فلسطين التاريخ / أعلام بيت المقدس

نبذة من سيرة الموفق بن قدامة رحمه الله .

      هو الإمام الزاهد المجاهد شيخ الإسلام وأحد الأعلام، موفق الدين أبو محمد (عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر بن عبدالله بن حذيفة بن محمد بن يعقوب بن القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن يحيى بن محمد بن سالم بن الصحابي الجليل عبدالله بن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب العدوي القرشي رضوان الله عليه.

      ولد ببلدة جماعيل من أعمال نابلس بفلسطين في شعبان سنة 541هـ ولما كان في الثامنة من عمره أي سنة 549هـ استولى الصليبيون على البلاد المباركة، وكانت قبل ذلك في حكم الظافر العبيدي الفاطمي، فهاجر والد الموفق بأسرته إلى دمشق حوالي سنة 551هـ ونزلوا في مسجد أبي صالح ظاهر الباب الشرقي، ثم انتقلوا بعد سنتين إلى سفح قاسيون من صالحية دمشق، وكان الموفق في خلال هذه المدة مشتغلاً بحفظ القرآن ومبادئ العلوم ومتون المذهب ومنها مختصر الخرقي، ومن لزمه في الدراسة يومئذ ابن خالته الحافظ تقي الدين عبدالغني بن عبدالواحد الجماعيلي (541-600) وأخوه عماد الدين ابراهيم بن عبد الواحد (543-614) وكان أخو الموفق الشيخ أبو عمر (528-607) أكبر منهم، أما رأس الأسرة فهو الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن قدامة – والد الموفق وأبي عمر من أهل العلم والصلاح، وكان قبل هجرته إلى دمشق خطيب جماعيل وعالمها وزاهرها وهو المعلم الأول للشيخ الموفق وأخيه قبله وابني خالتهما الحافظ عبد الغني وأخيه العماد ابراهيم وسائر أشبال هذا البيت الطيب.

      ثم قام الموفق برحلة علمية إلى بغداد بعد ما أتم عشرين سنة، وتتلمذ على يد علمائها الأجلاء، وكان يصحبه ابن خالته الشيخ عبدالغني وكانا في سن واحدة، ومكث في بغداد يتلقى العلم عن علمائها أربع سنين، ثم حج سنة 574هـ والتقى بعلماء مكة المكرمة وفقهائها وأخذ عنهم، وأخيراً استقر في دمشق وعكف على التصنيف والتدريس، وقد تفقه على يديه خلق كثير، واشتغل بتصنيف كتبه، فقام بالشرح الكبير (المغني على مختصر الخرقي، ذلك الشرح الحافل الذي جاءت منه دائرة معارف في الفقه الإسلامي، بل هو أكبر موسوعة في الفقه في العالم الإسلامي كله، تنتفع الأجيال من نصوصه ودقائقه إلى يوم القيامة، كما ألف غيره حوالي ثلاثين كتاباً ورسالة ومسألة ورداً شملت مختلف العلوم وكان مجلسه عامراً دائماً بالفقهاء والمحدثين وطلبة العلم وأهل الخير، وكان – مع هذا ومع مواصلته التأليف – يقرأ في كل يوم وليلة سبع القرآن. وكان من عادته بعد أن يؤم الناس بالفرائض في المسجد أن لا يصلي السنة غالباً إلا في بيته اتباعاً للسنة وكلما كان الزمن يتقدم به كان يزداد من الله علماً وفضلاً وصلاحاً وحياءً ومكارم أخلاق وزهداً في الدنيا ومظاهرها حتى صار يعد من كبار أئمة المسلمين في العبادة والتقوى والفقه والحديث وأصول الدين وعلوم العربية والفرائض والحساب والمواقيت.

      قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية: ما دخل الشام بعد الأوزاعي أفقه من الشيخ الموفق. وقال المؤرخ شمس الدين يوسف بن سبط الجوزي (581-654) في كتابه مرآة الزمان: كان الموفق إماماً في فنون، ولم يكن في زمانه –بعد أخيه أبي عمر والعماد- أزهد ولا أورع منه، وكان كثير الحياء، عزوفاً عن الدنيا وأهلها هيناً ليناً متواضعاً محباً للمساكين حسن الأخلاق جواداً سخياً من رآه كأنه رأى بعض الصحابة، وكأنما النور يخرج من وجهه، كثير العبادة، يقرأ في كل يوم وليلة سبعاً من القرآن، ولا يصلي ركعتي السنة في الغالب إلا في بيته اتباعاً للسنة.

      وقال أيضاً: شاهدت من الشيخ أبي عمر وأخيه الموفق ونسيبه العماد ما نرويه عن الصحابة والأولياء والأفراد فأنساني حالهم أهلي وأوطاني ثم عدت إليهم على نية الإقامة عسى أن أكون معهم في دار المقامة.

      ووصفه محب الدين محمد بن محمود بن النجار (578-643) في الذيل على تاريخ بغداد فقال: كان الشيخ موفق الدين إمام الحنابلة بالجامع، وكان ثقة حجة نبيلاً غزير الفضل كامل العقل شديد التثبت، دائم السكوت، حسن السمتِ، نزيهاً ورعاً عابداً على قانون السلف، على وجهه النور، وعليه الوقار والهيبة، ينتفع الرجل برؤيته قبل أن يسمع كلامه.

      وقال مؤرخ الدولة الصلاحية شهاب الدين أبو القاسم عبدالرحمن بن إسماعيل بن شامة المقدسي الدمشقي (596-665) – وكان ممن حضر دروسه وسمع منه- : كان شيخ الحنابلة موفق الدين إماماً من أئمة المسلمين، وعلماً من أعلام الدين في العلم والعمل... جاءه مرةً الملك العزيز بن العادل يزوره، فصادفه يصلي، فجلس بالقرب منه إلى أن فرغ من صلاته ثم اجتمع به، ولم يتجوز في صلاته!!! وكان إذا فرغ من صلاة العشاء الآخرة يمضي إلى بيته بالرصيف ومعه من فقراء الحلقة من قدره الله تعالى فيقدم لهم ما تيسر يأكلونه معه.

      وقال صاحب المختارة الحافظ الكبير ضياء الدين أبو عبدالله محمد بن عبدالواحد السعدي المقدسي (596-643) وهو ابن أخت الإمام الموفق: كان الموفق رحمه الله إماماً في القرآن وتفسيره، إماماً في علم الحديث ومشكلاته، إماماً في الفقه، بل أوحد زمانه فيه،إماماً في علم الخلاف، إماماً في الفرائض، إماماً في أصول الفقه، إماماً في النحو، إماماً في الحساب، إماماً في النجوم السيارة والمنازل، ولما قدم بغداد قال له الشيخ أبو الفتح ابن المنى: اسكن هنا فإن بغداد مفتقرة إليك وأنت تخرج من بغداد ولا تخلف فيها مثلك!! قال: وكان شيخنا العماد (543-614) يعظم الشيخ الموفق تعظيماً كثيراً ويدعو له، ويقعد بين يديه كما يقعد المتعلم من العالم وقال عمر بن الحاجب الحافظ في معجمه: هو إمام الأئمة ومفتي الأمة، خصه الله بالفضل الوافر والخاطر العاطر والعلم الكامل، طنت بذكره الأمصار وضنت بمثله الأعصار قد أخذ بمجامع الحقائق النقلية والعقلية، فأما الحديث فهو سابق فرسانه، وأما الفقه فهو فارس ميدانه، أعرف الناس بالفتيا وله المؤلفات الغزيرة، وما أظن الزمان يسمح بمثله متواضع عند الخاصة والعامة، حسن الاعتقاد، ذو أناة وحلم ووقار، وكان مجلسه عامراً بالفقهاء والمحدثين وأهل الخير، وصار في آخرعمره يقصده كل أحد، وكان كثير العبادة دائم التهجد، لم ير مثله، ولم ير مثل نفسه!!!

      وقال الحافظ الكبير ضياء الدين أبو عبدالله محمد بن عبد الواحد السعدي المقدسي ابن اخت الموفق: وسمعت الامام المفتي شيخنا أبا بكر محمد بن معالي بن غنيمة يقول: ما أعرف أحداً في زماني أدرك درجة الاجتهاد إلا الموفق!! وسمعت عمر بن الصلاح يقول: ما رأيت مثل الشيخ الموفق!! وقال الشيخ عبدالله اليونيني (535-617) ما أعتقد أن شخصاً ممن رأيته حصل له من الكمال في العلوم والصفات الحميدة التي يحصل بها الكمال سواه، فإنه رحمه الله كان كاملاً في صورته ومعناه من الحسن والاحسان والحلم والسؤدد والعلوم المختلفة والأخلاق الجميلة والأمور التي ما رأيتها كملت في غيره.

      وكان الشيخ الموفق يعقد يوم الجمعة حلقة في جامع بني أمية بدمشق يناظر فيها بعد الصلاة في كل مسائل العلم ومشاكله، ثم ترك ذلك في آخر عمره، قالوا: وكان لا يناظر أحداً إلا وهو يبتسم، حتى قال بعض الناس: هذا الشيخ يقتل خصمه بتبسمه!!

      وكان في مناظراته يجعل النصوص الشرعية هي الحكم بينه وبين مناظريه ولا يدخل معهم في جدل أهل الكلام والمراء. قال الحافظ بن رجب في ترجمة الموفق بكتابه: الذيل على طبقات الحنابلة: ولم يكن يرى الخوض مع المتكلمين في دقائق الكلام ولو كان بالرد عليهم. وكان كثير المتابعة للمنقول في باب الأصول وغيرها، لا يرى إطلاق ما لم يؤثر من العبارات، ويأمر بالإقرار والإمرار لما جاء في الكتاب والسنة من الصفات الإلهية من غير تفسير ولا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تأويل ولا تعطيل.

      وجاء في شذرات الذهب: وكان مع تبحره في العلوم ويقينه ورعاً زاهداً تقياً ربانياً عليه هيبة ووقار، وفيه حلم وتؤده، وأوقاته مستغرقة للعلم والعمل، وكان يفحم الخصوم بالحجج والبراهين، ولا يتحرج ولا ينزعج، وخصمه يصيح ويحترق!! قال الحافظ: كان تام القامة، أبيض مشرق الوجه، أدعج العينين، كأن النور يخرج من وجهه لحسنه، واسع الجبين، طويل اللحية، قائم الانف، مقرون الحاجبين، لطيف البدن نحيف الجسم.

جهاده رحمه الله مع صلاح الدين في سبيل الله

      ولما حشد صلاح الدين يوسف بن أيوب جيوش الإسلام في سنة 583هـ لقمع الصليبيين وتطهير الأرض المقدسة منهم كان الإمام الموفق وأخوه الشيخ أبو عمر وشباب أسرتهما ونجباء تلاميذ هذا البيت من المجاهدين تحت هذه الرايات المظفرة!! وكان الشيخ أبو عمر في الخامسة والخمسين، والشيخ الموفق في الثانية والأربعين من العمر، وكانت لهما ولخاصة تلاميذهما خيمة يتنقلون بها مع المجاهدين في سبيل الله، وكان كلاهما موضع الحرمة والرعاية من الملك العادل بن السلطان صلاح الدين، ثم كان للموفق مثل ذلك وأكثر منه عند الملك العزيز بن الملك العادل. رحمه الله وأرضاه لقد كان عالماً عاملاً مجاهداً.

بعض ما قيل فيه من الشعر وبعض شعره رحمه الله

      مدحه ورثاه شعراً كثير من العلماء، ونجتزئ بعض أبيات طويلة للعلامة الشيخ يحيى بن يوسف الصرصرى الحنبلي رحمه الله :

على فقهه ثبت الأصول معولي 
بمقنع فقه عن كتاب مطول 
وعمدته من يعتمدها يحصل 
أما ست بها الأزهار أنفاس شمأل 
وتحمل في المفهوم أحسن محمل 


 

وفي عصرنا كان الموفق حجة 
كفى الخلق بالكافي وأقنع طالباً 
وأغنى بمغني الفقه من كان باحثاً 
وروضته ذات الأصول كروضة 
تدل على المنطوق أقوى دلالة 


   وللشيخ موفق الدين نظم كثير حسن، وقيل إن له قصيدة في عويص اللغة طويلة، وله مقطعات من الشعر منها قوله:

 

يأبى عليك دخول داره 
يعوقها إن لم أداره 
تقضى ورب الدار كاره 


 

لا تجلسن بباب من
وتقول حاجاتي إليه
واتركه واقصد ربها


 

 

وله أيضاً:

 

شوارع يختر منك عن قريب 
فكم للموت من سهم مصيب 
وما للمرء بد من نصيب 
أما يكفيك إنذار المشيب 
تمربقبر خل أو حبيب 
ولا يغنيك إفراط النحيب 


 

أتغفل يا ابن أحمد والمنايا 
أغرك أن تخطتك الرزايا 
كؤوس الموت دائرة علينا 
إلى كم تجعل التسويف دأباً 
أما يكفيك أنك كل حين 
كأنك قد لحقت  بهم قريباً 


 

 

 

سوى القبر إني إن فعلت لأحمق 
وشيكاً وينعاني إلىّ فيصدق 
فهل مستطيع رفو ما يتخرق
فمن ساكت أو معول يتحرق 
وأدمعهم تنهل هذا الموفق 
وأودعت لحداً فوقه الصخر مطبق 
ويسلمني للقبر من هو مشفق 
فإني لما أنزلته لمصدق 
ومن هو من اهلي أبر وأرفق 


 

قال سبط بن الجوزي: وأنشدني الموفق لنفسه:

أبعد بياض الشعر أعمر مسكناً 
يخبرني شيبي بأني ميت 
يخرق عمري كل يوم وليلة
كأني بجسمي فوق نعشي ممدداً 
إذا سئلوا عني أجابو ا عولوا 
وغيبت في صدع من الأرض ضيق 
ويحثو علي الترب أوثق صاحب 
فيا رب كن لي مؤنساً يوم وحشتي 
وما ضرني أني إلى الله صائر 


 

       وقال اليونيني في وصفه: وقد رأيت من كرم أخلاقه وحسن عشرته ووفور حلمه وكثرة علمه وغزير فطنته وكمال مروءته وشدة حيائه ودوام بشره وعزوف نفسه عن الدنيا وأهلها والمناصب , وأربابها ما قد عجز عنه كبار الأولياء!!!

      انتقل إلى رحمة الله تعالى وواسع فضله يوم السبت يوم عيد الفطر سنة 620هـ وصلي عليه من الغد، وحمل إلى سفح قاسيون في صالحية دمشق، فدفن فوق جامع الحنابلة إلى الشمال تحت المغارة المعروفة بمغارة التوبة، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه أعلى فراديس الجنان.

      ومما رثي به الشيخ موفق الدين  رحمه الله ما قاله فيه الشيخ صلاح الدين أبو عيسى موسى بن محمد بن خلف بن راجح المقدسي في قصيدة له:

في العيش، إن العيش سم منقع 
ركن الأنام الزاهد المتورع 
شمل الشريعة بعده لا يجمع 
إن هالهم أمر إليه يفزعوا 
ويذب عن دين الإله ويدفع 
يبدي العجائب، نورها يتشعشع
غرضاً لكل بلية تتنوع 
تبكي عليه وحبله يتقطع 
تلك المحافل، ليتها لو ترجع 
للناس خير، أو مقال يسمع 
بيضاء في  كل الفضائل ترتع 
عن باب ربك في العبادة توسع 
والله ينظر والخلائق هجع 
كزبور داود النبي ترجع 
لفدتك أفئدة عليك تقطع 


 

لم يبق لي بعد الموفق رغبة 
صدر الزمان وعينه وطرازه 
بحر العلوم أبو الفضائل كلها 
كان ابن أحمد في مقام محمد 
فيبين مشكله، ويوضح سره 
ببصيرة يجلو الظلام ضياؤها 
فاليوم قد أضحى الزمان وأهله 
والعلم قد أمسى كأن بواكياً 
وتعطلت تلك المجالس ، وانقضت 
هيهات بعدك يا موفق يرتجى 
لله درك كم لشخصك من يد 
قد كنت عبداً طائعاً لا تنثني 
كم ليلة أحييتها وعمرتها 
تتلو كتاب الله في جنح الدجى
لو كان يمكن من فدائك رخصة 


      وكان قد توفى ثلاثة من الأخيار المقدسيين: المحب، العز، الشرف، في مدة متقاربة. فرثاهم شيخ الإسلام موفق الدين بقوله:

أئمة سادة، ما منهم خلف 
لهفي على فقدهم لو ينفع اللهف 
بل أودعوا قلبي الأحزان وانصرفوا 
لبينهم، وفؤادي حشوه أسف 
وأحضر الصبر في قلبي فلا يقف 
رفقاً بقلبي، فما ردوا ولا وقفوا 
يخشى عليه لما قد مسه التلف 
ما كنت أعهد هذا منك يا شرف 
وكنت تكرمني فوق الذي أصف 
تظل أحشاؤنا من همها تجف 
من كنت تعرف أومن لست تعترف 
جنح الليالي إذا ما أظلم السدف 
وللمريض الذي أشفى به الدنف 
وطالب حاجة قد جاء يلتهف 


 

 

مات المحب، ومات العز والشرف 
كانوا أئمة علم يستضاء بهم 
ما ودعوني غداة البين إذ رحلوا 
شيعتهم ودموع العين واكفة 
أكفكف الدمع من عيني فيغلبني 
وقلت: ردوا سلامي، أوقفوا نفسا 
ولم يعوجوا على صب بهم دنف 
أحباب قلبي، ما هذا بعادتكم
بل كنت تعظم تبجيلي ومنزلتي 
وكنت عوناً لنا في كل نازلة 
وكنت ترعى حقوق الناس كلهم 
وكان جودك مبذولاً لطالبه 
وللغريب الذي قد مسه سغب 
وكنت عوناً لمسكين وأرملة 


رحمه الله رحمة واسعة ،،


.