فلسطين التاريخ / تاريخ
هل لليهود تراث عريق في القدس وفلسطين؟!
هل لليهود تراث عريق في القدس وفلسطين؟!
د.عيسى القدومي
13-1-2014
تكرر مزاعم اليهود بين فترة وأخرى في أن هذا المسجد، وهذا القبر، وهذه الأرض، وهذا البيت مقدس عند اليهود، وجزء من عقيدتهم، ويوجهون أتباعهم لممارسة طقوسهم عند هذا المقدس الجديد المكتشف حديثاً من دون تاريخ، ولا إثبات، ولا عقيدة.
ويبدأ مسلسل المصادرة والاستيلاء والترميم وتوسيع الشوارع وهدم المنازل المجاورة وممارسة الإرهاب والتشريد وتثبيت اللوحات الإرشادية باللغة العبرية، ليصبح وكأن هذا الموقع له تاريخ عريق!
فقد تم تغيير الكثير من معالم في القدس، ولم تسلم من ذلك حتى قبور المسلمين، وكتبوا عليها كتابات عبرية، فبعضها زعموا أنه ضريح (شمشوم الجبار)، وآخر قبر (الصديق دان بن يعقوب)، وقبر النبي (الياهو) حسب زعمهم! وذلك بقصد محو الآثار التاريخية للمسلمين في أرض فلسطين.
وسأجمل الرد على تلك الشبهة الواهية والتي طالما ذكرت وكررت في خطابات اليهود ومزاعمهم بالآتي:
1- ما زال اليهود يشعرون في قرارة نفوسهم بعقدة النقص، فالجوع لدى اليهود في إثبات علاقتهم بفلسطين، وشعورهم بأنهم غرباء دفعهم لصناعة تاريخ وثقافة وحضارة لهم على أرض فلسطين وما حولها، وادعاء ذلك التاريخ والتراث للأجيال اليهودية القادمة!!
فالسطو على التراث الفلسطيني هو جزء من السطو على أرض فلسطين، التاريخ يُسرق، ويتم الاستحواذ عليه قطعة قطعة، حجراً حجراً، زاعمون أن لهم تاريخاً عريقاً؛ لكونهم بلا تاريخ، أرادوا أن يصنعوا تاريخاً وراء الزجاج في متاحفهم، تأكيداً لسطوتهم وقدرتهم على حبس تاريخ لم يكن لهم شرف الإسهام في صنعه وإبداعه، تاريخ سطرته قصص أنبياء الله -تعالى- الذين جاؤوا بدعوة التوحيد، وأكمله الفتح الإسلامي، ومدافعة المسلمين على مر السنين لكل غاصب لأرض فلسطين...
2- بعد أن ادعوا المقدسات في القدس وأرض فلسطين، وأنها يهودية التاريخ، وأن المسلمين دخلاء على تلك الأرض وتلك المقدسات، انتقلوا لمرحلة أخرى وهي: الادعاء بالتراث اليهودي الأصيل في القدس وأرض فلسطين، وبالكشف عنه تجده تراثاً عربيّاً إسلاميّاً يسوق للعالم على أنه يهودي الماضي والحاضر، وأوهموا العالم بأنهم أصحاب حضارة وتراث لا ينافس.
فكتبهم عن التراث تصف اللباس اليهودي الأصيل، وإذا به الدماية -الدشداشة الفلسطينية-، والثوب النسائي المطرز سلبوه ليلبسوه مضيفات شركة العال اليهودية للطيران، وإذا بالأكلات اليهودية هي الأكلات الفلسطينية الشعبية نفسها، وزيارة معرض واحد من معارض اليهود والتي تقام في الدول الغربية يعقد اللسان عن الكلام! كما وصفه أحد الصحفيين العرب، والذي تزامن وجوده مع إقامة معرض هناك، ويقول بأن ركنا من أركان المعرض يجعلك تقف مذهولاً من وقاحة وكذب اليهود، فزاوية المأكولات اليهوديـة تقدم «الفلافل» للزوار على أنها أكلة يهودية عريقة! ومأكولات أخرى كاللبنة والزيتون والزعتر والسلطات، والملابس المعروضة هي ملابس فلسطينية أصيلة، وكأنك في معرض للتراث الفلسطيني! والغريب أن تتناقل وسائل الإعلام الغربية ذلك التراث على أنه تراث يهودي عريق!!
3- سابقاً قال ثيودور هرتزل في كتابه «الدولة اليهودية»([1]): «علينا أن نمتلك الوطن اليهودي الجديد، مستخدمين كل ذريعة حديثة، وبأسلوب لم يعرفه التاريخ حتى الآن، وبإمكانات نجاح لم يحدث مثلها من قبل»([2]).
وبعده صرحت (غولدا مائير) -رئيسة وزراء للكيان اليهودي- بأنه: «ليس هناك من شعب فلسطيني.. وليس الأمر كما لو أننا جئنا لنطردهم من ديارهم والاستيلاء على بلادهم، إنهم لا وجود لهم»([3]).
ففي نظرهم وواقعهم أن شعب فلسطين وتاريخه وتراثه ليس فقط غير مرئي بل لا وجود له؛ حيث كشفت صحيفة هارتس اليهودية ضمن تقرير مفصل حول الاعتداءات اليهودية على المساجد والمقابر: «أن اليهود المتدينين حولوا العديد من مقابر المسلمين إلى مزارات لليهود بعد أن كتبوا على جدرانها كتابات باللغة العبرية، والغريب في الأمر أنه منذ حوالي (200) سنة يوجد قبر على مقربة من مدينة يافا، يقال أنه لشيخ فلسطيني يُدعى: الغرباوي، ظهرت قبل فترة وجيزة على جدرانه الداخلية والخارجية كتابات باللغة العبرية تقول: أن هذا هو ضريح لقديس يهودي يدعى: (منتياهو بن يوحنان) -الكاهن الذي قاد التمرد اليهودي ضد اليونانيين-، وأصبح هذا الضريح مزاراً لليهود المتدينين؛ يقيمون الصلوات عليه، ويضيؤون الشموع، ويمسحون كل أثر مسلم عليه».
4- ومن الأمثلة الحية على محاولتهم طمس تراث وتاريخ أهل فلسطين: حربهم على كل ما يتعلق بالتراث الفلسطيني؛ حتى وصل إلى الكوفية الفلسطينية ذات اللونين الأبيض والأسود! فلم يعجب الصهاينة أن تلقى الكوفية هذا الانتشار، وأن تصبح خريطة لفلسطين المذبوحة على كل جدار؛ لذا سارعوا بصنع كوفية يهودية أنتجوها وأغرقوا بها الأسواق؛ لعلها تنسي رسم الكوفية الأصيلة التي عبرت عن القضية الفلسطينية بكل تعقيداتها، وشكلت خيوطها نسيج الذاكرة، وكأنها الخارطة التي لم يتغير اسمها ورسمها مع كل الأحداث التي بقيت صامدة أمام كل زيف الدعاية الصهيونية، ومحاولة السلب والتزييف.
ومحاولاتهم لا تنتهي لسرقة التراث الفلسطيني، فبعد أن سرقوا الزي الفلسطيني، والتراث الشعبي، والأمثال الفلسطينية التي قالت أن أصلها يهودي، ووزعت الأكلات الشعبية الفلسطينية على أنها أكلات شعبية يهودية، بل إن المكسرات، والزيتون، والتمر الفلسطيني والعربي أصبحت توزع باعتبارها منتجاً وطنيّاً للكيان اليهودي!
فهم لا يريدون أن يتركوا لنا شيئاً بممارسات واعتداءات لخصها (عاموس إيلون) بقوله: «الإسرائيليون أصبحوا غير قادرين على ترديد الحجج البسيطة المصقولة، وأنصاف الحقائق المتناسقة التي كان يسوقها الجيل السابق»([4]).
5- قد عبَّر الشاعر اليهودي إيلي إيلون عن هذه القضية بقوله: «إن البعث التاريخي للشعب اليهودي، وأي شيء يقيمه الإسرائيليون مهما كان جميلاً إنما يقوم على ظلم الأمة الأخرى، ولسوف يخرج شباب إسرائيلي ليحارب ويموت من أجل شيء قائم أساساً على الظلم، إن هذا الشك، هذا الشك وحده يشكل أساساً صعباً للحياة»([5]).
وهذا ما أرادته المؤسسة اليهودية ليقولوا للعالم مضللين أن تاريخ شتات اليهودي موجود في جوانب المسجد الأقصى وتحته، بتزوير كل ما هو إسلامي وعربي في القدس؛ لإيجاد تاريخ لليهود على أنقاض الحفريات والتحريف على حساب الحضارة الإسلامية، فلم تبق خربة ولا معلم أثري إلا وعاث فيها لصوص الأرض والتاريخ خراباً وتدميراً، ولم تبقى حارة أو زاوية في القدس إلا وتعرضت لهذه الحفريات، وعندما يجدون أي آثار إسلامية -وما أكثرها- فإن مصيرها الإهمال والضياع والتدمير، ولا يتم توثيقها.
ومن أساليب بلدية القدس اليهودية الخبيثة في التحريف والتزوير: أنهم قاموا بعد إزالة وطمس آثار القرى العربية؛ بنقل حجارتها واستخدامها في بناء المغتصبات اليهودية، فهم يتجنبون البناء بالأسمنت المسلح لكي يخيل للزائر أن هذا السور وهذا البيت بني من قبل مئات السنين؛ لصنع تاريخ يهودي مزور، كما فعلوا في السابق بتحويل حارة المغاربة وحارة الشرف إلى حارة يهودية أسموها: الحي اليهودي، وبعض مساجد القدس القديمة التي حولوها إلى كنس، بعد أن غيروا المعالم وأزالوا كل ما يثبت أنه مسجد للمسلمين.
6- هذه ممارسات -طمس تراث وتاريخ أهل فلسطين- أكدها موشى دايان سنة (1969م) حين خطب في معهد التخنيون في حيفا قائلاً لمن عارضه من اليهود على سياساته الاستعمارية: «لقد جئنا إلى هذا البلد الذي كان العرب توطنوا فيه، ونحن نبني دولة يهودية.. لقد أقيمت القرى اليهودية مكان القرى العربية، أنتم لا تعرفون حتى أسماء هذه القرى العربية، وأنا لا ألومكم؛ لأن كتب الجغرافيا لم تعد موجودة، وليست كتب الجغرافيا هي وحدها التي لم تعد موجودة، بل القرى العربية نفسها زالت أيضاً.. وما من موضع بني في هذا البلد إلا وكان أصلا لسكان عرب»([6]).
7- ذكر الباحث اليهودي (شلومو ساند) في كتابه «اختراع الشعب اليهودي» أن مقاصد إعادة كتابة الماضي (اليهودي) تمت على يد كتّاب أكفاء، خلطوا شظايا الذاكرة بالخيال.
ويضيف: «وقد أسهمت في هذا على وجه الخصوص الدراسات الأكاديمية عن الماضي اليهودي؛ والتي أنتجتها الجامعات اليهودية في فلسطين، ومن ثم في إسرائيل، وكذلك معاهد الدراسات اليهودية التي انتشرت في أنحاء العالم الغربي المختلفة، علاوة على عوامل أخرى»([7]).
وتساءل (ساند) فيما لو أن اليهود في العالم كانوا حقّاً «شعباً»، فما هو الشيء المشترك في مكونات الثقافة (الإثنوغرافية) ليهودي في كييف([8])، ويهودي في المغرب غير الاعتقاد الديني وبعض الممارسات الدينية؟
8- شهادات حق خرجت من أفواه الصهاينة حينما وجدوا أن المادة البشرية الفلسطينية ليست بدائية أو متخلفة؛ كما كان الصهاينة يروجون؛ وإنما هي متقدمة وقادرة على اكتساب المهارات اللازمة للاستمرار في العصر الحديث، وتحت ظروف القمع والقهر.
وقد رد على مزاعم اليهود وأتباعهم المؤرخ البريطاني أرنولد ج. تويني في مقدمة كتاب «تهويد فلسطين» حينما كتب الآتي: «من أشد المعالم غرابة في النزاع حول فلسطين هو: أن تنشأ الضرورة للتدليل على حجة العرب ودعواهم»([9]).
والخلاصة: أن لليهود في تلك الادعاءات والافتراءات نوايا ومخططات حقيقية، والتي حاولوا فيها التخلص من عقدة النقص التي يعاني منها سادة وقادة اليهود بانعدام أماكنهم المقدسة في القدس، وإيجاد تاريخ وثقافة وحضارة لهم على أرض فلسطين وحولها، وادعاء ذلك التاريخ للأجيال اليهودية القادمة، وربط اليهود بأرض فلسطين ومدنها بمزاعم واكتشافات وادعاءات مبتدعة، ليس لها أصول في كتبهم ولا تاريخهم ولا تراثهم، وتأمين منافع لليهود بالاستيلاء على المساجد والمقابر والأراضي، وتبرير الوجود اليهودي في القدس وأرض فلسطين، وطمس المعالم الإسلامية والتاريخية والحضارية والثقافية والعربية لمدن فلسطين؛ ومدينة القدس على وجه الخصوص.
وتسعى من جهة أخرى لإيهام الآخرين بتجذر الهوية اليهودية في البلاد؛ عبر انتحال التراث الشعبي العربي، وتقديمه على أنه تراث يهودي.
وتسعى من جهة ثانية إلى توظيف معرفتها بشؤون الفولكلور العربي في صياغة التقييم الإجمالي للعرب من ناحية الشخصية والتاريخ والحضارة والواقع.