فلسطين التاريخ / الواقع والمأمول

حماس وجهاً لوجه

حماس وجهاً لوجه

 

     تحول كبير ، وواقع جديد، فرضه فوز حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في الانتخابات التشريعية ، فاجأ الجميع بمن فيهم قادة "حماس" الذين توقعوا فوزاً يمكّنهم من المشاركة في بعض الوزارات الخدماتية والتعليمية، وينأوا بأنفسهم عن الحقائب الوزارية التي تقتضي منهم التفاوض المباشر مع القيادة اليهودية المحتلة، وإذا بهم يفوزوا بـ76 مقعداً من أصل 132، بينما حصلت حركة "فتح" على 43 فقط. فوز جعل العالم أجمع يعيش حالة من الصدمة وعدم التوازن.

 


التحول الكبير

     كانت المفاجأة وللمرة الأولى في التاريخ العربي المعاصر تتولى فيها حركة إسلامية مقاليد السلطة بالانتخاب الحر المباشر، وهو مالم تتمكن منه جبهة الإنقاذ في الجزائر، حين أجهض الجيش التجربة وانقلب عليها، بمجرد ظهور بوادر فوزها في الانتخابات التشريعية.

     الفارق الأبرز بين المشهدين أن المؤسسة العسكرية الحاكمة في الجزائر في ذلك الوقت، ألغت الانتخابات ورفضت القبول بنتائجها، وأغرقت البلاد في حرب دموية كلفت الجزائر عشرات الآلاف من الأرواح البريئة، بينما في فلسطين أصرت السلطة ورئيسها على المضي قدماً في العملية الانتخابية، واحترام نتائجها رغم أنها جاءت مغايرة تماماً لكل التوقعات.

    حركة مقاومة مسلحة تصبح مسؤولة عن حكم "الدولة" الخاضعة للاحتلال، موقف غير مسبوق تاريخياً، فبعد أن اعتادوا على الوقوف خارج النظام، وإدانة كل ممارساته وتجريح شرعيته، فإذا بصناديق الاقتراع تدفعهم إلى أبعد ما تمنوا أو توقعوا. وأصبح بذلك فوز الإسلاميين في الانتخابات – إن كانت نزيهة – ظاهرة لا يمكن تجاوزها، فلو تركت الشعوب العربية والإسلامية لتختار من يمثلها فهي بلا شك ستختار الإسلام والمسلمين.

 


" التغيير والإصلاح "

   وليس مستغرباً أن يصوت الشعب الفلسطيني لصالح " التغيير والإصلاح " بعد المعاناة من الفساد والمفسدين والثراء على حساب الكادحين، فجاءت النتائج كردة فعل وعقاب واضح للسلطة على أخطائها، ودرساً لن تنساه، بعد أن فشلت "حركة فتح"  من معالجة الانهيار السريع الذي حدث لها في أكثر من صعيد.

     ويضل " التغيير والإصلاح " هو سيد الموقف ومطلب الشارع العربي والإسلامي في ظل الفساد والتخلف الذي نعيشه، ولهذا يتجاوب الكثيرون مع هذا الشعار لقناعتهم بأن الإسلاميين هم أكثر حفاظاً على الأموال العامة ومصالح المواطنين وحاضرهم ومستقبلهم.

    ولا شك أن ردة فعل الشارع الفلسطيني على أداء «فتح» السيئ طوال ما يزيد على 12 عاماً من نشوء السلطة، ونقمتهم على الفساد بكل أشكاله، أفرزته أوراق الاقتراع التي كانت نتائجها كالزلزال على البعض في داخل فلسطين، وانعكاسات واضحة على الشارع العربي والإسلامي والدول المجاورة لفلسطين، وستراقب الشعوب العربية بحرص بالغ ما سوف تحققه حماس للفلسطينيين.

 

صدمة "فتح"

ومحصلة الأمر فازت حماس والأضواء من أنحاء العالم مسلطة الآن على فلسطين والكل يترقب كيف ستتصرف حماس حيال هذا الفوز الكبير وغير المتوقع، خصوصاً في ظل استحالة تهربها من مسؤولياتها وتجاهلها لهذه الثقة التي أولاها لها الشعب الفلسطيني. وكيف ستتعامل مع "فتح" والتي يبدو أنها عازمة على تركها وحيدة في الميدان، وبالأخص بما يتعلق بالتفاوض مع الكيان اليهودي، وهذا ما صرح به صائب عريقات كبير المفاوضين بأن "فتح" لن تشارك في حكومة تشكلها حماس ولن تكون جزءًا من حكومة وطنية.  


ديمقراطية الغرب

  أما حالة الهلع التي سيطرت على الغرب فإنها كشفت مقدار الزيف الذي يمارسه الغرب بالنسبة للديمقراطية، فالديمقراطية لديهم يجب أن تكون على هواهم وأن تأتي بالتابعين لهم، لكن خيار الشعوب العربية كما حدث في الانتخابات الأخيرة في كل من مصر وفلسطين أثبت أن الشعوب لها خيار آخر.

      والسؤال المطروح: هل أن الإدارة الأمريكية حريصة فعلاً على نشر الديمقراطية الحقيقية في الشرق الأوسط والوطن العربي؟ وهل هي مستعدة لتقبل نتائج الديمقراطية الشعبية إذا ما أتت بقوى لا تحبها أمريكا و"إسرائيل"؟

فقبل عامين عقد السفير الأمريكي بالقاهرة مؤتمر صحفي وسأله أحد الصحافيين: (هل إنكم مستعدون لتحمل نتائج ديمقراطية حقيقية في الشرق الأوسط وماذا إذا أفضت الانتخابات إلى قيام نظم منتخبة غير مذعنة للولايات المتحدة؟).. فأجاب السفير بجواب فيه التفاف قائلاً: (لكن هذه الحالة موجودة أمامنا في كل أنحاء العالم، فهناك حكومات ديمقراطية ومنتخبة تختلف معنا في كل شيء، بدءاً من الأغذية المعدّلة وراثياً وتجارة الموز ووصولاً إلى مسألة المحتجزين في غوانتينامو لكننا لا نفعل حيال ذلك أي شيء سوى الانخراط معهم في النقاش!!).


حماس والاختبار الصعب

     لاشك أن نتائج الانتخابات وضعت حماس والحركة الإسلامية معها في المنطقة العربية والعالم الإسلامي عموماً أمام تحديات دولية كبيرة, ربما تكون أكبر بكثير من قدراتها، فالوضع الفلسطيني المعقد وعدم وجود خبرة سابقة للحركة في إدارة الدولة أو حتى المشاركة البرلمانية، لا شك ستكون صعبة للغاية لا سيما في مراحلها الأولى، فهي تقف اليوم أمام اختبار من النوع الصعب والثقيل, ففشلها في إدارة الأراضي المحتلة أو فشلها في إدارة العلاقة مع "فتح" أو فشلها في إدارة المعادلة الدولية في أكثر مناطق العالم حساسية وسخونة، سيحمل معها احراجات وإكراهات أكبر للحركة الإسلامية بالمنطقة العربية ككل, واليوم لم يعد ثمة مكان للتجربة والخطأ وبالخصوص في المشروع الإسلامي، لأن الخطأ في مثل ذلك قاتل ويمس العمل الإسلامي أجمع ومشاريعهم المطروحة لاحقاً.

    وتزداد المسئولية كذلك على الدول الإسلامية والعربية للوقوف مع اختيار الشعب الفلسطيني، حيث ستواجه " حماس " تحديات داخلية وخارجية بدءًا من ضبط السلطة وتسديد رواتب 145 ألف موظف رسمي وغيرها من الالتزامات.

      ومع يقيننا أن حماس تعلم حجم التحدي القادم، وخطورة القرار الذي اتخذته، وحساسية المرحلة، وعظم الأمانة الملقاة على عاتقهــا، ومع ذلك هـي أقرب ما تكون حاجة إلى النصح من جميع الأمة. وفي مقدمتها التمسك بعقيدتها الإسلامية الــتي تعنــي انطلاقها من شريعة الله في كل ثوابتها، وسياساتها العامة، وقراراتها.

 

      ندعو الله تعالى أن يوفق أعضاء حركة المقاومة الإسلامية ليكونوا عند حسن الظن، وعلى قدر المسئولية التي أسندت إليهم وأن يحقق على أيديهم مصلحة البلاد والعباد، والثبات على المبادئ التي اكسبتها ثقة الناس، وأن يقيها فتنة السلطة والسلطان، والبعد عن الحزبية وإقصاء الآخرين، وتتجاوز الأخطاء التي وقعت بها حركة فتح، وأن تتعامل بكل شفافية وإخلاص وحرص على المصالح الشرعية، والله نسأل أن يأخذ بيدها، ويجنبها ما يسخطه، ويلقي عليها من لدنه رحمة يجمع بها قلوبهم على الهدى، ويسدد حجتها، ويلهمها رشدها وينصرها على عدوها، ويلم بها شتات هذا الشعب الذي طالت معاناته، بعد أن تخلى عنه القريب، وخذله البعيد...  ونذكر أنفسنا وإخواننا بشرط التمكين والنصر قال تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).

 

    وفي الختام ، نوصي إخواننا بما وَصَّى به الله عباده المؤمنين في خاتمة سورة آل عمران حيث قال: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون). ونسأله تعالى أن يجمع كلمة أهل الإسلام وأن يوحد صفوفهم وأن يردهم إلى دينهم وأن يهيئ لهم الأسباب للنصر على عدو الله وعدوهم.

 

والحمد لله رب العالمين.

 

.