دراسات وتوثيقات / مخطوطات ومكتبات

تراثنا... بين تفريط الأبناء وسندانة الأعداء !!!

 

بات من مكرور القول ومعاد الكلام أن التراث هو قلب الأمة النابض وعقلها الذي تحكم به ومنهاجها الذي تمشي به على وجه هذه البسيطة، وأي أمة فرّطت بهذا الإرث المبارك فهي على شفا جرف هار تودي بنفسها في شباك المصائب وشراك المهالك.

 

ولقد أتى على هذا التراث حين من الدهر تعرّض فيه لمصائب عظيمة وكوارث جسيمة  وحوادث أليمة سببها الرئيس فيها تمركز في: تفريط أبنائه من جهة وانتهاز العدو الفرصة لضرب هذا التراث ضربةً قاضية من جهةٍ أخرى.

 

ولقد شهدت خزائن  فلسطين -  التي كانت حافلة بنوادر الكتب والمصنفات ونفائس المخطوطات –  صراعاً فريداً من نوعه في مطلع القرن العشرين حيث شهدت حلباتها صراعات من نوع آخر استخدمت فيها الوسائل الشيطانية والطرائق الثعلبية وذلك لضرب العرب والمسلمين ضربةً قاضية في قلبه النابض فاستُهدف التراث استهدافاً لا نظير له حيث جيشت له العساكر ونصبت له الدساكر ووضعت خطط الجرائم الأثيمة محاولة الاستيلاء عليه بأي صورة كانت، وإن عجزت قامت بتدميره بأبشع صورة وأقبح منظر دأبها دأب الخصم المفلس.

 

وإن المتأمل في تاريخ خزائن القدس وباقي مدن فلسطين وينظر كيف كانت في يوم من الأيام منارات علم ونور وهداية، حافلة بنوادر تُشد لها الرحال ومخطوطات تضرب لها أكباد الإبل، ثم ينظر كيف أصبحت هذه الخزائن خراباً، وأضحت نوادرها ومخطوطاتها يباباً، لتأخذه الحسرة والألم على ضياع هذا الكنز  الذي لا يقدر بثمن.

 

وإذا تأملت أُخيّ السبب الرئيس في هذا ألفيته يتمحور حول نقطتين مهمتين أحلاهما مرٌّ  هما (تفريط الأبناء)!!! و (سندانة الأعداء)!!!.

 

فمن جهة تفريط الأبناء أقول:

 

لقد أُتي هذا التراث على حين غفلة  من أهله، ففي الوقت الذي هوَت فيه أعلام التراث ونجومه الذين كانت تهتدي بهم خزائن فلسطين، وكانوا حراساً لها ذابين عن حياضها يرعونها حق رعايتها، كان الأعداء يخططون لوسيلة أخرى هي أخطر من التدمير والتخريب، ألا وهي إنشاء جيل عارٍ عن هذه الحقائق  جاهلٍ بهذا التراث، ضعيف الهمة بالقيام بمسئولية الحفاظ عليه.

 

ثم مما يُزيد الطين بِلّة والزمانة علّة هو ابتلاء هذا التراث بثلة حمقى لم تقدر هذا التراث قدره، فتجد بعضهم عند وفاة العالم فيهم باعوا خزانة مخطوطاته وأعلاقه النفيسة التي كان طيلة  حياته – بجوع بطنه وتشقق قدميه وتمزق ثيابه وسهر عينيه وتعب جسده – يحاول جمعها فضلاً عن نسخها وتدوينها، وكم كان الواحد منهم يدفع الغالي والنفيس من أجل شراء مخطوطة أو كتاب لا يتجاوز صفحات معدودة.

 

ثم يأتي هذا الوارث العاق الجاهل قدر هذه الأوراق المجنون بالاتفاق ليفرّط بتراث هذه الخزانة ويضيق صدره – لجهله – بها فيبيعها بثمن بخسٍ دراهم معدودة وكان فيها من الزاهدين ..!!

 

أما الحديث عن وقوع هذا التراث تحت سندانة أعدائه ووطأة الهمجية الصهيونية فإجمالاً أقول:

 

لقد تسلّط على هذه الخزائن العربية والإسلامية  أقوام طغاة استباحوا محارمها وقوضوا معالمها ولا يزال هذا التراث يتعرض لموجة قاسية من الهجوم المخطط له بعناية واتفق على أن يكون التراث العربي والإسلامي هو العدو المعلن والذي ينبغي أن يتوحد العالم ضده وأن ينفر أبناؤه منه بأي صورة من الصور..!!

 

ثم إني أزيد فأقول: لقد تميز المخطوط  الفلسطيني بميزات لفتت أنظار الأعداء إليه فحاولوا القضاء عليه مستخدمين أشرس الأفعال التي لا تُستبعد من أمثالهم – وهم قتلة الأنبياء ومحرفوا الكتب السماوية – فالله حسيبهم وهو يحاسبهم.

 

 ومن هذه الميزات:

 

1. نفاسة هذه المخطوطات ونوادرها وبخاصة مخطوطات مكتبات القدس والمسجد الأقصى، فقداسة المكان وبخاصة المسجد الأقصى ومكانتهما العظيمة في قلوب المسلمين الأمر الذي حداهم سلاطين وعلماء وأمراء ودهماء إلى أن  يهتموا بإحياء مثل هذه المكتبات والخزائن وإهدائها ووقفها على المسجد الأقصى والمدارس الشرعية التي فيها فأهدى المؤلفون والنساخ نوادر ما يملكوا ونفائس ما ألفوا ونسخوا حتى غدت هذه الخزائن محلاةً بأعلاق نفيسة ومؤلفات الحاجة إليها مسيسة عزّ وجود نظائرها في أي مكان آخر.

 

2. وجود مثل هذه الأعلاق النفيسة والمخطوطات النادرة فضلاً عن باقي المؤلفات التي ألفها علماء هذه البلاد إنما هي ترجمان واضح وجلي لهذه النهضة العلمية التي تحفل بها هذه البلاد وأن وجود مثل هذه الخزائن والمكتبات والتي بلغت المئة مكتبة وخزانة منها الخاصة ومنها العامة – وذلك في خلال قرن واحد هو مطلع القرن العشرين – هو الذي يحكي لنا تاريخ هذه الحضارة العلمية ويبرهن على أن طلائع  هذه النهضة كانت على أيدي علماء كانوا من الكثرة بمكان فيعكس صورة حسنة تمحق  تلك الكذبة الصلعاء التي تذكر هذه الحقب المتاخرة وتنعتها بزمن ملئ بالجهل والتخلف الحضاري.

 

3. وجود الحقائق التاريخية والوثائق العلمية التي تثبت عروبة القدس وحقها الشرعي للمسلمين على مرّ الأزمان وأن وجود مثل هذه التراث العربي الإسلامي ليمحق مثل هذه الأكذوبات الواضحة كذبها وضوح الشمس والتي يختلقها بني يهود وتدحض شبههم القائمة على أساس هشٍ وهرِم فضلاً عن صحتها وصحة محتوياتها .

 

هذه الأمور - وغيرها الكثير -  هي التي أقضت مضاجع بني صهيون وأعداء هذا التراث فبدأوا يخططون له ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، مسخرين جميع الجهود والطاقات للقضاء على الإرث المبارك وطمس هذه الحقائق التاريخية، إذ بوجود مثل هذه الوثائق والسجلات والمؤلفات والمخطوطات لا يستطيعون ترويج أكاذيبهم وخرافاتهم الباطلة، وعليه فلا يستطيعون إنشاء جيل جاهل بهذا التاريخ غافلٍ عن هذه الحقائق الأمر الذي يجعله تنطلي عليه مثل هذه الخرافات والأكذوبات التي يستطيع عامة الناس دحضها فضلاً عن الشيوخ والعلماء.

 

  وبمجرد نظرة عجلى وعامة لتلك الخزائن التي استهدفت من قبل  بني يهود يرى الشخص تلك المأساة التي حلت بهذه الخزائن  فيبكي على ذهاب هذا الإرث واندراس هذا الأثر المبارك.

 

ولا أودّ أن  يفوتني ولو على وجه السرعة  أن أتحف القارئ الفطن ببعض صور هذه الهجمة الصهيونية على مثل هذه الخزائن سارقة لنفائس وأهم مخطوطاتها  ومدمرة ومخربة لبنيانها فمن هذه الخزائن:

 

1. خزانة أديب فلسطين الكبير محمد اسعاف النشاشيبي  في القدس التي كانت عامرة بالنوادر والنفائس والتي وصفها رصيفه الأديب خليل السكاكيني بقوله "ومكتبته لا تشبهها مكتبة" فقد أصابتها رصاصات الغدر الغاشمة ودمرتها، يقول الأديب الفاضل عجاج  نويهض كما في كتابه "رجال من فلسطين ص17"  (وفي شهر  آيار – أي بعد وفاته – 1948م نُهب بيته ومكتبته وبيعت كتبه الثمينة بالأرطال بيع غنائم باردة) ويوضح لنا الصورة أكثر فأكثر يعقوب العودات الشهير بالبدوي الملثم فيقول "ولكن هذه المكتبة القيمة أطبق عليها من لا خلاق في نكبة سنة 1948م عندما اجتاح بعض المرتزقة أحياء القدس الغربية زعماً منهم أنها (أحياء يهودية) فنهبوا مكتبة اسعاف وحملوها إلى مدينة الزرقاء بالأردن وباعوها على مشهد مني بالرطل ... لأصحاب الأفران فذهبت طعمة للنيران" (أعلام الفكر والأدب في فلسطين ص627).

 

 

2. الخزانة الخليلية في القدس:

 

    والتي أنشأها العلامة مفتي القدس الشيخ محمد بن محمد الخليلي (1147هـ) وأوقفها على طلاب العلم والتي قال عنها اسحاق موسى الحسيني رحمه الله (ومكتبة الشيخ – حسْب علمنا – أول مكتبة عامة يوقفها أحد سكان القدس على طلبة العلم... ويذكر عارف العارف عدد كتبها بـ 7000 كتاب) ثم قال رحمه الله (ويحزننا أن نذكر أنه عندما تطوع السيدان فهمي الأنصاري ويوسف المظفر وأنا في فهرست هذه المخطوطات في العام المضي روّعنا بأن معظم المخطوطات الثمينة مفقودة وأن عدداً كبيراً منها تالف ولا بصير ولا نصير).

 

فأصبحت هذه الخزانة لقمة وطعمة على مائدة اليهود تلاقي الألاقي منهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

ولا أريد الإطالة في ذكر الأمثلة وإن كان في الجعبة الكثير الكثير من هذه النماذج التي تبكي العيون دماً وتفتت الأفئدة ألماً ولعل الوقت يسمح وأفرد هذا الموضوع بمقال واسع يبين الهجمة الصهيونية اليهودية التترية المغولية على خزائن فلسطين ولعله يكون قريباً  ولكن مما يطيب القلب ويجبر كسره هو ما رأيناه وحكاه لنا التاريخ وسمعناه من أفواه الشهود من أخبار تلك البيوت والشخصيات التي ضربت المثُل الرائعة والتضحيات الماتعة  والتي تنمّ عن تضحية غالية وبذلٍ رائعٍ من أجل الدفاع على هذا الإرث  ذي المجد الأثيل، ومن هذه المُثل الرائعة ..

 

أولاً / المكتبة الخالدية في القدس الشريف:

 

فقد ذكر الدكتور الفاضل وليد أحمد سامح الخالدي في مبحثه التاريخي الماتع الفريد في بابه الكامل في استيعابه لتاريخ هذه المكتبة القيمة والمعنون بـِ (المكتبة الخالدية في القدس)- والذي جعله مقدمة للفهرس الكامل الذي وُضع  لمخطوطات هذه المكتبة – ذكر موقفاً مشرفاً لهذه العائلة (ص 33) وذلك أثناء قيام فرقة يهودية استيطانية باحتلال الطابق العلوي للمكتبة وذلك لتخريبها وافسادها، وبذلت العائلة الغالي والنفيس في الدفاع عن هذه المكتبة حتى استطاعت أن تخلص هذه المكتبة من هذا الغزو الاستيطاني الخطير والذي كاد يدمر هذه الخزانة ولكن الله سلم.

 

ثانياً / خزانة آل النحوي في صفد تلك المكتبة العامرة المليئة بالكتب المهمة والنادرة:

 

ولقد سجل أهل هذه المكتبة صورةً رائعةً في الحفاظ على هذا الإرث الثمين والعلق النفيس، فقد كتب لي الأديب الفاضل سليل الأماجد الأماثل عدنان بن علي رضا النحوي ما نصه (يروي لي ابن عمي حامد ابن الشيخ القاضي أحمد النحوي أنه زار المكتبة أحد رجال الصحافة من مصر ووجد فيها مخطوطاً طلب شراءه ودفع مبلغاً عالياً ثم أخذ يزيد في المبلغ ولكن العائلة رفضت بيعه مهما ارتفع الثمن).

 

وذكر المُثل على هذه الموقف أكثرمن أن تحصى وأعظم من أن تستقصى ولعل في هذا القدر كفاية.

 

وبعد.. ها هو قد بلغ البحث أجله وانتهى إلى القدر الذي قدّر له.. واللهً أسألُ وبأسمائه وصفاته أتوسل أن يجعله في موازين حسناتنا، والله من وراء القصد.

.