فلسطين التاريخ / تاريخ

الأرض المقدسة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام

الأرض المقدسة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام

أيمن الشعبان

الأرض المقدسة المباركة الطيبة بلاد الشام عمومًا وبيتُ المقدسِ وفلسطين خصوصًا؛ شغلت حَيزًا كبيرًا ومَساحةً واسعةً، في اهتمامِ النبي عليه الصَّلاة والسَّلام وسِيرته العطرة، لما لها من المكانةِ العقديةِ الربانية والبُّعد الشَّرعي الإيماني، كلّ ذلك انعكس على أحوالِ تلاميذه من الصحابة الكرام رضوانُ الله عليهم جَميعًا ومَنْ جَاء بعدهم.

المسلم مأمورٌ بالتَّأسي بالنبي عليهِ الصَّلاة والسَّلام بكلِ شيء، وربنا سُبحانه وتعالى يقول:(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[1]، يقول ابن كثير رحمه الله: هذه الآية الكريمة أصلٌ كبيرٌ في التأسي برسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في أقوالهِ وأفعالهِ وأَحوالهِ.

المتأمل في أحوالهِ عليه الصلاة والسلام مع الأرضِ المقدسة، يجدُ اهتمامًا كبيرًا وتَعلقًا عجيبًا وارتباطًا وثيقًا، حتى باتت تلك الأرض المباركة جزءا لا يتجزأ من سِيرته وحياته ومواقفه ومعجزاته وأخباره ووجدانه.

مُهم جدًّا نتعرف على أهميةِ تلك الأرض المقدسة، في حياتهِ عليه الصلاة والسلام، لما لذلك الأمر من الوازع والدافع الكبير لتحمل المسؤولية واستشعارِ حقيقةِ الارتباطِ الإيماني، وإحياءِ روح الولاء الشَّرعي في نفوسِ المسلمين وضرورة الاقتداء بنبيهم عليه الصلاة والسلام في أحواله وتفضيل ما يفضل ومحبة ما يحب.

سَيندرجُ الكَّلام عَن هذهِ القضية المهمة في ارتباطهِ عليه الصَّلاة والسَّلام بتلكَ الأرض المباركة بِعدَّة محاور على النَّحو التَّالي:

عَلاقته عليه الصَّلاة والسَّلام بالأنبياءِ مع تلك الأرض المباركة:

الأرض المقدسة هي أرض الأنبياءِ ومعدنهم ومهد الرسالاتِ ومهبطُ الوَّحي، وهنالك علاقةٌ وثيقةٌ لنبينا عليه الصلاة والسلام بتلكَ الأرض ورابطٌ جميلٌ بشكلٍ عام مع جميع الأنبياء، وخاص مع بعضهم.

عن العرباض بن سَارية رضي اللهُ عنهُ قال: قالَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم : « إنِّي عندَ اللهِ مكتوبٌ خاتمُ النَّبييِّنَ، وإنَّ آدمَ لمنجَدلٌ في طينتِه، وسأخبرُكم بأوَّلِ أمري: دَعوةُ إبراهيمَ، وبِشارةُ عيسَى، ورؤيا أمِّي الَّتي رأَت - حين وضعَتني - وقد خرج لها نورٌ أضاءَت لها منه قصورُ الشَّامِ »[2].
فيهِ إشارةٌ إلى أن النبي عليه الصَّلاة والسَّلام أمره مشهورٌ في الملأ الأعلى قَبل خَلق آدم، وفي الأرض منذ خلق آدم عليه السلام، وكما هو معلوم والراجح من أقوالِ العلماء - منهم ابن حجر والنووي رحمهما الله- أنَّ المسجد الأقصى وُضع وبني بناء تأسيس وابتداء في عهد آدم، بعد المسجد الحرام بأربعين سنة كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه في الصحيحين، فهذا ارتباطٌ وتعلقٌ نبوي بآدم الذي بني في عهده الأقصى.
والحديثُ يُشيرُ إلى أولّ ظُهور نبوته عليه الصلاة والسلام ورفعته وذكره في الدنيا، على لسان أبو الأنبياءِ خَليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، يقولُ علي القاري: وقوله: (دعوة إبراهيم) بالرفع أي: هو دعوة إبراهيم حين بنى الكعبة فقال:(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ)[3] فاستجاب الله دعاءه[4]، وكما هو معلوم إبراهيم عليه السلام أولّ من هاجر في سبيل الله إلى الأرض المقدسة، وأسس مجتمعًا موحدًا وتبعته ذريته بذلك، وهذا قاسم مشترك بين النبيين الكريمين والأرض المقدسة.
وهنالك ارتباطٌ آخر واشتراكٌ بيَّنهُ عليه الصلاة والسلام وعيسى عليه السلام، يقولُ الألباني رحمه الله معقبًا على الحديث سالف الذِّكر: ومعنى هذا أنَّه أراد بدء أمره بين النَّاس واشتهار ذكره وانتشاره، فذكر دعوة إبراهيم الذي تنسب إليه العرب، ثم بشرى عيسى الذي هو خاتم أنبياء بني إسرائيل. يدلُّ هذا على أن من بينهما من الأنبياء بشروا به أيضًا[5].
ورابطٌ مهمٌ آخر هو النُّور الذي خرج من أمه عليه الصلاة والسلام من خلالِ رؤيا قبيل ولادته، والذي أضاءت له قصور الشام، وذلك النور عبارة عن ظهور نبوته ما بين المشرق والمغرب واضمحل بها ظلمة الكفر والضلالة[6].

يقول ابن كثير رحمه الله[7]: وتخصيص الشَّام بظهورِ نورهِ إشارةٌ إلى استقرارِ دينه وثبوته ببلاد الشام، ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلاً للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى ابن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها.

مِن الروابط الجلية والأحداثِ النادرةِ عبر التاريخ؛ إمامته عليه الصلاة والسلام بجميع الأنبياءِ ليلة الإسراء في بيت المقدس على ثرى تلك الأرض المباركة، في إشارةٍ إلى أنه الإمام الأعظم والرئيس المقدم، وأيضًا دلالةٌ واضحةٌ لتولي تلك الأمة قيادة البشرية، وفيها توكيد وتثبيت أهمية ومكانة المسجد الأقصى، والرابط الإيماني الوثيق والعقدي المتين مع شقيقه المسجد الحرام فتأمل.

ذكر عليه الصلاة والسلام معجزة يوسف عليه السَّلام، عندما أضاء جثمانه الطريق لموسى ومن معه من بني إسرائيل، عندما ضلوا الطريق بعد خروجهم من مصر ونجاتهم من فرعون وجنده.

عن أبي موسى الأشعري رَضي اللهُ عنهُ قال: أتى النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم أعرابيٌّ فأكرَمه فقال له ائتِنا فأتاه فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم سَلْ حاجتَك فقال ناقةٌ نرَكَبُها وأعنُزٌ يحلُبُها أهلي فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم أعجَزْتُم أن تكونوا مِثلَ عجوزِ بني إسرائيلَ فقال إنَّ موسى لَمَّا سار ببني إسرائيلَ مِن مِصرَ ضلُّوا الطَّريقَ فقال ما هذا فقال علماؤُهم إنَّ يوسفَ لمَّا حضَره الموتُ أخَذ علينا مَوْثِقًا مِنَ اللهِ ألا نخرُجَ مِن مصرَ حتَّى ننقُلَ عِظامَه معنا قال فمَن يعلَمُ موضِعَ قبرِه قال: عجوزٌ مِن بني إسرائيلَ فبعَث إليها فأتَتْه فقال دُلِّيني على قبرِ يوسُفَ قالت حتَّى تُعْطيَني حُكْمي قال وما حُكْمُكِ قالت أكونُ معك في الجَنَّةِ فكرِهَ أن يُعْطِيَها ذلك فأوحى اللهُ إليه أن أعطِها حُكْمَها فانطلَقَتْ بهم إلى بُحَيرةٍ مَوضعِ مُستنقَعِ ماءٍ فقالتِ انضُبوا هذا الماءَ فأنضَبوه قالتِ احتفِروا واستخرِجوا عِظامَ يوسُفَ فلمَّا أقَلُّوها إلى الأرضِ إذ الطَّريقُ مِثلُ ضوءِ النَّهارِ[8].

كما بيَّن عليه الصلاة والسلام ما حصلَ لموسى عليه السَّلام عند قدوم الملك لقبض روحه، وتمنيه الدفن بأطراف الأرض المقدس رمية بحجر، والإعجاز النبوي في معرفة مكان قبره، حيث يقول: « فلو كنتُ ثَمَّ لأريتُكُم قبرَهُ، إلى جانبِ الطَّريقِ، عندَ الكَثيبِ الأحمَرِ »[9].

حدثٌ مهمٌ وقع لمرَّةٍ واحدةٍ، تغير نظام الكون فيه في تلك الأرض المقدسة، عندما حاصرها نبي الله يوشع عليه السلام وسار لفتح بيت المقدس مع الجيل المؤمن من بني إسرائيل، واحتدمت المعركة وقبيل غروب الشمس يوم الجمعة، ولما تحسم حصلت المعجزة بحبس الشمس عن الغروب إلى ما بعد حدوث النصر.

قال عليه الصلاة والسلام « ما حُبِسَتِ الشمسُ على بَشَرٍ قطُّ، إلا على يُوشَعَ بنِ نُونَ لَيالِي سارَ إلى بَيتِ المَقْدِسِ »[10].

ولحرصه عليه الصلاة والسلام وشدَّة تعلقه بالأرضِ المقدسة، وصف لنا حال النبي الأفضل تعبدًا في بيت المقدس، والذي تميَّز بأفضلِ الصلاةِ والصيام، إذ يقول عليه الصلاة والسلام: « أَحَبُّ الصلاةِ إلى اللهِ صلاةُ داودَ عليهِ السلامُ، وأَحَبُّ الصيامِ إلى اللهِ صيامُ داودَ، وكان ينامُ نصفَ الليلِ ويقومُ ثُلُثَهُ، وينامُ سُدُسَهُ، ويصومُ يومًا ويُفْطِرُ يومًا »[11].
ثم وصف عليه الصلاة والسلام مرحلةً مهمةً من مراحلِ بيت المقدس وتجديده، واعتناء نبي الله سليمان به وهو من أعظم الملوك الذي جابوا الدنيا، فيقول عليه الصلاة والسلام: « إنَّ سليمانَ بنَ داودَ لمَّا بنَى بيتَ المقدِسِ، سألَ اللهَ عزَّ وجلَّ خِلالا ثلاثةً: سألَ اللهَ حُكمًا يُصادِفُ حُكمَه، فَأُوتِيَه، وسألَ اللهَ مُلكًا لا ينبَغي لأحدٍ من بعدِه ، فَأُوتِيَه، وسألَ اللهَ حينَ فرغَ مِن بناءِ المسجدِ أنْ لا يَأْتِيَه أحدٌ لا يَنهَزُه إلا الصَّلاةُ فيهِ، أن يُخرِجَه مِن خطيئَتِه كَيومِ ولدَتْهُ أُمَّه، أمَّا اثْنَتانِ فقَد أُعطِيَهُما، وأَرجو أن يكونَ قد أُعطِيَ الثَّالثةَ »[12].
تعلقٌ كبيرٌ وارتباطٌ عجيبٌ لنبينا عليه الصلاة والسلام بتلك الأرض الطيبة المباركة، حتى وصل بذكره لدقائق الأمور والأحداث والمعجزات التي تقع في أرض فلسطين، منها نزول عيسى عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، حتى يدركَ المسيح الدَّجال في فلسطين فيقتله بمدينة اللد.
يقولُ عليه الصلاة والسلام: فيُدْرِكُه – أي: عيسى عليه السلام - عند بابِ لُدٍّ الشرقيِّ، فيقتلُه - أي المسيح الدجال -، فيَهْزِمُ اللهُ اليهودَ، فلا يَبْقَى شيءٌ مِمَّا خلق اللهُ عَزَّ وجَلَّ يَتَواقَى به يهوديٌّ إلا أنطق الله ذلك الشيء لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة إلا الغرقدة فإنها من شجرهم لا تنطق إلا قال: يا عبد الله المسلم هذا يهودي فتعال اقتله[13].
ارتباطهُ عليهِ الصلاة والسلام بتلك الأرض قبل البعثة وطوال حياته:
المسجد الأقصى خصوصًا وبلاد الشام عمومًا، أخذت حيزًا كبيرًا في وجدان النبي عليه الصلاة والسلام، والمتتبع لمجريات ومراحل حياته عليه الصلاة والسلام يجد ذلك جليًا؛ من خلال أسفاره ومواقفه وبيان الفضائل، بل ومعجزاتهِ وغزواتهِ، حتى لقي ربه عليه الصلاة والسلام.
خروج النبي عليه الصلاة والسلام مع عمه أبي طالب إلى الشام، ولقاءه بالراهب وقوله له: هذا سيد العالمين، هذا رسول ربِّ العالمين، يبعثه الله رحمه للعالمين، وإخباره عن بعض المعجزات وحثهم على الرجوع خوفًا عليه من الروم، وقيل: كان عُمره عليه الصلاة والسلام فيما ذكره بعضهم ثنتا عشرة سنة.
 عن أبي موسى رضي الله عنه قال: خَرج أبو طالب إلى الشَّامِ وخَرج معه النبي صَلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الرَّاهبِ هبطوا فحلوا رحالهم فخرج إليهم الرَّاهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم، قال: فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صَلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم ، قال: هذا سيّد العالمين هذا رسولُ ربِّ العالمين يبعثه الله رحمةً للعالمين، فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبقَّ شَجرٌ ولا حجرٌ إلا خرَّ سَاجدًا ولا يسجدان إلا لنبي وإني أعرفه بخاتم النُّبوة أسفل من غضروف كتفهِ مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعامًا فلما أتاهم به وكان هو في رعية الإبل فقال: أرسلوا إليه، فأقبل وعليهِ غمامةٌ تظله، فلما دنا من القَّومِ وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مَالَ فيء الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مَالَ عليه، فقال: أنشدكم بالله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب، فَلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب[14].
بقيت العلاقة مع بلادِ الشَّام حتى خرج عليه الصلاة والسلام للتجارة في مَالِ خديجة رَضي اللهُ عنهُا مع غلامها ميسرة، وكانت تَسْتَأْجِرُ الرِّجَالَ فِي مَالِهَا وَتُضَارِبُهُمْ إيَّاهُ، بِشَيْءٍ تَجْعَلُهُ لَهُمْ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَوْمًا تُجَّارًا، فَلَمَّا بَلَغَهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم مَا بَلَغَهَا، مِنْ صَدْقِ حَدِيثِهِ، وَعِظَمِ أَمَانَتِهِ، وَكَرَمِ أَخْلاقِهِ، بَعَثَتْ إلَيْهِ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ فِي مَالٍ لَهَا إلَى الشَّامِ تَاجِرًا، وَتُعْطِيهِ أَفَضْلَ مَا كَانَتْ تُعْطِي غَيْرَهُ مِنْ التُّجَّارِ، مَعَ غُلامٍ لَهَا يُقَالُ لَهُ مَيْسَرَةَ، فَقَبِلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم مِنْهَا، وَخَرَجَ فِي مَالِهَا ذَلِكَ، وَخَرَجَ مَعَهُ غُلامُهَا مَيْسَرَةُ حَتَّى قَدِمَ الشَّامَ[15].
ولتثبيت هذه العلاقة وترسيخ الارتباط في أصعبِ الظروفِ وأحلكها؛ كان عليه الصَّلاة والسَّلام وهو في مكة قبل الهجرة، يُصلي إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم يُصَلِّي وَهُوَ بِمَكَّةَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَعْدَ مَا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ صُرِفَ إِلَى الْكَعْبَةِ[16].
وفي أَحرجِ الظروفِ وأصعبِ المواقفِ، تبقى قضية الأرض المباركة حاضرةً في وجدانه عليه الصلاة والسلام مهما ادلهمت الخطوب؛ إذ بُشِّر بفتحِ بلاد الشَّام في غزوةِ الأحزاب وهم يحفرون الخندق.
فعن البراء بن عازب رَضي اللهُ عنهُ قال: (لما كان حين أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم بحفر الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فاشتكينا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم ، فجاءنا فأخذا المعول - أي: الفأس - فقال: باسم الله، فضربها ضربة فكسر ثلثها ) فكان أقوى الناس عليه الصلاة والسلام، قال: ( فكسر ثلثها وقال: الله أكبر! أعطيت مفاتح الشام)، أي: كأن الخريطة التي عليها صورة الشام كانت مخبأة تحت هذا الثلث، فلما كسر النبي الثلث ظهرت الشام، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم: « الله أكبر ! أعطيت مفاتيح الشَّام، والله ! إني لأبصر قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع الثلث الآخر فقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح فارس، والله! إني لأبصر قصر المدائن الأبيض، ثم ضرب الثالثة وقال: باسم الله. فقطع بقية الحجر وقال: الله أكبر ! أعطيت مفاتيح اليمن، والله ! إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة )، وهذا شيءٌ عجيبٌ لا يأتي إلا في غزوة الخندق، ولا أحد يجد لقمة العيش، ومع هذا يُبشر الرسول صَلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم بفتح اليمن، وفارس، والشَّام، قال هذا وهم يحفرون خندقًا مخافة المشركين، وأكثر من هذا أن تيجان هؤلاء الملوك في هذه الأرض - أرض الروم وفارس - يأخذها بعض أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فيضعونها في أيديهم أو في رقابهم أو على رءوسهم تيجانًا يتذكرون بها ما كان في الأيام الخالية السالفة الماضية، أيام كان الواحد منهم يأكل ورق الشجر، فقد سار وصار إلى ما بشر به النبي عليه الصلاة والسلام من أمر هذه الفتوحات[17].
كما بَشَّر عليه الصلاة والسلام أيضًا بفتح بيت المقدس بشكلٍ خاصٍ، كما في حديث عوف بن مالك الأشجعي قال: أتيتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم وهو في بناءٍ له من أدمٍ فسلمتُ عليه فقال لي: يا عوفُ، قلتُ: نعم، قال لي: ادخلْ، قلتُ: كلِّي أو بعضي؟ قال: بل كلَّك ، فقال: يا عوفُ اعددْ ستًّا بين يدَي الساعةِ: أولهنَّ موتي، قال: فاستبكيتُ حتَّى جعل يسكتُني ثمَّ قال: قل إحدَى. قلتُ: إحدَى. قال: والثانيةُ فتحُ بيتِ المقدسِ. قلْ: اثنتينِ. قلتُ: اثنتين... الحديث[18].
مع كل تلك البشارات والفضائل والأخبار عن الأرض المقدسة، إلا أن ذلك لم يكن مجرد إخبار وإعلام، بل كان تأصيلاً وتمهيدًا لمرحلةٍ عمليةٍ تبدأ فصولها في معركة مؤتة سنة 8هـ بأدنى بلقاء الشام، عندما جهَّز عليه الصلاة والسلام أكبر جيشٍ إسلاميٍ في حينها ثلاثة آلاف مقاتل.
وهذه المعركة أكبر لقاء مثخن، وأعظم حربٍ داميةٍ خاضها المسلمون في حياةِ رسول الله صَلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم ، وهي مقدمة وتمهيد لفتوح بلدان النصارى، وقعت في جمادى الأولى سنة 8هـ، وفق أغسطس أو سبتمبر سنة 629م، ومؤتة (بالضم فالسكون) هي قرية بأدنى بلقاء الشام، بينها وبين بيت المقدس مرحلتان[19].
ومن شدَّة اهتمامه عليه الصلاة والسلام ببلاد الشام وحرصه على فتحها؛ شارك بنفسه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، على حدود الجزيرة المقابلة للشام، في مقابلة الروم الذين دبَّ في قلوبهم الرعب وأصابهم الوهن وتفرقوا داخل حدودهم[20].
ولأهميةِ تِلكَ الأرض الطيبة المباركة، كان آخر بعث للنبي عليه الصلاة والسلام هو بعث أسامة بن زيد، إذ جهَّز جيشًا كبيرًا في صفر سنة 11هـ، وذكر ابن هشام رحمه الله في السيرة النبوية باب " بعث أسامة بن زيد إلى أرض فلسطين وهو آخر البعوث" وقال: قال ابن إسحق: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى الشَّامِ، وَأَمَرَهُ أَنَّ يُوطِئَ الْخَيْلَ تُخُومَ الْبَلْقَاءِ وَالدَّارُومِ، مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، فَتَجَهَّزَ النَّاسُ، وَأَوْعَبَ مَعَ أُسَامَةَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ[21].
فَضائلٌ وتَوصيفات.. أحوالٌ ومعجزات:
لم ينتهِ حُضور الأرض المقدسة في حياتهِ عليه الصَّلاة والسَّلام واهتمامهِ بها وتعلقه، بأحداثٍ مجردةٍ أو مواقف من السِّيرة، بل بقيت حاضرةً في مجالسهِ مع الصَّحابةِ وحلقاتهم الحوارية ولقاءاتهم النِّقاشية، بل والفضائل المتنوعة بأساليب مختلفة لتلك الأرض، حتى ذهب أبعد من ذلك عليه الصَّلاة والسَّلام من خلالِ بيانِ ما يحصل في آخرِ الزَّمان من ملاحمٍ وأحداثٍ عِظام في تلك الأرض، وتوصيفاتٍ دقيقةٍ لما يكون عليه الناس في بعض المراحل.
الجلسة الحوارية للمسجد الأقصى بين النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام، تُشير لأهمية تلك القضية وحضورها في حياته عليه الصلاة والسلام، فعن أبي ذر رَضي اللهُ عنهُ قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم أيهما أفضل: مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم أو مسجد بيت المقدس؟ ... الحديث[22].
في حديثِ أبي ذر رَضي اللهُ عنهُ يبيَّنُ عليه الصلاة والسلام إعجاز قد تحقق في هذا الزمان، وفيه إشارة لتنوع الاهتمام والخطاب وتعدد الإخبار والإعلام إذ يقول عليه الصلاة والسلام: وليوشكنَّ أن يكون للرجل مثل شطن (هو الحبل) فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خيرٌ له من الدُّنيا جَميعًا أو قَال: خَيرٌ من الدُّنيا وما فَيها.[23]
وقد تَحقق هذا الخبر إذ أن أكثر المسلمين اليوم لا يستطيعون الصلاة في المسجد الأقصى، بل كثير من أهل فلسطين مُضيَّقٌ عليهم ولا يقدر أهل غزة أو الضفة الوصول بسهولة، بل أهل بيت المقدس عليهم قيودٌ صارمةٌ وشروطٌ ثقيلةٌ لدخوله والله المستعان.
وحديثُ شَدّ الرِّحال يدلُّ على الاهتمامِ الكبيرِ الذَّي أَولاه صَلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم للأقصى المبارك، وربط قيمته وبركته مع قيمة وبركة هذين المسجدين الشريفين، ليبقى هذا الشرف والفضل حاضرًا في أذهانِ وقلوبِ وعقولِ المسلمينَ لكلا المسجدين، يدافعون عنهما بكل ما أُوتوا من قوَّة.
من الأمور التي تُشير لهذا الاهتمام البالغ؛ طريقة السؤال عن بيت المقدس وأسلوب الجواب، فعن ميمونة بنت سعد مولاة النبي عليه الصلاة والسلام قالت: يا رسولَ اللَّهِ أفتِنا في بيتِ المقدسِ؟ قالَ: أرضُ المحشَرِ والمنشَرِ[24].
يُشير الحديث إلى أنَّ نهاية الحياة في العالم تكون في بيت المقدس، في دلالةٍ على حيوية وأهميةِ تلك الأرض منذ بدايةِ الخليقة إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها، وهذا لم نكن لنتعرف عليه لولا إخباره عليه الصلاة والسلام وحضور تلك الأرض الكبير في حياته فتأمل.
إخباره عليه الصلاة والسلام بما يؤول إليه أحوال المسلمين، من ضَعف الإيمان وقلَِّة الدِّين، وتخصيص بلاد الشام باجتماع أهل الإيمانِ والصَّلاح فيها، لدلالة قوية على الاستحضار الكامل في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، وتوصيف دقيق لمختلف الفترات والأزمان، وإبراز الصور المشرقة والجوانب النيرة لتلك الأرض في أوقات الأزمات والفتن !
قال عليهِ الصَّلاة والسَّلام: "ستجندون أجنادًا جندًا بالشَّام وجندًا بالعراقِ وجندًا باليمن، قال عبد الله فقمت فقلت: خر لي يا رسول الله، فقالعليكم بالشام فمن أبى فليلحق بيمنه وليستق من غدره، فإنَّ الله عزَّ وجل قد تكفل لي بالشام وأهله[25].
ويقول عليه الصلاة والسلام: أني رأيت كأن عمود الكتاب اُنتزع من تحت وسادتي، فأتبعته بصري، فإذا هو نورٌ ساطعٌ ، عمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام[26].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وَلَفْظُ الْخَبَرِ فِي عَمُودِ الْكِتَابِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ رَأَى عَمُودَ الْفُسْطَاطِ فِي مَنَامِهِ فَإِنَّهُ يُعْبَرُ بِنَحْوِ مَا وَقَعَ فِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ بِالتَّعْبِيرِ قَالُوا مَنْ رَأَى فِي مَنَامِهِ عَمُودًا فَإِنَّهُ يُعْبَرُ بِالدِّينِ أَوْ بِرَجُلٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِيهِ وَفَسَّرُوا الْعَمُودَ بِالدِّينِ وَالسُّلْطَانِ وَأَمَّا الْفُسْطَاطُ فَقَالُوا مَنْ رَأَى أَنَّهُ ضُرِبَ عَلَيْهِ فُسْطَاطٌ فَإِنَّهُ يَنَالُ سُلْطَانًا بِقَدْرِهِ أَوْ يُخَاصِمُ مَلِكًا فَيَظْفَرُ بِهِ[27].
بل ذهبَ عليهِ الصَّلاة والسَّلام أبعد من ذلك، في إشارةٍ كبيرةٍ وتعلقٌ متينٌ وارتباطٌ وثيقٌ عندما جعل مقياسَ صلاحِ وفساد الأمة بصلاحِ وفسادِ أهل الشام، يقول عليه الصلاة والسلام: «إذا فسد أهل الشام فلا خَير فيكم ولا تزال طائفةٌ من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة»[28].
وغيرها من الفضائلِ والتوصيفاتِ والأحوالِ، التي ذكرها عليه الصلاة والسلام للمسجد الأقصى خصوصًا وبلادِ الشام عمومًا، في إشارةٍ واضحةٍ ودلالةٍ قويةٍ على الاهتمامِ الكبيرِ طِيلةَ حياتهِ عليهِ الصَّلاة والسَّلام، بل امتَدَّ هذا التَّعلق ليشمل مراحل ما بعد وفاته، بل أبعد من ذلك إلى نهايةِ العالم من خِلالِ بيان دقائق الأمور وتفاصيل الأحداث التي ستقع في آخرِ الزمان.
العدد (20) سلسلة بيت المقدس للدراسات
------------------------

-[1] ( الأحزاب:21 ).

-[2] صححه الألباني، مشكاة المصابيح حديث رقم 5759.

-[3] (البقرة: 129).

-[4] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح(10/440).

-[5] صحيح السيرة النبوية ص53.

-[6] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح(10/440).

-[7] تفسير ابن كثير(1/444).

-[8] السلسلة الصحيحة حديث رقم 313.

-[9] متفق عليه.

-[10] السلسلة الصحيحة حديث رقم 2226.

-[11] متفق عليه.

-[12] صحيح الجامع حديث رقم 2090.

-[13] صحيح الجامع حديث رقم 7875.

-[14] مشكاة المصابيح برقم 5918.

-[15] سيرة ابن هشام (1/188).

-[16] أخرجه أحمد بسند صحيح، وصححه الألباني في الثمر المستطاب ص836.

-[17] الأرض المقدسة في ضوء الكتاب والسنة، أبو الأشبال حسن الزهيري، سلسلة دروس صوتية مفرغة/ الدرس الثاني.

-[18] صحيح البخاري.

-[19] الرحيق المختوم ص355.

-[20] ينظر الرحيق المختوم ( 394-403).

-[21] السيرة النبوية لابن هشام (2/641-642).

-[22] السلسلة الصحيحة حديث رقم 2902.

-[23] الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب (2/548).

-[24] تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق للألباني ص14.

-[25] صححه الألباني في فضائل الشام ودمشق ص80.

-[26] صحيح الترغيب حديث رقم 3092.

-[27] فتح الباري (12/403).

-[28] صحيح الجامع حديث رقم 702.

.