبتسماً نحيل الجسم من كثر الصيام والقيام. قال: وكان إذا نزل من الجبل لزيارة القبور –أو غير ذلك- جمع الشيح من الجبل (نوع من النبات ينتفع به) وربطه بحبل وحمله إلى بيوت الأرامل واليتامى، ويحمل في الليل إليهم الدراهم والدقيق ولا يعرفونه، قال: وما نهر أحداً ولا أوجع قلب أحد. وكان يقول: أنا زاهد ولكن في الحرام، ولما نزل صلاح الدين على القدس لفتحها كان هو وأخوه الموفق والجماعة في خيمة فجاء العادل إلى زيارته وهو في الصلاة فما قطعها ولا التفت إليه ولا ترك ورده!!

 

      وكان يصعد المنبر في الجبل وعليه ثوب خام مهدول الجيب، وفي يده عصا والمنبر يومئذ ثلاث مراق، وكان يجاهد في سبيل الله ويحضر الغزوات مع صلاح الدين رحمه الله.

 

      وكان أخوه الموفق يقول عنه: هو شيخنا ربانا وأحسن إلينا وعلمنا وحرص علينا وكان للجماعة كالوالد يقوم بمصالحهم، ومن غاب منهم خلفه في أهله، قال: وكان أبي أحمد قد تخلى عن أمور الدنيا وهمومها فكان المرجع في مصالح الأهل إليه، وهو الذي هاجر بنا وسفرنا إلى بغداد وبنى الدير،  فلما رجعنا من بغداد زوجنا وبنى لنا دوراً خارجة عن الدير وكفانا هموم الدنيا، وكان يؤثرنا ويدع أهله محتاجين!! وبنى المدرسة والمصنع بعلو همته، وكان مجاب الدعوة، وحكى الجمال البصراوي الواعظ قال: قرأت بخط الناصح ابن الحنبلي: كان أبو عمر فقيهاً زاهداً عابداً كتب بخطه كثيراً من كتب الحديث والفقه على مذهب الإمام أحمد، وكتاب المغني لأخيه وكان مع ذلك له أوراد من الصلاة والتلاوة يقوم بها، وحج وغزا وكان شيخ جماعته، مطاعاً فيهم محترماً عند نورالدين محمود بن زنكي وزاره وبنى لهم في الجبل مدرسة وسقاية. وقال غيره: له آثار جميلة منها: مدرسته بالجبل وهي وقف على القرآن والفقه، وقد حفظ القران فيها أمم لا يحصون. وقال عنه أبو المظفر: كان على مذهب السلف الصالح حسن العقيدة متمسكاً بالكتاب والسنة والآثار المروية وغيرها كما جاءت، من غير طعن على أئمة الدين وعلماء المسلمين وينهى عن صحبة المبتدعين ويأمر بصحبة الصالحين.

 

      وكانت وفاته رحمه الله عشية الاثنين ثامن عشر ربيع الأول سنة سبع وستمائة، وقد جمع أهله عند وفاته واستقبل القبلة ووصاهم بتقوى الله ومراقبته، وأمرهم بقراءة يس وكان آخر كلامه: "إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون" [البقرة] ومات عن ثمانين سنة ولم يخلف ديناراً ولا درهماً ولا قليلاً ولا كثيراً!!! رحمه الله رحمة واسعة وسائر أموات المسلمين ورحمنا وإياهم أجمعين.

 

  وقد رثاه الأديب أبو عبدالله محمد بن سعيد المقدسي بقصيدة، منها:

 

تضمنى في بقايا العمر عمران؟

كأنها بعد ذاك الجمع قيعان؟

كأن لم يتل فيها الدهر قرآن؟

إذ كان في كل عين منه إنسان

فصار في كل قلب منه نيران

وكل ميت رآه فهو فرحان

سحائب غيثها عفو وغفران

بالحي ميت، له الأثواب أكفان

 

 أبعد أن فقدت عيني أبا عمر

ما للمساجد منه اليوم مقفرة

ما للمحاريب بعد الأنس موحشة

تبكي عليه عيون الناس قاطبة

وكان في كل قلب منه نور هدى

وكل حي رأينا فهو ذو أسف

لا زال يسقي ضريحاً أنت ساكنه

كم ميت ذكره حي، ومتصف

 

رحمه الله رحمة واسعة ،،

.