فلسطين التاريخ / أعلام بيت المقدس
علماء وفقهاء ومحدِّثون فلسطينيون: موفق الدين ابن قدامة المقدسي
م. نايف فأرس
إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من هده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له.
أما بعد: فإن علماء الإسلام هم حملة هذا الدين العظيم، وهم من نافح وجاهد للحفاظ على هذا الدين من أعدائه المتربصين به.
قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فامطر:28).
ومن هؤلاء العلماء علماء وفقهاء ومحدثون فلسطينيون.
فلسطين كانت تزخر بالعلماء المسلمين ونبوغهم كعلماء وفقهاء ومحدثون.
والكلام على هؤلاء العلماء مما يحفز النفوس ويرفع الهمم. وعليه رأينا أن نبرز هؤلاء العلماء ونتكلم عن سيرهم حتى نوفيهم بعض حقهم علينا ولو بالقدر اليسير.
ونسأل الله آن يوفقنا لأن تكون سيرة هؤلاء العلماء على حلقات مسلسلة.
وآخر دعوانا آن الحمد لله رب العالمين.
موفق الدين ابن قدامة المقدسي
اسمه ونسبه:
هو أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر بن عبد الله المقدسي الجماعيلي ثم الدمشقي الصالحي الفقيه الحنبلي شيخ المذهب الإمام بحر علوم الشريعة المطهرة، الزاهد، شيخ الإسلام، وأحد الأعلام، موفق الدين، أخو الشيخ أبي عمر (محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي).
مولده ونشأته:
ولد بجماعيل إحدى قرى مدينة نابلس في فلسطين - أعادها الله على الإسلام والمسلمين - سنة ٥٤١ ه في أسرة عرفت بالعلم والصلاح، وقدم إلى دمشق مع أهله وعائلته وأقاربه وكان عمره ١٠ سنين، وخرج من بلده صغيرا مع عمه عندما ابتليت بالصلبيين واستقر بدمشق واشترك مع صلاح الدين في محاربه الصلبيين.
أولاده:
قال سبط ابن الجوزي: وكان له أولاد: أبو الفضل محمد، وأبو العز يحيى، وأبو المجد عيسى، ماتوا كلهم في حياته، ولم أدرك منهم غير عيسى؛ وكان من الصالحين.. وله بنات.
قال: ولم يعقب من ولد الموفق سوى عيسى، خلف ولدين صالحين وماتا، وانقطع عقبه.
قال ابن رجب: أما أبو الفضل محمد: فولد فيربع الآخر سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، وكان شابا ظريفا فقيها. تفقه على والده، وسافر إلى بغداد، واشتغل بالخلاف على الفخر إسماعيل. وسمع الحديث.
وتوفى في جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وخمسمائة بهمدان؛ وقد كمل ستا وعشرين
سنة رحمه الله.
وأما أبو المجد عيسى: فيلقب مجد الدين. تفقه وسمع الحديث الكثير بدمشق من جماعة كثيرة من أهلها، ومن الواردين عليها وسمع بمصر من إسماعيل بن ياسين، البوصري، والارتاحي، وفاطمة بنت سعد الخير، وغيرهم - وحدث - ذكره المنذري، قال: ولي الخطابة والإمامة بالجامع المظفري بسفح قاسيون، قال: واجتمعت معه بدمشق، وسمعت معه من والده.
وتوفى في جمادى الأخرة في خامسة - أو سادسة - سنة خمس عشرة وستمائة رحمهم الله تعالى.
أخوه مربيه ولماذا سمي بالصالحي:
محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة الشيخ الصالح أبو عمر المقدسي، باني المدرسة التي بالسفح يقرا بها القرآن العزيز، وهو أخو الشيخ موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، وكان أبو عمر أسن منه، لأنه ولد سنة ثمان وعشرين وخمسمائة بقرية الساويا، وقيل بجماعيل، والشيخ أبو عمر ربى الشيخ موفق الدين وأحسن إليه وزوجه، وكان يقوم بمصالحه، فلما قدموا من الأرض المقدسة نزلوا بمسجد أبي صالح خارج باب شرقي ثم انتقلوا منه إلى السفح، وليس به من العمارة شيء سوى دير الحوراني، قال: "فقيل لنا الصالحيين نسبة إلى مسجد أبي صالح لا أنا صالحون، وسميت هذه البقعة من ذلك الحين بالصالحية نسبة إلينا"، فقرأ الشيخ أبو عمر القرآن على رواية أبي عمرو، وحفظ مختصر الخرقي في الفقه، ثم إن أخاه الموفق شرحه فيما بعد فكتب شرحه بيده.
وصفه الخلقي:
قال الحافظ الضياء: كان تام الخلقه أبيض مشرق الوجه أدعج كأن النور يخرج من وجهه لحسنه واسع الجبين طويل اللحية قائم الأنف مقرون الحاجبين صغير الرأس لطيف اليدين والقدمين نحيف الجسم ممتعا بحواسه.
منزلته العلمية:
كان إماما حبرا مفتيا مصنفا ذا فنون، بحرا لا ينزف، انتهت إليه معرفة مذهب أحمد ولم يكن ف وقته أحد أعلم منه ولا أفقه منه في سائر المذاهب، وكان زاهدا عابدا قانعا عارفا بالله ورسله، له قدم ف التقوى راسخ، يستحق إلى أن تطوى إليه مراحل وفراسخ.
طلبه للعلم:
كان - رحمه الله - من بيت علم وفضل وزهد وورع، ينتهي نسبه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأرضاه-، وكان بيته معروفا بالعلم والإمامة والفقه والحديث، فجمع الله لهم بين علم الحديث رواية ودراية.
حفظ القرآن دون سن البلوغ وحفظ مختصر الخرقي وتعلم أصول الدين، وكتب الخط المليح، وتتلمذ على يد كبار مشايخ دمشق وأعلامها فنبغ، ثم سافر إلى بغداد هو وابن خالته الحافظ عبد الغني المقدسي سنة إحدى وستين، وأقاما بها أربع سنوات يدرس على شيوخها وتفقه فيها هكذا ذكره الضياء، عن أمه، وهي أخت الشيخ، وعاد إلى دمشق سنة سبع وستين كذا قال سبط ابن الجوزي، وحدث وصنف وانتفع به وكان إماما ثقة فاضلا صالحا.
وذكر الناصح ابن الحنبلي: أنه حج سنة أربع وسبعين، ورجع مع وفد العراق إلى بغداد، وأقام بها سنة، فسمع درس ابن المني، قال: "وكنت أنا قد دخلت بغداد سنة اثنتين وسبعين، واشتغلنا جميعا على الشيخ أبي الفتح بن المنى"، ثم رجع إلى دمشق واشتغل. - كتاب "المغني "يشرح الخرقي، فبلغ الأمل في إتمامه، وهو كتاب بليغ ف المذهب، عشر مجلدات، تعب عليه، وأجاد فيه وجمل به المذهب.
وقرأه عليه جماعة وانتفع بعلمه طائفة كثيرة، قال: ومشى عنى سمت أبيه وأخيه في الخير والعبادة، وغلب عليه الاشتغال بالفقه والعلم.
إن الإمام الموفق أبو عبد الله محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، وهو شيخ الإسلام، الإمام العالم العامل الزاهد كان من المبرزين والأئمة المجتهدين الذين اجتهدوا في مذهبهم ونبغوا حتى أصبح لهم الاجتهاد الذي هو خارج مذهبهم.
وكان الإمام ابن قدامة - رحمه الله- من أئمة العلم ودواوين العلم والعمل.
وأقام رحمه الله عند الشيخ عبد القادر بمدرسته مدة يسيرة، فقرا عليه من الخرقى، ثم توفى الشيخ، فلازم أبا الفتح بن المنى. وقرا عليه المذهب، والخلاف والأصول حتى برع.
وكان-رحمه الله- قد راعى في علم الفقه ثلاث مراتب:
ألف فيها كتاب: العمدة، ثم المقنع، ثم الكافي، وهذه داخل المذهب الحنبلي.
ثم ألف: المغني مقارنا للمذاهب وكتابا مطولا جامعا بين فقه الحنابلة وفقه غيرهم مع ذكر الأدلة وبعض الردود والمناقشات وبيان الاختيار.
سماعه:
سمع من والده وسمع بدمشق وسمع ببغداد من أبي الفتح بن البطي وأبا بكر بن النقور وعلي بن تاج القراء، وسعد الله بن الدجاجي، ومسلم بن ثابت الوكيل وأبي زرعة المقدسي وأبي المكارم بن هلال البادرائي وشهدة ومن أبي الحسن علي بن عبد الرحمن بن محمد الطوسي وأبي المعالي بن صابر ومن بعدهم في خلق كثير.
وحصل طرفا صالحا من الفقه والأصول.
سمع وروى مسند الشافعي وسنن ابن ماجه عن أبي زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي وغير ذلك وكان من المكثرين والأئمة.
وسمع على يحيى بن ثابت بن بندار البقال كتاب المستخرج على "صحيح البخاري" لأبي بكر بن الإسماعيلي.
وسمع الكثير من هبة الله الدقاق، والشيخ عبد القادر، وابن تاج الفراء، وابن شافع، ويحيى بن ثابت، والمبارك بن خضير، وأبي بكر بن النقور، وسمع بمكة من المبارك ابن الطباخ، وبالموصل من خطيبها أبي الفضل.
ذكر من روى عنه:
وروى عنه الحافظ الضياء والبهاء عبد الرحمن وعامة المقادسة وأبو عبد الله البرزالي وأبو الحجاج بن خليل وخلق كثير.
يقول الذهبي - رحمه الله -: وحدثنا عنه التاج عبد الخالق ببعلبك والعماد عبد الحافظ بنابلس وأبو الفهم السلمي بدمشق وإسماعيل بن الفراء وأخته وابن عمه وأحمد بن العماد وزينب بنت الواسطي وأخوها محمد ويوسف بن غالية بالجبل وغيرهم. (انتهى).
وسمع منه الحديث خلائق من الأئمة والحفاظ وغيرهم، وسمع منه الحافظ المنذري والفخر بن البخاري، وروى عنه ابن الدبيثي، والضياء، وابن خليل.
وسمع منه ببغداد رفيقه أبو منصور عبد العزيز بن طاهر بن ثابت الخياط المقري سنة ثمان وستين وخمسمائة.
من مشايخه رحمه الله:
• عبد الرحمن بن علي بن الجوزي إمام عصره في الوعظ صاحب التصانيف الكثيرة وقد حدث عنه.
• عبد القادر بن عبدالله الجيلي أو الجيلاني شيخ بغداد العالم الزاهد المعروف.
• شهدة بنت أحمد بن الفرج الدينورية فخر النساء الكاتبة المعمرة مسندة العراق كانت دينة عابدة صالحة كان لها بر وخير سمع عليها خلق كثير وكان لها السماع العالي ألحقت فيه الأصاغر بالأكابر وكان سماعها صحيحا واشتهر ذكرها وبعد صيتها.
• هبة الله بن الحسن العجلي السامري المعروف بابن الدقاق ، كان مسند بغداد صحيح الرواية متدينا وهو أقدم مشايخ موفق الدين.
وخرج لنفسه مشيخة في جزء ضخم.
وقد تتلمذ على يديه علماء كتيرون منهم.
تفقه على الشيخ موفق الدين خلق كثير؛ منهم عبد الرحمن بن عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي الفقيه الزاهد وكان يؤم معه في جامع بني أمية بمحراب الحنابلة وهو صاحب تصانيف نافعة وكان ربانيا دينا حافظا.
وعبد العظيم بن عبد القوي المنذري، المحدث والفقيه الشافعي المعروف، لم يكن في زمانه احفظ منه وهو صاحب كتاب "الترغيب والترهيب".
وعثمان بن عبد الرحمن الكردي أبو عمرو المعروف بابن الصلاح كان من كبار الأئمة حافظا ورعا زاهدا له مقدمة مشهورة في علم الحديث.
ومنهم ابن أخيه الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر، والمراتبي.
أقوال العلماء وأئمة الأمة فيه رحمه الله:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لم يدخل الشام بعد الأوزاعي فقيه أعلم من موفق الدين.
وقال الصفدي: كان أوحد زمانه إمام في علم الخلاف والفرائض والأصول والفقه والنحو والحساب والنجوم السيارة والمنازل.
وقد وصفه الذهبي بأنه كان من بحور العلم وأذكياء العالم.
وقال الكتبي - صاحب فوات الوفيات -: كان إماما حجة مصنفا متفننا محررا متبحرا في العلم كبير القدر.
ويقول ابن رجب الحنبلي: الفقيه الزاهد الإمام شيخ الإسلام وأحد الأعلام، وقال أيضا: هو إمام الأئمة ومفتي الأمة خصه الله بالفضل الوافر والخاطر الماطر.
ونقل الذهبي عن الضياء المقدسي قوله: سمعت المفتي أبا بكر محمد بن معالي بن غنيمة يقول: ما أعرف أحدا في زماننا أدرك درجة الاجتهاد إلا الموفق.
ولما أراد الخروج من بغداد قال شيخه أبو الفتح بن المني: إذا خرج هذا الفتى من بغداد احتاجت إليه. ذكر ذلك الحافظ الضياء.
وقال فيه الإمام أبو عمرو بن الصلاح: ما رأيت مثله.
وجمع له الحافظ الضياء سيرة في جزءين في اشتغاله وعلمه وزهده ومناقبه وأحواله.
وقال سبط ابن الجوزي: كان إماما في فنون، ولم يكن فيزمانه - بعد أخيه أبي عمر والعماد - أزهد ولا أورع منه، وكان كثير الحياء، عزوفا عن الدنيا وأهلها هينا لينا متواضعا، محبا للمساكين حسن الأخلاق، جوادا سخيا. من رآه كأنه رأى بعض الصحابة. وكأنما النور يخرج من وجهه، كثير العبادة، يقرأ كل يوم وليلة سبعا من القرآن، ولا يصلي ركعتي السنة في الغالب إلا في بيته، اتباعا للسنة، وأن يحضر مجالس دائما في جامع دمشق وقاسيون.
وقال أيضا: شاهدت من الشيخ أبي عمر، وأخيه الموفق، ونسيبه العماد: ما ترويه عن الصحابة والأولياء الأفراد، فأنساني حالهم أهلي وأوطاني، ثم عدت إليهم على نية الاقامة، عسى أن أكون معهم في دار المقامة.
وقال ابن النجار: كان الشيخ موفق الدين إمام الحنابلة بالجامع. وكان ثقة حجة نبيلا، غزير الفضل، كامل العقل، شديد التثبت، دائم السكون، حسن السمت، نزها ورعا عابدا على قانون السلف، على وجهه النور، وعليه الوقار والهيبة، ينتفع الرجل برؤيته قبل أن يسمع كلامه، صنف التصانيف المليحة في المذهب والخلاف، وقصده التلامذة والأصحاب، وسار اسمه في البلاد، واشتهر ذكره، وكان حسن المعرفة بالحديث، وله يد في علم العربية.
وقال عمر بن الحاجب الحافظ في معجمه: هو إمام الأئمة، ومفتي الأمة. خصه الله بالفضل الوافر، والخاطر الماطر، والعلم الكامل. طنت ف ذكره الأمصار، وضنت بمثله الأعصار. قد أخذ بمجامع الحقائق النقلية والعقلية. فأما الحديث: فهو سابق فرسانه. وأما الفقه: فهو فارس ميدانه، أعرف الناس بالفتيا. وله المؤلفات الغزيرة، وما أظن الزمان يسمح بمثله، متواضع عند الخاصة والعامة، حسن الاعتقاد، ذو أناة وحلى ووقار.
وكان مجلسه عامرا بالفقهاء والمحدثين وأهل الخير، وصار في آخر عمره يقصده كل أحد، وكان كثير العبادة دائم التهجد، لم ير مثله، ولم ير مثل نفسه.
وقال أبو شامة: كان شيخ الحنابلة موفق الدين إماما من أئمة المسلمين، وعلما من أعلام الدين في العلم والعمل؛ صنف كتبا حسانا في الفقه وغيره، عارفا بمعاني الأخبار والآثار، سمعت علية أشياء. وكان بعد موت أخيه أبي عمر هو الذي يؤم بالجامع المظفري، ويخطب يوم الجمعة إذا حضر. فإن لم يحضر فعبد الله بن أبي عمر هو الخطيب والإمام. وأما بمحراب الحنابلة بجامع دمشق فيصلي فيه الموفق إذا كان حاضرا في البلد، وإذا مضى إلى الجبل صلى العماد أخو عبد الغني، وبعد موت العماد: كان يصلي فيه أبو سليمان بن الحافظ عبد الغني، ما لم يحضر الموفق وكان بين العشائين يتنقل حذاء المحراب. وجاءه مرة الملك العزيز بن العادل يزوره، فصادفه يصلي، فجلس بالقرب منه إلى أن فرغ من صلاته. ثم اجتمع به ولم يتجوز في صلاته. وكان إذا فرغ من صلاة العشاء الأخرة يمضي إلى بيته بالرصيف، ومعه من فقراء الحلقة من قدره الله تعالى. فيقدم لهم ما تيسر يأكلونه معه.
قال الضياء: كان رحمه الله إماما ف القرآن وتفسيره، إماما ف علم الحديث ومشكلاته، إماما في الفقه بل أوحد زمانه فيه، إماما في علم الخلاف، أوحد زمانه في الفرائض، إماما في أصول الفقه، إماما في النحو، إماما في الحساب، إماما في النجوم السيارة والمنازل. قال: ولما قدم بغداد قال له الشيخ أبو الفتح بن المنى: اسكن هنا؛ فإن بغداد مفتقرة إليك، وأنت تخرج من بغداد ولا تخلف فيها مثلك.
قال ابن رجب: وكان شيخنا العماد يعظم الشيخ الموفق تعظيما كثيرا، ويدعو له، ويقعد بين يديه، كما يقعد المتعلم من العالم.
وسمعت أبا عمرو بن الصلاح المفتي يقول: ما رأيت مثل الشيخ الموفق.
وقال الشيخ عبد الله اليونيني: ما أعتقد أن شخصا ممن رأيته حصل له من الكمال في العلوم والصفات الحميدة التي يحصل بها الكمال سواه. فإنه رحمه الله كان كاملا في صورته ومعناه من الحسن والإحسان، والحلم والسؤدد والعلوم المختلفة، والأخلاق الجميلة، والأمور التي ما رأيتها كملت في غيره. وقد رأيت من كرم أخلاقه، وحسن عشرته، ووفور حلمه، وكثرة علمه وغزير فطنته، وكمال مروءته، وكثرة حيائه، ودوام بشره، وعزوف نفسه عن الدنيا وأهلها، والمناصب وأربابها: ما قد عجز عنه كبار الأولياء. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما أنعم الله على عبد نعمة أفضل من أن يلهمه ذكره "فقد ثبت بهذا أن إلهام الذكر أفضل من الكرامات، وأفضل الذكر ما يتعدى نفيعه إلى العباد، وهو تعليم العلم والسنة، وأعظم من ذلك وأحسن: ما كان جبلة وطبعا، كالحلم والكرم والعقل والحياء، وكان الله قد جبله على خلق شريف، وأفرغ عليه المكارم إفراغا، وأسبع عليه النعم، ولطف به في كل حال.
قال: وكان لا يناظر أحدا إلا وهو يتبسم، حتى قال بعض الناس: هذا الشيخ يقتل خصمه بتبسمه.
قال: وأقام مدة يعمل حلقة يوم الجمعة بجامع دمشق، يناظر فيها بعد الصلاة. ثم ترك ذلك في آخر عمره. وكان يشتغل عليه الناس من بكرة إلى ارتفاع النهار. ثم يقرا عليه بعد الظهر، إما من الحديث أو من تصانيفه إلى المغرب. وربما قرا عليه بعد المغرب وهو يتعشى. وكان لا يرى لأحد ضجرا؛ وربما تضرر في نفسه ولا يقول لأحد شيئا. (انتهى).
كتابه المغني ..نموذجا لمؤلفاته :
وهو في ست عشرة مجلدة ويعد المغني من أهم المراجع الفقهية للمذهب الحنبلي - إن لم يكن أهمها على الإطلاق - والمغني ليس كتاب مذهب فقط، وإنما هو موسوعة جامعة في الفقه المقارن؛ حشد فيه صاحبه الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، وتحرى مسايرة آراء الإمام أحمد بن حنبل فيما ذهب إليه من ترجيحات، لكنه كان يعرض آراء المذاهب الأخرى في موضوعية علمية منقطعة النظير..
بدا المغني بكتاب الطهارة، وختم بكتاب عتق أمهات الأولاد؛ والكتاب ذو قيمة علمية
ضخمة، ولقد قسمه ابن قدامة إلى كتب، وأبواب، وفصول، ومسائل في عرض ممتع جذاب.
وقد ضمنه أقوال الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار، وحكى أدلة كل واحد منهم بأمانة ووضوح ودونما تعصب.
قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام: ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثله في جودته وتحقيق ما فيه، ولم تطب نفسي بالفتيا حتى صارت نسخة من المغني عندي.
قال الإمام الذهبي: ولم يصنف في الإسلام أحسن منه.
قال الحافظ الضياء: رأيت الإمام أحمد بن حنبل في النوم وألقى علي مسألة في الفقه؛
فقلت: هذه في الخرقي؛ فقال: ما قصر صاحبكم الموفق في شرح الخرقي.
وقرأت بخط الحافظ الدبيثي قال: سمعت الشيخ علاء الدين المقدسي - قلت: وقد أجاز لي المقدسي هذا - قال: سمعت شيخنا أبا العباس ابن تيمية - قال الذهبي: وأظنني سمعت من شيخنا ابن تيمية - يقول: قال لي الشيخ الدين عبد الرحمن بن إبراهيم القزازاي: كان الشيخ عز الدين بن عبد السلام شيخنا يرسلني أستعير له المحلى والمجلى من ابن عربي، وقال: قال الشيخ عز الدين: ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل المحلى والمجلى، وكتاب المغني للشيخ موفق الدين بن قدامة في جودتهما وتحقيق ما فيها ونقل عن ابن عبد السلام أيضا أنه قال: لم تطب نفسي بالفتيا حتى صار عندي نسخة المغني.
وقد سبق قول الناصح ابن الحنبلي في مدح المغني، مع أنه كان قد يسامي الشيخ في زمانه.
وللشيخ يحيى الصرصري في مدح الشيخ وكتبه، في جملة القصيدة الطويلة اللامية:
وفي عصرنا كان الموفق حجة... على فقهه، بثبت الأصول محولي
كفى الخلق بالكافة، وأقنع طالبا ... بمقنع فقه من كتاب مطول
وأغنى بمغني الفقه من كان باحثا... وعمدت من يعتمدها يحصل
وروضة ذات الأصول كروضة ... أماست بها الأزهار أنفاس شمأل
تدل على المنطوق وأوفى دلالة... وتحمل في المفهوم أحسن محمل
قصة طريفة تروى عنه:
ومن أظرف ما حكي عنه: أنه كان يجعل في عمامته ورقة مصرورة فيها رمل يرمل به ما يكتبه للناس من الفتاوى والإجازات وغيرها. فاتفق ليلة خطفت عمامته، فقال لخاطفها: يا أخي خذ من العمامة الورقة المصرورة بما فيها ورد العمامة أغطي بها رأسي وأنت في أوسع الحل مما ف الورقة. فظن الخاطف أنها فضة ورآها ثقيلة، فأخذها ورد العمامة. وكانت صغيرة عتيقة؛ فرأى أخذ الورقة خيرا منها بدرجات. فخلص الشيخ عمامته بهذا الوجه اللطيف.
ذكر شيء من كراماته:
قال سبط ابن الجوزي: حكى أبو عبد الله بن فضل الأعتاكي قال: قلت في نفسي: لو كان لي قدرة لبنيت للموفق مدرسة، وأعطيته كل يوم ألف درهم. قال: فجئت بعد أيام، فسلمت عليه، فنظر إلي وتبسم، وقال: إذا نوى الشخص نية كتب له أجرها.
وحكى أبو الحسن بن حمدان الجرائحي قال: كنت أبغض الحنابلة، لما شنع عليهم من سوء الاعتقاد. فمرضت مرضا شنج أعضائي، وأقمت سبعة عشر يوما لا أتحرك، وتمنيت الموت؛ فلما كان وقت العشاء جاءني الموفق، وقرا علي آيات وقال: وننزل من القرآن ما هو شفاء للناس ورحمة للمؤمنين " ومسح على ظهري فأحسست بالعافية، وقام.
فقلت: يا جارية، افتحي له الباب. فقال: أنا أروح من حيث جئت. وغاب عن عيني، فقمت من ساعتي إلى بيت الوضوء. فلما أصبحت دخلت الجامع، فصليت الفجر خلف الموفق، وصافحته، فعصر يدي وقال: احذر أن تقول شيئا. فقلت: أقول وأقول.
وقال قوام جامع دمشق؛ كان ليلة يبيت في الجامع، فتفتح له الأبواب فيخرج ويعود، فتغلق على حالها.
وحدث العفيف كتائب بن أحمد بن مهدي بن البانياسي - بعد موت الشيخ الموفق بأيام - قال: رأيت الشيخ الموفق على حافة النهر يتوضأ؛ فلما توضأ أخذ قبقابه ومشى على الماء إلى الجانب الآخر، ثم لبس القبقاب - وصعد إلى المدرسة - يعني مدرسة أخيه أبي عمر - ثم حلف كتائب بالله لقد رأيته، ومالي في الكذب حاجة، وكتمت ذلك في حياته. فقيل له: هل رآك؟ قال: لا؛ ولم يكن ثم أحد، وذكر وقت الظهر؛ فقيل له: هل كانت رجلاه تغوص في الماء؟ قال: لا، كأنه يمشي على وطاء رحمه الله.
وقرأت بخط الحافظ الذهبي: سمعت رفيقنا أبا طاهر أحمد الدريبي سمعت الشيخ إبراهيم بن أحمد بن حاتم - وزرت معه قبر الشيخ الموفق - فقال: سمعت الفقيه محمد اليونيني شيخنا يقول: رأيت الشيخ الموفق يمشي على الماء.
وفاته:
توفي رحمه الله يوم السبت يوم عيد الفطر سنة عشرين وستمائة بمنزله بدمشق وصلى عليه من الغد، وحمل إلى سفح قاسيون خلف الجامع المظفري؛ فدفن به، وكان له جمع عظيم امتد الناس في طرق الجبل فملؤوه.
قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: حكى إسماعيل بن حماد الكاتب البغدادي قال: رأيت ليلة عيد الفطر كأن مصحف عثمان قد رفع من جامع دمشق إلى السماء؛ فلحقني غم شديد؛ فتوفى الموفق يوم العيد.
قال: ورأى أحمد بن سعد - أخو محمد بن سعد الكاتب المقدسي، وكان أحمد هذا من الصالحين - قال: رأيت ليلة العيد ملائكة ينزلون من السماء جملة، وقائل يقول: انزلوا بالنوبة؛ فقلت: ما هذا؟ قالوا: ينقلون روح الموفق الطيبة في الجسد الطيب.
قال: وقال عبد الرحمن بن محمد العلوي: رأيت كأن النبي صلى الله عليه وسلم مات، وقبر بقاسيون يوم عيد الفطر.. قال: وكنا بجبل بني هلال؛ فرأينا على قاسيون ليلة العيد ضوءا عظيما، فظننا أن دمشق قد احترقت. وخرج أهل القرية ينظرون إليه، فوصل الخبر بوفاة الموفق يوم العيد، ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى.
ومما رثى به الشيخ موفق الدين رحمه الله ما قاله فيه الشيخ صلاح الدين أبو عيسى موسى بن محمد بن خلف بن راجح المقدسي في قصيدة له:
لم يبق لي بعد الموفق رغبة في العيش إن العيش سم منقع
صدر الزمان وعينه وطرازه ركن الأنام الزاهد المتورع
بحر العلوم أبو الفضائل كله شمل الشريعة بعده لا يجمع
كان ابن أحمد في مقام محمد إن هالهم أمر إليه يفزعوا
فيبين مشكله، ويوضح سره ويذب عن دين الإله ويدفع
ببصيرة يجلو الظلام ضباؤه يبدي العجائب، نورها يتشعشع
فاليوم قد أضحى الزمان وأهله غرضا لكل بلية تتنوع
والعلم قد أمسى كأن بواكينا تبكي عليه وحبله ينقطع
وتعطلت تلك المجالس، وانقضت تلك المحافل، ليتها لو ترجع
هيهات بعدك يا موفق يرتجى للناس خير، أو مقال يسمع
لله درك كم لشخصك من يد بيضاء في كل الفضائل ترتع
قد كنت عبدا طائعا لا تنثني عن باب ربك في العبادة توسع
كم ليلة أحييتها وعمرتها والله ينظر والخلائق هجع
تتلو كتاب الله في جنح الدجى كزبور داود النبي ترجع
لو كان يمكن من فدائك رخصة لفدتك أفئدة عليك تقطع
من تصانيفه:
صنف الشيخ الموفق رحمه الله التصانيف الكثيرة الحسنة في المذهب، فروعا وأصولا و الحديث، واللغة، والزهد، والرقائق. وتصانيفه في أصول الدين في غاية الحسن، أكثرها على طريقة أئمة المحدثين، مشحونة بالأحاديث والأثار، وبالأسانيد، كما هي طريقة الإمام أحمد وأئمة الحديث. ولم يكن يرى الخوض مع المتكلمين في دقائق الكلام، ولو كان بالرد عليهم. وهذه طريقة أحمد والمتقدمين. وكان كثير المتابعة للمنقول في باب الأصول وغيره، لا يرى إطلاق ما لم يؤثر من العبارات، ويأمر بالإقرار والإمرار لما جاء في الكتاب والسنة من الصفات، من غير تفسير ولا تكييف، ولا تمثيل ولا تحريف، ولا تأويل ولا تعطيل.
فمن تصانيفه ف أصول الدين "البرهان ف مسألة القرآن " جزء " جواب مسألة وردت من صرخد في القرآن جزء" الاعتقاد" جزء" مسألة العلو "جزآن" ذم التأويل" جزء كتاب القدر " جزآن " فضائل الصحابة " جزآن. وأظنه " منهاج القاصدين يفضل الخلفاء الراشدين رسالة "إلى الشيخ فخر الدين ابن تيمية في تخليد أهل البدع في النار" مسألة "فتحريم النظر في كتب أهل الكلام.
ومن تصانيفه في الحديث" مختصر العلل" للخلال، مجلد ضخم مشيخة شيوخه " جزء، وأجزاء كثيرة خرجها.
ومن تصانيفه في الفقه " المغني في الفقه " عشر مجلدات" والعا ي الفقه "أربع مجلدات "والمقنع في الفقه "مجلد "ومختصر الهداية " مجلد "والعمدة " مجلد صغير "ومناسك الحج "جزء وذم الوسواس جزء، وفتاوى ومسائل منثورة، ورسائل شتى كثيرة.
ومن تصانيفه في أصول الفقه "الروضة " مجلد.
وله في اللغة والأنساب ونحو ذلك" قنعة الأريب ف الغريب" مجلد صغير" التديين في نسب القرشيين " مجلد "الاستبصار في نسب الأنصار " مجلد.
وله ؤ الفضائل والزهد والرقائق ونحو ذلك" كتاب التوابين " جزآن" كتاب المتحابين في الله "جزآن" كتاب الرقة والبكاء " جزآن" فضائل عاشوراء جزء" فضائل العشر " جزء.
وانتفع بتصانيفه المسلمون عموما، وأهل المذهب خصوصا. وانتشرت واشتهرت بحسن قصده وإخلاصه تصنيفها. ولا سيما كتاب المفني " فإنه عظم النفع به، وأكثر الثناء عليه.
وللشيخ موفق الدين نظم كثير حسن وقيل. إن له قصيد في عريص اللغة طويلة. وله مقطعات عن الشعر؛ فمنها قوله:
أتغفل يا ابن أحمد والمنايا شوارع تختر منك عن قريب
أغرك أن تخطيك الرزايا فكم للموت من سهم مصيب؟
كؤوس الموت دائرة علينا وما للمرء بد من نصيب
إلى كم تجعل التسويف دأبا أما يكفيك إنذار المشيب؟
أما يكفيك آنك كل حين تمر بغير خل أو حبيب؟
كأنك قد لحقت بهم قريبا ولا يغنيك إفراط النحيب
قال سبط ابن الجوزي: وأنشدني الموفق لنفسه:
أبعد بياض الشعر أعمر مسكنا سوى القبر؟ إني إن فعلت لأحمق
يخبرني شيبي بأني ميت وشيكا وينعاني إلي، فيصدق
تخرق عمري كل يوم وليلة فهل مستطيع رفق ما يتخرق
كأني بجسمي فوق نعشي ممددا فمن ساكت أو معول يتحرق
إذا سئلوا عني أجى بوا وأعولوا وأدمعهم تنهل: هذا الموفق
وغيبت في صدع من الأرض ضيق وأودعت لحدا فوقه الصخر مطبق
ويحثو علي الترب أوثق صاحب ويسلمني للقبر من هو مشفق
فيا رب كن لي مؤنسا يوم وحشتي فإني لما أنزلته لمصدق
وما ضرني إني إلى الله صائر ومن هو من أهلي أبر وأرفق
قال أبو شامة: ونقلت من خطه:
لا تجلس بباب من يأبى عليك دخول داره
ويقول حاجاتي إليه يعوقها إن لم أداره
وأتركه وأقصد ربها تقضى ورب الدار كاره
ونختصر أهم تصانيفه رحمه الله:
1. العمدة.
2. المقنع
3. الكافي في فقه الإمام أحمد.
4. المغني، وهو أكبر كتبه ومن كتب الإسلام المعدودة.
5. الاستبصار، في الأنساب.
6. الاعتقاد.
7. التوابين.
8. ذم التأويل
9. ذم الوسواس.
10.روضة الناضر وجنة المناظر.
11.فضائل الصحابة.
12.القدر.
13.لمعة الاعتقاد.
14.مسألة في تحريم النظر في علم الكلام.
15.مناسك الحج.
16.التبيين في أنساب القرشيين.
17.المنتخب من علل الخلال.
18.نسب الأنصار.
19.غريب اللغة.
20.الرقة.
21.مختصر الهداية.
ذكر نبذة من فتاويه، ومسائله من غير كتبه المشهورة:
قال الشيخ موفق الدين في مسألة: ما إذا اجتمع جنب وحائض، ووجدا من الماء ما يكفي أحدهما. قال: إن كانت المرأة زوجة للرجل، فهي أحق؛ لأنها تبيح له الوط»، وهو يرجع إلى بدل، وإن كانت أجنبية منه، فهو أحق؛ لأنه يستبيح الصلاة، وهى ترجع إلى التيمم.
وسئل إذا أعتقت الجارية: هل يجب عليها أن تستبرئ نفسها بحيضة، آم بثلاث؟ قال: إن كانت تعلم أن سيدها لم يكن يطؤها، لم يجب عليها الاستبراء إلا في صورة واحدة، وهي فيما إذا اشتراها فأعتقها، فأراد أن يتزوجها: يجب عليها الاستبراء بحيضة، وإن كانت تعلم أنه كان يطؤها: وجب عليها استبراء نفسهما بحيضة، وإلحاقها بالإماء أولى من إلحاقها بالحرائر، لأن المقصود هو الاستبراء، وذلك حاصل بحيضة واحدة، ولأن الثلاث:
إما عدة عن نكاح، أو ما يشبهه وهو الوطء بالشبهة، وكل واحد منهما منتف هنا.
وقال فيما إذا اتفقت الجارية من غير قصد البائع: يتخير كما يتخير لو قصدها، وفيما إذا ردها المشتري بعيب سوى التصرية: يجب الصاع من التمر، قيل له: هي من ضمانه، فيكون اللبن بمنزلة الخراج؟ قال: اللبن ورد عليه العقد، وكان موجودا بخلاف غيره من المنافع والخراج.
وسئل عن الجارية المشتركة ببن جماعة: هل يجوز لكل واحد النظر إلى عورتها: فقال: لا يجوز ذلك، وخالف هذا ما إذا كان العبد مشتركا بين نساء يجوز لهن النظر إليه، لأن المجوز للنظر ههنا هو الحاجة إلى الاستخدام، وهو موجود في العبد المشترك، والنظر إلى عورة الجارية: إنما جاز لتمكنه من الوطء، وهو ههنا منتف للاشتراك.
وسئل إذا كان على أعضاء وضوئه كلها جراحة، أيجزيه أن يغسل الصحيح ثم يتيمم لهما تيمما واحدا؟ قال: لا، بل يغسل العضو الأول ويتيمم له، وكذلك الثاني والثالث والرابع، فيتيمم أربع تيممات.
وقال فيمن أعتق أباه في مرض موته: الأقيس أنه لا يرث، والمذهب الإرث.
وقال أبو الخطاب: إذا أقر في مرض موته بعتق ابن عمه، يعتق ولا يرث.
ومما نقلته من خط السيف بن المجد من فتاوى جده موفق الدين - وقد سئل عن معاملة من في ماله حرام. فأجاب: الورع: اجتناب معاملة من في ماله حرام، فإن من اختلط الحرام في ماله: صار في ماله شبهة بقدر ما فيه من الحرام، إن كثر الحرام كثرت الشبهة، وإن قل قلت، وذكر حديث" الحلال بين، والحرام بين" وأما في ظاهر الحكم: فإنه يباح معاملة من لم يتعين التحريم في الثمن الذي يؤخذ منه؛ لأن الأصل: أن ما في يد الانسان ملكه وقد قال بعض السلف: بع الحلال ممن شئت، يعني إذا كانت بضاعتك حلالا فلا حرج عليك في بيعها ممن شئت، ولكن الورع: ترك معاملة من في ماله الشبهات، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك .
وسئل عما إذا تعين ثمن خمر أو خنزير من الكافر: ما الحكم في أخذه منهم، يعني بعقد ونحوه؟ وكان قد أجاب قبله ابن المتقنة الرحبي الشافعي: لا يجوز ذلك، إذا تعين. فأجاب الشيخ موفق الدين: الأولى تركه. ويجوز أخذه إذا كان جائزا في دينهم؟ لأننا أقررناهم على ما يعتقدون من دينهم.
وسئل عن خلافة أبي بكر: ثبتت بالنص أو بالقياس؟ فأجاب ابن المتقنة: شت بإجماع الصحابة واتفاقهم فكتب الشيخ الموفق: ثبتت بنص النبي صلى الله عليه وسلم، في أخبار كثيرة، ذكر بعضها.
وسئل ابن المتقنة فبعض ذكر الحرب تكرر "حرب عوان" ما العوان ف اللغة؛ فأجاب: العوان اشد ما يكون؛ فضرب الشيخ على الجواب وكتب: الحرب التي تقدمها حرب أخرى.
قال السيف: وكتب ابن الجوزي عن كلام شيخ الإسلام الأنصاري: كان عبد الله الأنصاري يميل إلى التشبيه. فلا يقبل قوله، فألحق جدي: حاشاه من التشبيه، ولا يقبل قول ابن الجوزي فيه.
وقال في القرية التي فيها أربعون، يسمعون النداء من المصر: إنهم مخيرون بين إقامة الجمعة بها، وبين السعي إلى المصر. قال: وهو أولى للخروج من الخلاف. قال: فإن كانت قرية فيها أربعون. وقرية فيها دون الأربعين: فإن مضى الأقل إلى الأكثر، فأقام عندهم الجمعة: جاز، وبالعكس لا يجوز، وإن جاء إلى أهل الأربعين إمام من غيرهم فأقام بهم الجمعة: جازة لأنه ممن تجب عليه الجمعة، فجاز أن يكون إماما لغيره من أهل القرية.
ونقل ابن حمدان الحرائي: أن قاضي حران أرسل سؤالا إلى الشيخ موفق الدين في وكيل الغائب، إذا طالب بدين موكله، فادعى المدين: أن موكله قد استوفى دينه فهل للقاضي دفع الوكيل ومنعه من الاستيفاء، حتى يحلف الموكل: أنه ما استوفى ولا أبرا؟
فأجاب الشيخ موفق الدين: إن الوكيل لا يتمكن من الاستيفاء، من غير يمين موكله، وعلل بأن الموكل لو كان حاضرا ما استحق الاستيفاء بغير يمين، والوكيل قائم مقامه.
وذكر ابن حمدان: أن الناصح بن أبي الفهم أنكر ذلك. وقال: لا خلاف في المذهب أن الوكيل لا يمتنع من الاستيفاء بذلك. وأخرج كلام القاضي وابن عقيل في المجرد بما يقتضي ذلك. وذكر عن بعض الشافعية: أنه حكى في هذه المسألة خلافا بينهم.
قال الناصح: وقد ذكر الموفق في الكاف: أن الدعوى على الغائب لا تسمع إلا ببينة، ودعوى المدين الإبراء والاستيفاء ههنا دعوى بلا بينة على غائب، فكيف تسمع؟ ثم أرسل هذا إلى الشيخ الموفق.
فأجاب: أما المسألة التي في الوكالة: فانما أفتيت فيها باجتهادي، بناء على ما ذكرت في التعليل؛ فإذا ظهر قول الأصحاب وغيرهم بخلافه فقولهم أولى. والرجوع إلى قولهم متعين، لكن ما ذكره بعض الشافعية يدل على أنها مختلف فيها، وأنها مما يسوغ فيه الاجتهاد. وأما قولي وقول الفقهاء " لا تسمع الدعوى على الغائب إلا ببينة " فإنما أريد بها الدعوى التي إذا سكت صاحبها ترك، وإذا سكت المدعي عليه لم يترك؛ لأن سماع هذه الدعوى لا يفيد شيئا. إذ مقصودها القضاء على المدعى عليه. فاذا خلت عن بينة، ولم يكن المدعى عليه حاضرا، لم تفد الدعوى شيئا. إذ لا يمكن القضاء بغير بينة، ولا إقرار، ولا نكول، ولا رد يمين. والدعوى ههنا تراد للمنع من القضاء عليه. وذلك ممكن مع الغيبة، وسماع الدعوى مفيد.
ومن مباحثه الحسنة: نقلت من خط بهاء الدين عبد الرحمن المقدسي: سئل شيخنا موفق الدين عن قول الخرقي: وإن أقر المحجور عليه بما يوجب حدا أو قصاصا، أو طلق زوجته لزمه ذلك. وإن أقر بدين لم يلزمه في حال حجره، ما الفرق بينهما؟ فقال: الفرق بينهما: أن الإقرار بالدين إقرار بالمال، والمال محجور عليه فيه. فلو قبلنا إقراره في المال أتى ذلك إلى فوات مصلحة الحجر، وهو أنه يقر لهذا بدين ولهذا؛ فيفوت عليه ماله؛ فلا يلزمه الإقرار فيه. وأما الإقرار بالحد والقصاص أو طلاق الزوجة: فإنه إقرار بشيء لم يحجر عليه فيه، فلزمه، كما لولده آن يحجر عليه. وأيضا فانه إذا لزمه الإقرار ف الحد والقصاص أدى إلى فوات حقه. وإذا لزمه الاقرار في المال أدى إلى فوات حقوق الغرماء. فلزمه الإقرار على نفسه، ولم يلزمه فيما يعود إلى غيره.
فقيل له: على هذا: أن الإقرار بالحد أيضا يؤدي إلى فوات حقوق الغرماء فيما كان الحاكم قد أخذه ليقضي دينه، على الرواية التي تقول: إنه إذا كان ذا صنعة، فإن الحاكم يؤجره ليقضي بقية دينه. ومع هذا فقد ألزمناه بالاقرار.
فقال: إنما يفوت ضمنا وتبعا. ويصير كما نقول في الزوجة: إنها إذا أقرت بالحد أو القصاص لزمها، وإن فات حق الزوج.
فقيل له: فما تقول في الحامل إذا أقرت بما يوجب حدا أو قصاصا، أليس إنه ينتظر بها حتى تلد؟ فقال: ههنا يمكن الجمع بين الحقين، فخلاف ما نحن فيه.
قلت: قد يقال في صورة إيجار المفلس لوفاء بقية دينه: كان يمكن الجمع بين الحقين بتأخير استيفاء القصاص إلى أن يوفي الدين من كسبه.
وقد يجاب عنه بأن الحامل أخرت لئلا تزهق بالاستيفاء منها نفس معصومة. فلا فرق بين أن يثبت الحد أو القصاص عليها بالإقرار أو البينة. وههنا لو ثبت الحد أو القصاص ببينة لم يؤخر إلى أن يوفي بقية الدين. فكذا إذا ثبت بالإقرار فإن التهمة في مثل هذا ومن فتاويه المتعلقة بعلم الحديث - نقلتها من خط الحافظ أبي محمد البرزالي رحمه الله:
سئل: هل تجوز الرواية من نسخة غير معارضة؟
فأجاب: إذا كان الكاتب معروفا بصحة النقل وقلة الغلط جازت الرواية.
وسئل: إذا لم يذكر القارئ الإسناد في أول الكتاب، وذكره في آخره، وقال: أخبرك به فلان عن فلان، وأقر الشيخ بذلك فهل يجزيه؟
فأجاب: يجوز إذا قال له ذلك عقيب قراءته عليه، وإلا فلا.
وسئل: هل يصح السماع بقراءة الصبي والفاسق؟
فأجاب: إن كان له مقابل صح، وإلا فهو بمنزلة روايته.
وسئل: هل يجوز الكتبة والمطالعة، أو الإغفاء يسيرا، في وقت السماع أو يجوز للشيخ أن يكتب ويقرأون عليه؟
فأجاب: ما رأينا أحدا يحترز من هذا.
وسئل: إذا سقط من متن الحديث حرف أو حرف أو ألف، هل يجوز إثباتها؟ وهل يجب إصلاح لحن من جهة الإعراب؟
فأجاب: يجوز إصلاحه. قال الأوزاعي: يصلح اللحن والخطأ والتحريف في الحديث.
وسئل: إذا وجد في كتابه اسما مصحفا أو كلمة، وهو كذلك في سماع شيخه. فهل يجور له أن يغيره في كتابه على الصواب؟ أجاب: له تغييره. والله أعلم.
أهم المراجع:
1. التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد للبغدادي.
2. دروس عمدة الفقه للشنقيطي.
3. المختصر المحتاج إليه من تاريخ الحافظ الدبيثي للذهبي.
4. ذيل التقييد في رواة السنن والأسانيد للفاسي.
5. ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب.
6. طبقات المفسرين أحمد بن محمد الأدنروي.
7. سبط ابن الجوزي: مرأة الزمان.
8. فوات الوفيات للكتبي.
9. سير أعلام النبلاء للذهبي.
10.شذرات الذهب لابن العماد.
11.الداية لابن كثير في حوادث سنة ٦٢٠ هـ.
12.البداية والنهاية لابن كثير.
13.العبر في خبر من غبر للذهبي.
14.النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي.
15.الواف بالوفيات للصفدي.
16.تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الرابع والأربعون.
17.مختصر تاريخ الدبيثي.
مجلة بيت المقدس للدراسات – العدد التاسع
.