فلسطين التاريخ / أعلام بيت المقدس

علماء وفقهاء ومحدثون من فلسطين "محمد بن إدريس الشافعي"

م. نايف فارس

إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له.

أما بعد: فإن علماء الإسلام هم حملة هذا الدين العظيم، وهم من نافح وجاهد للحفاظ على هذا الدين من أعدائه المتربصين به.

قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (1).

ومن هؤلاء العلماء علماء وفقهاء ومحدثون فلسطينيون.

ففلسطين كانت تزخر بالعلماء المسلمين ونبوغهم كفقهاء ومحدثون وغيرهم.

والكلام على هؤلاء العلماء مما يحفز النفوس ويرفع الهمم.

وعليه رأينا أن نبرز هؤلاء العلماء ونتكلم عن سيرهم حتى نوفيهم بعض حقهم علينا ولو بالقدر اليسير، واخترنا لحلقتنا الثانية من هذه السلسلة الإمام الشافعي - رحمه الله -.

اسمه وكنيته ونسبه:

هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، ويجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف بن قصي، والنبي صلى الله عليه وسلم هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، فالنبي صلى الله عليه وسلم هاشمي والشافعي مطلبي، وهاضم والمطلب أخوان ابنا عبد مناف ولعبد مناف أربعة بنون هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس بنو عبد مناف.

وأم الشافعي - رحمه الله - أزدية.

مولده:

لا خلاف أن الشافعي ولد سنة خمسين ومائة من الهجرة وهو العام الذي توفي فيه أبو حنيفة رحمه الله، وولد بغزة فعن عبدالله بن عبد الحكم قال: قال لي الشافعي: ولدت بغزة سنة خمسين ومائة وحملت إلى مكة وأنا ابن سنتين.

وعن الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني قال: قدم علينا الشافعي بغداد سنة خمس وتسعين ومائة فأقام عندنا سنتين ثم رجع الى مكة ثم قدم علينا سنة ثمان وتسعين فأقام عندنا أشهرا ثم خرج إلى مصر وبها مات. وكان أول ما نزل في مصر على أخواله الأزد.

قال ابن عبد الحكم: روي أن أم الشافعي لما حملت به، رأت كأن المشتري خرج من فرجها، حتى انقض بمصر ثم وقع في كل بلد منه شظية.

فتأول أنه عالم يخص علمه أهل مصر ويفترق منها في كل البلاد.

زوجته:

ذكر الساجي أبو يحيى زكريا بن يحيى بن عبد الرحمن رحمه الله قال: أخبرني عبدالله بن محمد بن بنت الشافعي قال: كانت امرأته أم ولده حمدة بنت نافع بن عنبسة بن عمرو بن عثمان بن عفان.

صفته:

وكان يخضب بالحناء وكان خفيف العارضين، وروي أن الشافعي كان عطيرا، وكان غلامه يأتيه كل يوم بغالية يمسح بها الأسطوانة التي يجلس إليها.

 روايته ومن روى عنه:

روى عن مالك ومسلم بن خالد وابن عيينة، وإبراهيم بن سعد وسعيد بن سالم وإسماعيل بن علية، ويحيى بن حسان والدراوردي وإبراهيم بن أبي يحيى ومروان بن ماوية وابن أبي فديك وابن أبي مسلمة والقعنبي، وفضيل بن عياض، وعن عمه محمد بن شافع. وروى عنه أحمد بن حنبل والحميدي وأبو الطاهر بن السراج، وحرملة بن يحيى والبويطي والمزني والربيع المؤذن، ويونس بن عبد الأعلى وأبو ثور والزعفراني، وأحمد بن سنان الواسطي، ومحمد بن عبد الحكم وابن أخي ابن وهب وهارون الإيلي وآخرين.

ابتداء طلبه للعلم وحفظه:

عن المزني ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم قالا: جاء الشافعي إلى مالك بن أنس فقال له إني: أريد أن أسمع منك الموطأ فقال مالك: تمضي إلى حبيب كاتبي فانه الذي يتولى قراءته، فقال له الشافعي: تسمع مني رضي الله عنك صفحا فان استحسنت قراءتي قرأته عليك وإلا تركت، فقال له: اقرا فقرا صفحا ثم وقف، فقال له مالك: هيه فقرا صفحا ثم سكت، فقال له: هيه، فقرا فاستحسن مالك قراءته، فقرأه عليه أجمع.

وعن محمد بن عبدالله بن عبد الحكم قال: قال الشافعي: لم يكن لي مال وكنت أطلب العلم في الحداثة وكنت أذهب إلى الديوان استوهب الظهور فأكتب فيها.

قال الشافعي: كنت وأنا في المكتب (2) اسمع المعلم يلقن الصبي فأحفظ ما يقول، ولم يكن عند أبي ما يعطي وكنت يتيما، فكان المعلم يرضى مني بأن أخلفه إذا قام، ولقد كانوا يكتبون.

وقبل أن يفرغ المعلم من الإملاء حفظت جميع ما كتبت، ثم لما خرجت من المكتب كنت التقط الخزف وعزب النخل وأكتاف الجمال، فأكتب فيها الحديث، وأجيء إلى الدواوين فأستوهب الظهور، وأكتب فيها، حتى ملأت جبابا كانت لأبي في ذلك.

فسمع إذ ذاك بمكة من عمه ومسلم بن خالد الزنجي وغيرهم من المكيين.

ثم قال: خرجت من المكتب فقدمت هذيلا أتعلم كلامها، وكانت أفصح العرب، فبقيت فيهم سبعة عشر عاما، راحلا برحلتهم ونازلا بنزولهم. فلما رجعت إلى مكة جعلت أنشد الأشعار وأذكر الآداب والأخبار، وأيام العرب، فمر بي رجل من الزبيريين فقال لي: يا أبا عبد الله، عز علي أن لا يكون مع هذه الفصاحة والذكاء فقه، فتكون قد سدت أهل زمانك.

فقلت: من بقي يقصد. فقال لي: هذا مالك سيد المسلمين يومئذ. فوقع في قلبي، وعمدت إلى الموطأ فاستعرضته وحفظته في تسع ليال، ثم دخلت إلى والي مكة فأخذت كتابه إلى والي المدينة وإلى مالك بن أنس، فلما حضرت لوالي المدينة قلت: تبعث بالكتاب إلى مالك يأتيك فتوصيه بي.

قال: يا ليتني إذا ركبت إليه مع حشمي معك، حتى نأتي بابه ونجلس عليه، حتى تضرب وجوهنا الريح بتراب العقيق.

فلما صلينا ركب معي إليه، وصرت معه حتى أتينا العقيق، وأتينا منزله، وجلس على بابه، واستأذن. فخرجت إليه جارية، فقالت الشيخ يقول لك: إن كنت تريد المسائل فاكتبها في رقعة أجيبك عنها. فقال لها الأمير قولي له: إن والي مكة قد كتب إليك في حاجة فدخلت فأبطأت، ثم خرج مالك وجلس وقال ما شاء الله. فناوله الأمير الكتاب فلما بلغ موضع الشفاعة رمى به ثم قال: يا سبحان الله! وصار علم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ بالوسائل! قال: فرأيت الوالي قد تهيب أن يكلمه؛ فتقدمت إليه وقلت أصلحك الله إني رجل مطلبي، ومن حالي وقصتي فلما سمع كلامي نظر إلي ساعة، وكانت له فراسة، فقال لي: ما اسمك؟ قلت: محمد. قال يا محمد اتق الله واجتنب المعاصي فإنه سيكون لك شأن من الشأن.

ثم قال: نعم وكرامة؛ إذا كان غدا تجيء، وتجيء بمن يقرأ لك الموطأ. قلت: فإنني أقوم بالقراءة.. قال: فقدمت عليه وابتدأت قراءته ظاهرا، والكتاب في يدي فلما تهيبت مالكا وأردت قطع القراءة وقد أعجبته قراءتي، قال بالله يا فتى زد؛ حتى قرأت عليه في أيام يسيرة، فأقمت بالمدينة إلى أن توفي رحمه الله تعالى.

قال مصعب الزبيري: قدم الشافعي المدينة فكان يجلس في المسجد ينشد أشعار الشعراء، وكان حسن اللفظ فصيح القول، عالما بمعانيه. فقال له أبي يوما: ترضى لنفسك في قرشيتك مما أنت فيه، أن تكون شاعرا؟ قال فما أصنع؟ فال تفقه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله بن خيرا يفقهه في الدين "(3). قال فأني لي بذلك؟ قال: مالك بن أنس سيد المسلمين. قال تقوم بنا إليه؟ فأتينا مالكا وجلس عنده وأخبره بشرفه وأمره، فقربه مالك وجعل يسمع منه، فلما كان بعد أيام، قال الشافعي لأبي: الذي يقول مالك أمرنا، والذي عليه بلدنا، والذي عليه أئمة المسلمين الراشدين المهديين، أي شيء هو؟ فقال له: أولهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر وعمر وعثمان الذين ماتوا بالمدينة؛ فترك الشافعي ما كان فيه، وسمع الموطأ من مالك، وسر به مالك. ثم سار الشافعي إلى العراق، فلزم محمد بن الحسن وناظره على مذهب أهل المدينة. وكتب كتبه ورتب هناك قوله القديم، وهو كتاب الزعفراني.

اقتداؤه بمالك واعترافه له:

كان يكثر الشافعي رحمه الله من الثناء على مالك رحمه الله.

قال الشافعي: مالك بن أنس معلمي، وفي رواية أستاذي، ومنه تعلمنا العلم، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم، وما أحد آمن علي من مالك، وعنه أخذت العلم.

وقال: إنما أنا غلام من غلمان مالك. وقال: جعلت مالكا حجة فيما بيني وبين الله.

وحكى أبو العباس الشارقي عن أبي إسحاق الشيرازي، أنه قال له: ما نعد الشافعي إلا أحد أصحاب مالك. ولو عد ما خالفه فيه مع ما خالفه فيه عبد الملك أو غيره من أصحابه لكان أقل.

ذكر ثناء العلماء عليه بسعة العلم والفضل:

فمن ذلك ثناء سفيان بن عيينة عليه وتفضيله له: عن سويد بن سعيد أنه قال: كنا عند سفيان بن عيينة بمكة فجاء الشافعي فنظر إليه ابن عيينة فقال هذا أفضل فتيان أهل زمانه.

وعنه أيضا قال: كنا عند سفيان بن عيينة بمكة فجاء رجل ينعى الشافعي ويقول أنه مات فقال ابن عيينة: إن مات محمد بن إدريس فقد مات أفضل أهل زمانه.

وعن عبدالله بن محمد ابن بنت الشافعي قال: سمعت أبي يقول سمعت سفيان بن عيينة وكان إذا جاءه شيء من التفسير والفتيا التفت إلى الشافعي وقال: سلوا هذا.

وعن محمد بن عبد الرحمن الجوهري قال كنت عند سفيان بن عيينة فقيل له ههنا فتى -يعنون الشافعي - يقول عليكم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا الرأي، فقال سفيان: جزى الله هذا من فتى خيرا، ثم قال: قال الله عز وجل: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} (4) وقال الله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (5).

ومنهم قول مسلم بن خالد الزنجي فقيه مكة فيه:

عن الحميدي قال: قال: مسلم بن خالد الزنجي للشافعي: أفتي يأبا عبد الله قد آن لك أن تفتي، وهو ابن خمس عشرة سنة، ويقال: ابن ثماني عشرة.

قول يحيى بن سعيد القطان فيه ودعائه له:

قال يحيى بن سعيد القطان: إني لأدعو الله للشافعي في الصلاة وغيرها منذ أربع سنين لما أظهر من القول بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثناء عبد الرحمن بن مهدي عليه:

قال عبد الرحمن بن مهدي - عن الشافعي عندما قرا رسالة له - هذا كلام شاب مفهم.

قول محمد بن عبدالله بن عبد الحكم فيه:

قال محمد بن عبدالله بن عبد الحكم: لولا الشافعي ما عرفت كيف أرد على أحد، وبه عرفت ما عرفت، وهو الذي علمني القياس رحمه الله، فقد كان صاحب سنة وأثر وفضل وخير مع لسان فصيح طويل وعقل صحيح رصين.

قول أحمد بن حنبل فيه وثنائه عليه:

قال يعقوب بن اسحاق: كنا نأتي الشافعي فنجد أحمد بن حنبل عنده قد سبقنا إليه وما زال معنا حتى سمع كتب الشافعي كلها.

قال إسحاق بن راهويه: لقيني أحمد بن حنبل بمكة فقال لي تعال حتى أريك رجلا لم تر

عيناك مثله فأراني الشافعي.

قال عبدالله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: يا أبة أي رجل كان الشافعي فإني أسمعك تكثر الدعاء له، فقال: يا بني كان الشافعي رحمه الله كالشمس للدنيا وكالعافية للناس فانظر هل لهذين من عوض أو خلف.

قال عبد الملك بن عبد الحميد الميموني: كنت عند أبي عبد الله أحمد بن حنبل وجرى ذكر الشافعي قال فرأيت أحمد يرفعه ويرفع به، فقال: بلغني أو قال يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس مائة سنة رجلا يقيم لها أمر دينها " (6) قال: فكان عمر بن عبد العزيز على رأس كل المائة وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة الأخرى.

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول كان الشافعي من أفصح الناس، قلت: وكان له سن، قال: لم يكن بالكبير، قال عبد الله: وسمعت أبي يقول قال الشافعي لنا: أما أنتم فأعلم بالحديث والرجال مني فاذا كان الحديث صحيحا فأعلموني أن يكون كوفيا أو بصريا أو شاميا أذهب إليه إذا كان صحيحا، قال لي أبي: قال الشافعي: أنا قرأت على مالك بن أنس، وكانت تعجبه قراءتي، قال أبي: لأنه كان فصيحا.

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني أبي عن الشافعي عن مالك وحاتم بن إسماعيل حديثا صالحا، وكان أبي يكره الآراء كلها إلا أنه كان حسن القول في الشافعي.

قال محمد بن فزارة الرازي: قلت لأحمد بن حنبل: إني كتبت الحديث وأكثرت منه فلا بد لي من النظر في الرأي، فقال أحمد بن حنبل: لا تفعل، فقلت: لا بد أكتب رأي الأوزاعي أو رأي الثوري أو رأي مالك، قال: إن كنت لا بد كاتبا للرأي فاكتب رأي الشافعي وعليك بالبويطي فاسمعه منه فإن فاتك فأبو الوليد بن أبي الجارود بمكة.

قال أحمد بن حنبل: ما أحد من أصحاب الحديث حمل محبرة إلا وللشافعي عليه منة، وكان الربيع بن سليمان يقول مثل ذلك، فقلنا يا أبا محمد كيف ذلك قال إن أصحاب الرأي كانوا يهزؤون بأصحاب الحديث حتى علمهم الشافعي وأقام الحجة عليهم.

قال إسحاق بن راهويه: محمد بن ادريس الشافعي عندنا إمام.

قال هارون بن سعيد بن الهيثم الأيلي: ما رأيت مثل الشافعي قط، ولقد قدم علينا مصر قالوا: قدم رجل من قريش فقيه، فجئناه وهو يصلي فما رأينا أحسن وجها منه ولا أحسن صلاة فافتتنا به، فلما قضى صلاته تكلم فما رأينا أحسن منطقا منه.

وقال هارون بن سعيد: لو أن الشافعي ناظر على أن هذا العمود الذي من حجارة من خشب لأثبت ذلك لقدرته على المناظرة.

أقوال علماء آخرين:

قال أبو ثور: الشافعي عندي أفقه من الثوري والنخعي.

قال هلال بن العلا: الشافعي فتح أقفال العلم.

وقال الزعفراني: ما رأيت قط أفصح ولا أعلم من الشافعي. كان يقرا عليه من كل الشعر فيعرفه.

قال ابن هشام: الشافعي حجة في اللغة وذاكر بمصر في أنساب الرجال فقال له الشافعي بعد ساعة دع هذا، فإنها لا تذب عنا وخذ بنا في أنساب النساء؛ فلما أخذا في ذلك بقي ابن هشام فكان يقول: ما ظننت أن الله خلق مثل هذا.

قال النسائي: هو أحد العلماء ثقة مأمون.

قال المزني: ألف الشافعي كتاب السبق والرمي وكان بصيرا بذلك، وأي علم كان يذهب عليه، وقال: لو كنا نفهم عن الشافعي كل ما يقول، لأتيناكم عنه بصنوف من العلم. ولكنا لم نكن نفهم. وسأله رجل عن الرأي فقال: أين أنت من كتب الشافعي.

قال الأصمعي: ورأيت محمد بن إدريس، فرأيت فقيها عالما حسن المعرفة عذب اللسان، يحتج ويعرف، ولا يحسن إلا لصدر سرير، وذروة منبر، وما علمت أني أفدت حرفا، فضلا عن غيره. ولقد استفدت من ما لو حفظ رجل يسيره هكذا لكان عالما.

قال الزعفراني: كان يخص مجلسه ببغداد الأدباء والكتاب. يسمعون حسن ألفاظه

وفصاحته، وما رأيت ولا أرى أحد في عصر الشافعي مثله.

وقال أيوب بن سويد: ما طننت أن أبقى حتى أرى مثل الشافعي، ما رأيت مثل هذا الرجل قط.

وأخبار الشافعي كثيرة وفضائله مأثورة. قال الربيع لمن سأله أن يحدثه بأخباره، لو ذهبت أحدثكم بأيام الشافعي ما أتيت عليه في سنة.

حثه على حفظ واتباع السنن والترغيب في ذلك:

عن الحسين الكرابيسي قال: سئل الشافعي عن شيء من الكلام فغضب وقال كلام مثل هذا يعني حفصا الفرد وأصحابه أخزاهم الله.

وعن يونس بن عبد الأعلى قال: ذكر لي الشافعي رحمه الله يوم ناظر حفصا الفرد كثيرا مما جرى بينهما، ثم قال لي: غبت عنا أبا موسى وكناني، واعلم والله أني اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننته قط ولأن يبتلي الله المرء بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك به خير له من أن ينظر في الكلام.

قال الجارودي: ذكر عند الشافعي إبراهيم بن إسماعيل بن علية فقال: أنا مخالف له في كل شيء وفي قول لا إله إلا الله، لست أقول كما يقول، أنا أقول لا إله إلا الله الذي كلم موسى عليه السلام تعليما من وراء حجاب، وذاك يقول لا إله إلا الله الذي خلق كلاما اسمعه موسى من وراء حجاب.

وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول في قول الله عزوجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (7) أعلمنا بذلك ثم إن قوما غير محجوبون ينظرون إليه لا يضامون في رؤيته وهم المؤمنون كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ترون ربكم عز وجل يوم القيامة كما ترون الشمس لا تضامون في رؤيتها " (8)

قال محمد بن عبدالله بن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول لو علم الناس ما في الكلام والأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد.

قال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول إذا سمعت الرجل يقول الاسم غير المسمى أو الشيء غير المشيا، فاشهد عليه بالزندقة.

قال حرملة بن يحيى: سمعت الشافعي يقول في أهل الأهواء: أمة أشهد بالزور من الرافضة.

قال الجارودي: مرض الشافعي بمصر مرضة أيسوا منه فيها، ثم أفاق وكل يقول له من أنا فيجيبه، حتى قال له حفص الفرد: من أنا يا أبا عبد الله قال أنت حفص الفرد لا حفظك الله ولا رعاك ولا كلأك إلا أن تتوب مما أنت فيه.

قال الحسن بن محمد الزعفراني: سمعت الشافعي يقول: حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل، يقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام وذكر الساجي عن أبي ثور والكرابيسي أنهما سمعا الشافعي يقول ذلك.

وذكر الساجي عن الزعفراني قال كان الشافعي يكره الكلام ومن شعره الذي لا يختلف فيه وهو أصح شيء عنه:

ما شئت كان وإن لم أشا                 وما شئت إن لم تشا لم يكن

خلقت العباد على ما علمت             ففي العلم يجري الفتى والمسن

على ذا مننت وهذا خذلمت             وهذا أعنت وذا لم تعن

فمنهم شقي ومنهم سعيد              وهذا قبيح وهذا حسن

قال أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني: سمعت محمد بن إدريس الشافعي ينشد هذه الأبيات لنفسه قال أبو عمر (9): وهذه الأبيات من أثبت شيء في الايمان بالقدر.

قال الربيع: سمعت الشافعي يقول الإيمان قول وعمل واعتقاد بالقلب آلا ترى قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (10) يعني صلاتكم إلى بيت المقدس، فسمى الصلاة إيمانا وهي قول وعمل وعقد.

قال الربيع: وسمعت الشافعي يقول الإيمان يزيد وينقص.

وروى الربيع بن سليمان وأبو حنيفة قحزم بن عبد الله بن قحزم الأسواني والمزني وحرملة بن يحيى وغيرهم عن الشافعي، أن الله عز وجل يراه أولياؤه في الآخرة. وهذا هو الصحيح عنه. وقد روى عنه بعض أهل الكلام خلاف ذلك ولا يصح عنه والصحيح ما ذكره المزني عن ابن هرم قال: سمعت الشافعي يقول في قول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (11) دليل على أن أولياء الله يرونه في الأخرة، وهذا الصريح منه رحمه الله.

قال أبو القاسم: وأصل الشافعي رحمه الله أن الخبر إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو قوله ومذهبه ولا أعلم أحدا من أصحاب الشافعي يختلف في ذلك.

قال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول أبو بكر وعمر وعثمان وعلي الخلفاء الراشدون المهديون.

منهجه واتباعه للسنة:

قال الربيع بن سليمان: قال الشافعي: القرآن كلام الله غير مخلوق؛ ومن قال مخلوق، فهو كافر.

وقيل لمحمد بن عبد الحكم: أكان الشافعي بدعيا أو كذابا؟ قال: وإن خالفناه فلا ينبغي أن نقول عليه ما لا نعلم، كان أبعد الناس من ذلك.

قيل له فكان يقف في القرآن؟ قال ما علمت ذلك. كان بريئا من ذلك أو نحوه.

قال أحمد بن حنبل: الشافعي ثقة صاحب رأي وكلام، وليس عنده حديث، وكان يتشيع.

وقيل للشافعي فيك بعض التشيع! قال: وكيف؟ قالوا: تظهر حب آل محمد؛ قال: يا قوم، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" (12) وقال: "إن أوليائي وقرابتي المتقون" (13)، فإذا كان واجبا أن أحب قرابتي وذوي رحمي إذا كانوا من المتقين، أليس من الدين أن أحب من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان كذلك؟ فإنه كان يحبهم؛ ثم أنشد:

يا راكبا قف بالمحصب من مني ...  واهتف لساكن خبيها والناهض

سحرا إذا فاض الحجيج إلى مني...   فيضا كملتطم الخليج الفائض

إن كان رفضا حب آل محمد...      فليشهد الثقلان أني رافضي

وكان الشافعي يقول لأحمد وابن مهدي: أما أنتم فأعلم بالحديث مني، فإذا كان صحيحا فاعلموني به، أذهب إليه.

قال البويطي: إنما كان الشافعي ليتبع أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ذكر جوده وبقية أخباره وفضائله:

قال الحميدي: خرج الشافعي إلى اليمن مع بعض الولاة ثم انصرف الى مكة بعشرة الأف درهم فضرب خباء في موضع خارج من مكة فكان الناس يأتونه فما برح من موضعه ذلك حتى فرقها كلها.

وقال: قدم الشافعي من صنعاء ومعه عشرة آلاف دينار في منديل فنزل قريبا من مكة وأتاه أصحابه يسلمون عليه فما برح ومعه منها شيء.

قال الربيع: ما أراه أتى عليه يوم إلا تصدق فيه، وكان في شهر رمضان كثير الصدقة بالثياب والدراهم، ويعطيهم الفقراء. وأصلح رجل زره، فأعطاه دينارا واعتذر إليه، وناوله آخر سوطه فأعطاه صرة دنانير وقال: لم يحضرني غيرها.

وقال الربيع: قد سمعنا بالأسخياء، وقد كان قوم عندنا بمصر منهم، رأيناهم؛ فأما مثل الشافعي فما رأينا ولا سمعنا أحدا فز زمان كان مثله، وكان إذا سأله إنسان يحمر وجهه حياء.. ودخل مرة الحمام، فأعطى صاحبه مالا كثيرا، وسقط سوطه فناوله إنسان فأعطاه خمسين دينارا.

وأنشد الشافعي عند خروجه إلى مصر:

أخي أرى نفسي تتوق إلى مصر...   ومن دونها أرض المفاوز والفقر

فو الله ما أدري أللحفظ والغنى...     أساق إليها أم أساق إلى قبر

وقد سيق إليهما معا، رحمه الله.

قال الربيع بن سليمان صاحب الشافعي: أتيت يوما الشافعي، وكان مريضا فقلت له كيف تجدك فقال لي ضعيفا يا ربيع فقلت: قوى الله ضعفك فقال: إذن يقتلني لأنه إنما هو ضعف وقوة فإذا قوى الله الضعف قتل صاحبه.

قال المزني: خرجت مع الشافعي يوما إلى الأكوام فمر بهدف فإذا برجل يرمى بقوس عربية فوقف عليه الشافعي ينظر، وكان حسن الرمي فأصاب بأسهم، فقال له الشافعي: أحسنت بارك الله فيك ثم قال لي أمعك شيء؟ قلت: معي ثلاثة دنانير، قال: أعطه إياها واعتذر عني عنده أني لم يحضرني غيرها.

قال سعد: وكان الشافعي يلزم محمدا ولا يفارقه، يأتيه كل يوم غدوة فربما لم يجده في المنزل، فيسأل أين ذهب، فيمضي إليه، وكان يأخذ من كتبنا كتب مالك في كل يوم جزأين، فيمكثان عنده ذلك اليوم وليلته، ثم يغدو وقد فرغ منهما فيردهما ويأخذ آخرين.

قال الربيع: كان الشافعي يختم في كل ليلة ختمة؛ فإذا كان رمضان ختم في كل ليلة من رمضان ختمة، وفي كل يوم ختمة، قال: وأفتى وهو ابن خمس عشرة سنة، وكان يحيي الليل حتى مات.

ولما قدم الشافعي على الزعفراني نزل عليه، فكان الزعفراني يكتب للجارية ما يصلح من الألوان كل يوم لطعامه؛ فدعا الشافعي يوما الجارية ونظر في الكتاب فزاد بخطه لونا اشتهاه، فلما حضر الطعام أنكر الزعفراني اللون الذي لم يأمر به فسأل الجارية، فأخبرته؛ فلما نظر في الرقعة ووجده بخط الشافعي اعتق الجارية فرحا بذلك.

ومن فضائله وأخباره رحمه الله ما نقله الربيع بن سليمان عنه، إذ قال: سمعت الشافعي يقول العلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان.

وقال: سمعت الشافعي يقول ليونس بن عبد الأعلى يا أبا موسى عليك بالفقه فانه كالتفاح الشامي يحمل من عامه.

وقال أيضا: سمعت الشافعي يقول طلب العلم أفضل من الصلاة النافلة.

وقال سمعت الشافعي يقول وهو مريض وددت أن الخلق يعلمون ما في هذه الكتب على أن لا ينسبوا إلي منها شيئا - يعني ما وضع من قال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول العقل التجربة.

وعن المزني قال كنت عند الشافعي يوما ودخل عليه جار له خياط فأمره بإصلاح أزراره فأصلحها فأعطاه الشافعي دينارا ذهبا، فنظر إليه الخياط وضحك فقال له الشافعي: خذه فلو حضرنا أكثر منه ما رضينا لك به، فقال له: أبقاك الله إنما دخلنا عليك لنسلم عليك، قال الشافعي: فأنت اذا ضيف زائر وليس من المروءة الاستخدام بالضيف الزائر.

قال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يكتب بهذا الشعر إلى رجال من قريش في ابن هرم حيث اختلفوا:

جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت           بنا نعلنا في الواطئين فزلت

      أبوا أن يملونا ولو أن امنا                 تلاقي الذي لا قوة فينا لملت

قال أبو جعفر الترمذي: رأيت كأن القيامة قد قامت فأمر بي إلى الجنة وفي كمي مختصر الشافعي - أعني كتاب المزني - فقال لي رضوان: دعه وادخل فقلت لا أدخل إلا بما معي فاذا النداء من قبل الله عز وجل دعه يدخل بما معه.

قال حوثرة بن محمد المنقري: تتبين السنة في الرجل في اثنتين في حبه أحمد بن حنبل وكتابة كتب الشافعي.

جمل من حكمه وآدابه رحمه الله تعالى:

قال الشافعي: من ولي القضاء ولم يفتقر فهو سارق، ومن حفظ القرآن نبل قدره، ومن تفقه عظمت قيمته، ومن حفظ الحديث قويت حجته، ومن حفظ العربية والشعر رق طبعه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه العلم.

وقيل له كيف أصبحت؟ فقال كيف أصبح من يطلبه الله بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم بالسنة، والحفظة بما ينطق، والشيطان بالمعاصي، والدهر بصروفه، والنفس بشهواتها، والعيال بالقوت، وملك الموت يقبض روحه.

وقال: أحسن الإحجاج ما أشرقت معانيه، وأحكمت مبانيه، وابتهجت له قلوب سامعيه وقال: الطبع أرض والعلم بذر، ولا يكون العلم إلا بالطلب، فإذا كان الطبع قابلا زكا العلم وتفرعت معانيه.

وقال: العلم جهل عند أهل الجهل، كما أن الجهل جهل عند أهل العلم، وأنشد فيه:

ومنزل السفيه من الفقيه                   كمنزلة الفقيه من السفيه

فهذا زاهد في قرب هذا                    وهذا فيه زهد منه فيه

واستعار الشافعي من محمد بن الحسن كتبه فمنعه إياها؛ فكتب إليه:

قل للذي لم تر عينا                          من رآه مثله

العلم يأبى أهله                             أن يمنعوه أهله

لعله يبذله                               لأهله لعله؟

فأجابه محمد بن الحسن عن ذلك وكان الشافعي كثيرا ما ينشد، أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ولن يكرم النفس الذي لا يهينها يريد لمن يطلب العلم عنده.

وقال المزني سمعت الشافعي يقول: ذكر رجل رجلا فقال: أما والله لقد كان يملا العيون جمالا، والآذان بيانا؛ فقال له رجل: أعد رحمك الله، فقال: أعيده والله عليك بلا تهاتر مني، ولا إبكات ولا تزكية له.

ذكر محنته ووفاته رحمه الله تعالى:

قال الفضل بن الربيع: بعث إلي الرشيدي وقت لم يكن يبعث إلي فيه، فدخلت عليه في مجلس خاصته وبين يديه سيف وقد أزبد وجهه.

فقال لي يا فضل اذهب إلى الحجازي محمد بن إدريس فأتني به، فإن لم تأتني به أنزلت بك ما أريد به، فأتيته وهو في مسجد بيته يصلي، فانتقل من صلاته، فقلت له: أجب أمير المؤمنين فقال: بسم الله وحرك شفتيه ثم نهضت أمامه وهو يتبعني حتى أتيت القصر، وأنا أرجو أنه قد قام فإذا هو جالس. فقال: ما فعل الرجل؟ قلت بالباب قال: لعلك روعته قلت: لا، قال: أدخله. فلما دخل تزحزح له عن مجلسه وتهلل وجهه، وضحك إليه وصافحه وعانقه، وقال له: يا أبا عبد الله لم يكن لنا عليك من الحق أن تأتينا إلا برسول، فاعتذر بعذر لطيف. فقال إن أمرنا لك بأربعة آلاف دينار وفي رواية بعشرة آلاف. فقال: لا أقبلها. فقال: عزمت عليك لتأخذها. يا فضل، احملها معه. قال الفضل: فلما انصرف قلت: بالذي أنجاك منه وأبدل لك رضاه من سخطه، ما قلت في إقبالك إليه ودخولك عليه. قال: نعم. قلت: أشهد الله أنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم رب العرش العظيم. اللهم إني أعوذ بنور قدسك، وعظمة طهارتك، وبركة جلالك، من كل آفة أو عاهة أو طارق، إلا طارقا يطرق بخير يا أرحم الراحمين. اللهم أنت عياذي، فبك أعوذ وأنت ملاذي فبك ألوذ، يا من ذلت له رقاب الجبابرة، وخضعت له مقاليد الفراعنة، أعوذ بكرمك من غضبك ومن نسيان ذكرك، ومن أن تخزني أو تكشف ستري، أنا في كنفك في ليلي ونهاري، وظعني وأسفاري ونومي وقراري.

فاجعل ثناءك دثاري وذكرك شعاري، لا إله غيرك، تنزيها لوجهك وتعظيما لسحبات قدسك. أجرني من عقوبتك وسخطك، واضرب علي سراقات حفظك، وأعطني من خير ما أحاط به علمك، واصرف عني شر ما أحاط به علمك. وآمن روعاتي يوم القيامة يا راحم الراحمين. قال الفضل: فما دخلت على سلطان فدعوت بالدعاء إلا ضحك في جهي وضمني وأكرمني.

وتوفي الشافعي بمصر عند عبد الله بن عبد الحكم وإليه أوصى.

قال الربيع: كنا جلوسا في حلقة الشافعي بعد موته بيسير، فوقف علينا أعرابي فسلم، ثم قال: أين قمر هذه الحلقة وشمسها؟ فقلنا: توفي رحمه الله تعالى، فبكى بكاء شديدا، وقال: رحمه الله وغفر له، ما كان يفتح ببيانه منغلق الحجة ويهدي خصمه واضح الحجة، ويغسل من العار وجوها مسودة، ويوسع من الرأي أبوابا منسدة، ثم انصرف. وكانت وفاته بمصر يوم الخميس وقيل ليلة الجمعة منسلخ رجب سنة أربع ومائتين ودفنه بنو الحكم في قبورهم، وصلى عليه أمير مصر.

رثاء الشافعي رحمه الله:

قال أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية يرثي الإمام محمد إدريس الشافعي:

 بملتفتيه للمشيب طوالع                            ذوائد عن ورد التصابي روادع

تصرفه طوع العنان وربما                          دعاه الصبا فاقتاده وهو طائع

ومن لم يزعه لبه وحياؤه                          فليس له من شيب فوديه وازع

هل النافر المدعو للحظ راجع                     أم النصح مقبول أم الوعظ نافع

أم الهمك المهموم بالجمع عالم                     بأن الذي يوعي من المال ضائع

وأن قصاراه على فرط ظنه                      فراق الذي أضحى له وهو جامع

ويخمل ذكر المرء بالمال بعده                      ولكن جمع العلم للمرء رافع

ألم تر آثار ابن إدريس بعده                       دلائلها في المشكلات لوامع

معالم يفنى الدهر وهي خوالد                      وتنخفض الاعلام وهي فوارع

منهاهج فيها للهدى متصرف                       موارد فيها للرشاد شوارع

ظواهرها حكم ومستنبطاتها                        حكم التفريق فيها جوامع

لرأي ابن ادريس ابن عم محمد                    ضياء إذا ما أظلم الخطب ساطع

إذا المعضلات المشكلات تشابهت                 سما منه نور في دجاهن صادع

أبى الله إلا رفعه وعلوه                            وليس لما يعليه ذو العرش واضع

توخى الهدى واستنقذته يد التقى                     من الزيغ إن الزيغ للمرء صارع

ولاذ بأثار النبي فحكمه                            لحكم رسول الله في الناس تابع

وعول في أحكامه وقضائه                       على ما قضى التنزيل والحق ناصع

بطئ عن الرأي المخوف التباسه                       إليه إذا لم يخش لبسا مسارع

وأنشاله منشيه من خير معدن                         خلائق هن الباهرات البوارع

تسربل بالتقوى وليدا وناشئا                         وخص بلب الكهل مذهو يافع

وهذب حتى لم تشر بفضيلة                         إذا التمست إلا إليه الأصابع

فمن يك علم الشافعي إمامه                        فمرتعه في ساحة العلم واسع

سلام على قبر تضمن روحه                        وجادت عليه المدجنات الهوامع

لقد غيبت أثراؤه جسم ماجد                     جليلا إذا التفت عليه المجامع

لئن فجعتنا الحادثات بشخصه                     وهن بما حكمن فيه فواجع

فأحكامه فينا بدور زراهره                        وأثاره فينا نجوم طوالع

 

•المراجع:

١ - تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي.

٢ - تاريخ دمشق، لابن عساكر.

٣- التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد، لمحمد بن عبد الغني البغدادي أبو بكر.

4- الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، لابن فرحون.

ه - ترتيب المدارك وتقريب المسالك، القاضي عياض.

٦ - تذكرة الحفاظ، للذهبي.

7- سير أعلام النبلاء، للذهبي.

8- الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء مالك والشافعي وأبي حنيفة، لابن عبد البر.

9- الثقات، لابن حبان.

١٠ - التاريخ الكبير للبخاري.

١١ - المحمدون من الشعراء، للقفطي.

١٢ - كتاب الوفيات، لابن الخطيب.

13- الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي.

•الهوامش:

1- سورة فاطر:٢٨.

2- يقصد به ما يسمى بالكتاب قديما.

٣- أخرجه البخاري (1/39، رقم ٧١)، ومسلم (2/718، رقم ١٠٣٧).

4- سورة الأنبياء: ٦٠.

ه- سورة الكهف: ١٣.

6- أخرجه أبو داود (4/109، رقم ٤٢٩١)، والطبراني في الأوسط (٦/ ٣2٣،

رقم 6527)، والحاكم (4/567، رقم 8592)، قال المناوي (2/282): قال الزين العراقى وغيره: "سنده صحيح"، وصححه الألباني صحيح الجامع (١٨٧٤).

٧ - سورة المطففين:١٥.

8- عن أبي هريرة قال: قال أناس يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا لا يا رسول الله، قال: فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك.." أخرجه البخاري (ج5/ ص ٢٤٠٣ ح6204)، ومسلم (ج ١/ ص163 ح١٨٢).

٩ - ابن عبد البر.

١٠ سورة البقرة: ١٤٣.

١١ سورة المطففين: ١٥.

١٢ أخرجه البخاري (١/14 رقم ١٥).

١٣ - لم أجد وجود لفظ القرابة في الحديث، وإنما وجدته بدون لفظ القرابة منها قوله صلى الله عليه وسلم: (فتنة الأحلاس هرب وحرب، ثم فتنة السراء، دخنها من تحت قدم رجل من آهل بيتي، يزعم أنه مني، وليس مني وإنما أوليائي المتقون) صحيح الجامع (٤١٩٤).

 

مجلة بيت المقدس للدراسات – العدد العاشر

.