القدس والأقصى / حقائق مقدسية

المسجد الأقصى معهد علمي كبير

المسجد الأقصى معهد علمي كبير

منذر قاسم المشارقة

      المسجد الأقصى المبارك كان مركزًا هامًّا لتدريس العلوم الإسلامية على مدى العصور وواحداً من أكبر معاهد العلم في العالم الإسلامي كله، وهو أول معهد إسلامي في فلسطين.

       فبعد أن فتح عمر رضي الله عنه القدس وفد مع عمر وبعده إلى القدس عدد كبير من صاحبة رسول الله عليه الصلاة والسلام وهم أعمدة العلم والدعوة.

       وكان أئمة المسلمين وعلماؤهم حريصين منذ البداية على شد الرحال إلى المسجد الأقصى المبارك للصلاة فيه ونشر العلم، ومن أبرز من استقر من الصحابة في القدس وتوفيا فيها: الصحابي الجليل "عبادة بن الصامت" ، والصحابي الجليل "شداد بن أوس" رضي الله عنهم.

       فعبادة بن الصامت رضي الله عنه هو أول من ولي قضاء فلسطين وقد كلفه عمر رضي الله عنه بالتعليم في بيت المقدس إلى جانب مسؤولياته الأخرى.

       وشداد بن أوس بن ثابت رضي الله عنه روى عن النبي جملة أحاديث، وكان ممن أوتي العلم والحلم، وروى عنه أهل الشام.

          ومن بعد هذين العلمين الكبيرين شد الرحال إلى المسجد الأقصى عشرات ومئات من كبار علماء الإسلام، حيث أبدى خلفاء بني أمية اهتماماً خاصاً بالمسجد الأقصى والقدس.

       وفي القرن الخامس الهجري بوجه خاص كان المسجد الأقصى مركزاً لحياة علمية نشيطة شملت على الأخص علم الحديث والفقه، واجتمع بالمسجد الأقصى علماء "المقادسة" مع علماء من بلدان العالم الإسلامي المختلفة من المشرق والمغرب، وذكر عارف العارف في تاريخ القدس أنه " كان في المسجد الأقصى ثلاثمائة وستون مدرساً " حينذاك .

      وكان المسجد الأقصى المعهد العلمي الكبير الوحيد في القدس في القرون الأربعة للهجرة، واشتهر المسجد الأقصى بحلقات قراءة القرآن وحفظه وتدارسه.

      ومن المحدثين الثقات التي درسوا واهتموا بعلم الحديث وروايته "عبد الله بن فيروز الدليمي" ، خرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه.

       وأبو سلام الحبشي كان يقدم بيت المقدس ويقرأ على عبادة بن الصامت ويروي عنه.

       وكان من أعلام الفقهاء الذين درسوا في المسجد الأقصى "أبو الفرج عبد الواحد بن أحمد الشيرازي" ثم "المقدسي" المتوفى سنة 386 هـ وهو الذي نشر مذهب الإمام أحمد في القدس ".

      وكانت علوم العربية من نحو وصرف وأدب وبيان تدرس في المسجد الأقصى إلى جانب العلوم الشرعية، وكان كل مدرس من المدرسين يختار عموداً من أعمدة المسجد يجلسون عنده ويتحلق حولهم الطلاب، حتى كان يعرف العمود بالمدرس الذي كان يجلس عنده.

      وبعض المدرسون كانوا يلقون دروسهم في الصيف على المصاطب التي بنيت في ساحات المسجد الأقصى، ومن أقدم تلك المصاطب مصطبة الكرك في فناء الصخرة في الزاوية الشرقية الجنوبية.

      وكان من دأب المدرس أن يجلس في أوقات معلومة للناس كأن يكون ذلك بعد صلاة الفجر، أو صلاة العصر أو المغرب أو العشاء.

      ولم يكن المدرسون في المعهد الإسلامي الأول في فلسطين يؤجرون على عملهم وإنما كانوا يؤدونه احتساباً لوجه الله، ولم ينقطع التدريس في المسجد الأقصى عبر القرون إلا في فترة الاحتلال الصليبي ( 492 – 583 هـ ).

        وبعد الفتح الصلاحي 583 هـ : عني صلاح الدين بإعادة الحياة العلمية إلى المسجد الأقصى فرتب له إماماً، وعين على خدمته من يرعاه، ونقل إليه عدداً من المصاحف، ووقف على المسجد الأوقاف للإنفاق على ذلك كله، وأجريت فيه بعض التعديلات والتعميرات وأضيف إلى مبانيه وأروقته في العهد الأيوبي والمملوكي الكثير حتى بدا المسجد درة تتلألأ من جديد في مساء القدس.

       وبدأت جماهير العلماء تفد من جديد إلى الأقصى للصلاة فيه وإحياءه من جديد بالعلم والعلماء وحلقات التدريس، وقرب صلاح الدين العلماء وأحسن إلى عدد كبير  منهم، وحضر مجالسهم في القدس وكان منهم وزيره القاضي الفاضل، والقاضي بهاء الدين بن شداد، ووصف صلاح الدين بحسن الاستماع والمشاركة في مجالس العلم المنعقدة في رحاب المسجد الأقصى المبارك.

       وقد أورد مجير الدين الحنبلي في الجزء الثاني من الأنس الجليل سيراً مختصرة لحوالي 440 عالماً وقاضياً وخطيباً ومؤلفاً ممن عاشوا وعملوا في بيت المقدس منذ الفتح الصلاحي وحتى سنة 900 للهجرة أي خلال 300 سنة، وهذا بالطبع لا يشمل إلاّ جزءًا يسيراً من العلماء والفقهاء الذين عملوا في القدس والمسجد الأقصى في تلك القرون الثلاثة حيث لا يمكن إحصاءهم جميعاً.

      وبعد الفتح ازداد الاهتمام في موضوع فضائل بيت المقدس فوضعت مجموعة من الكتب في فضائل المسجد الأقصى وبيت المقدس ودرست الفضائل للطلاب في المسجد الأقصى المبارك.

       وفي أواخر القرن السادس الهجري أخذت المدارس في الظهور وقاسمت المسجد الأقصى التدريس، فأصبحت الدراسة أكثر نظاماً من حيث عدد الطلاب والمدرسون المتخصصون والمشرفون على تلك المدارس، ومع ذلك استمرت حلقات العلم في المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة وفي ساحات المسجد الأقصى، وكان بعضهم يدرس صباحاً في مدارس المسجد الأقصى، وبعد صلاة العصر يجلس في زاوية ليلقي دروسه المعتادة.

        وازدادت المدارس حتى أصبحت بالعشرات أحاطت بالمسجد الأقصى من جهته الغربية والشمالية وكان بعضها في داخل أسوار المسجد الأقصى.

     وفي القرن التاسع الهجري على الأخص أصبحت بمثابة "جامعة القدس الكبرى" في عدد مدرسيها وعدد طلبتها وفقهائها ونشاطها العلمي، وكانت أروقة المسجد الأقصى والدور التي فوقها تستخدم للتدريس وكمساكن للطلاب .

       وأضيفت إلى المصاطب الموجودة مصاطب جديدة لتستوعب مئات المدرسين لإلقاء دروسهم على المصاطب التي كان يجلس عليها الطلاب للاستماع إلى الدروس والتي منها مصطبة علاء الدين البصير، ومصطبة الظاهر، ومصطبة قبة موسى، ومصطبة سبيل قايتباي.

    وقد صار للمدرسين وكل العاملين في المسجد الأقصى رواتب محددة تصرف عليهم من أوقاف المسجد بالإضافة إلى الهبات التي ظلت ترد عليهم من السلاطين وغيرهم.

     وفي العهد العثماني ( 923 – 1336): ضعفت الحركة العلمية إجمالاً، وأخذ الدارسون يتجهون أكثر فأكثر إلى الجامع الأزهر ولكن التدريس في المسجد الأقصى استمر حتى في تلك الأيام المضطربة.

       وممن درس في المسجد الأقصى في القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر كل من: الشيخ/ "أسعد الإمام" مفتي الشافعية.

      ودرس "مراد أفندي المصري"، علم الخط في الغرف الشمالية من صحن الصخرة وعلوم اللغة في أواخر القرن الثالث عشر.

     والشيخ/ "الخزندار الغزي": كان يقرئ الأولاد القراءة والقرآن والنحو والصرف والفقه في إحدى الغرف الشمالية في صحن الصخرة في أواخر القرن الثالث عشر أيضاً.

       وكذلك الشيخ/ "عبد الرزاق العفيفي": درّس الفقه والعلوم الشرعية على المصطبة في المسجد الأقصى تجاه باب الحديد سنة 1287 وما قبلها وما بعهدها.

      والشيخ "يعقوب البديري": درس العلوم الشرعية قرب باب الناظر، في سنة 1287، وما قبلها وما بعدها.

      والشيخ "عبد القادر أبو السعود" : درس الفلك في الخانقاه الفخرية وفي إحدى الغرف الغربية في صحن الصخرة.

      وعندما زار السائح التركي أوليا جلبي القدس في أواخر القرن الحادي عشر الهجري كتب يقول: "هناك ثمانمائة موظف يتقاضون رواتب في المسجد الأقصى، ومن ضمن هؤلاء أئمة للمذاهب الأربعة ووعاظ ومدرسون وخدام، وكانت رواتب هؤلاء تدفع من جيب السلطان، فإن خازن السلطان كان يأتي سنوياً ليوزع عليهم الهبات والهدايا".

     وكثير من الرواتب كانت تدفعها دائرة الأوقاف في القدس بموجب البراءات التي أصدرها السلاطين العثمانيون إلى الأسلاف.

     ومما يلاحظ في هذا الصدد – ومن مراجعة أسماء المدرسين التي مرت معنا – أن الخدمة في التدريس وفي وظائف المسجد الأقصى الأخرى كانت وراثية، ومحصورة في الأغلب في عائلات معينة – كان يتوارثها الأبناء عن الآباء. وهذا تقليد قديم منذ زمن عبد الملك بن مروان، فإن عبد الملك كان قد رتب " للمسجد الأقصى ثلاثمائة خادم كلما مات واحد منهم قام مقامه ولده، أو ولد ولده أو من أهلهم، يجري عليهم ذلك أبدا ما تناسلوا "[1].

    ويلاحظ أنه أضيف في العصر العثماني مصطبتان هما مصطبة عشاق النبي، بالقرب من الباب العتم، وقد بنيت في القرن العاشر الهجري، زمن السلطان سليمان القانوني، ومصطبة سبيل سليمان، وتقع أمام باب العتم، وهي الواجهة الخلفية لسبيل سليمان من جهة الشمال وعليها محراب. أمر بإنشاء هذا السبيل سليمان القانوني سنة 943 هـ .

     مما تقدم يظهر لنا بجلاء أن المسجد الأقصى عاش حياة علمية حافلة على مدى القرون، وكان مركزاً من أهم مراكز تدريس العلوم الشرعية في العالم الإسلامي.

      وفي السنوات الأولى من القرن العشرون الميلادي قامت حركة لإحياء بعض مدارس الأوقاف القديمة وإعادة التدريس إليها بيد أنها لم تجد صدى في استانبول. وعندما أسس المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين في أوائل عهد الاحتلال البريطاني تجددت فكرة إنشاء جامعة المسجد الأقصى فانتدب الحاج/ "أمين الحسيني" ومحمد على علوبة باشا للسفر لجمع التبرعات للجامعة سنة 1923م وقوبل الوفد بالحفاوة من مسلمي الهند وتألفت لجان لجمع التبرعات لإنشاء الجامعة بيد أن شيئاً من المال لم يجمع لأن الحكومة البريطانية أوعزت لنائب الملك في الهند بعرقلة المشروع لأنه يتعارض وسياسة بريطانيا في فلسطين.

      وجدد المجلس الإسلامي المحاولة في سنوات الثلاثين بعد عقد المؤتمر الإسلامي في القدس سنة 1931، واتخذ الاستعدادات لإنشاء جامعة المسجد الأقصى ووضع منهجاً للدروس ولكن المشروع لم ينفذ. وأننا لنأمل أن يأتي اليوم الذي ترمم فيه المدارس الأثرية وينبعث منها تيار تعليم عصري وثيق الصلة بكل ما هو إيجابي في تراث السلف.

--------------------

[1]  الأنس الجليل ج 1 ، ص 280 .

العدد الأول – مجلة بيت المقدس للدراسات

.