دراسات وتوثيقات / دراسات وبحوث

ليس لليهود حق في القدس وأرض فلسطين ؟!

د. عيسى القدومي

دعيت قبل أيام لإلقاء محاضرة حول التهويد في القدس، وبعد الانتهاء من المحاضرة طرح أحد الحضور السؤال التالي: أليس لليهود حق في المسجد الأقصى وأرض فلسطين؟! سؤال فاجأني؛ مما جعلني أتأمل لحظات، ثم قلت بيني وبين نفسي لماذا يتكرر هذا السؤال على مسامعنا بدءا من وسائل الإعلام والفضائيات والمؤتمرات والندوات ومرورا باللقاءات والمناقشات؟! وفي بعض الأحيان لمن لا يجرؤ أن يطرح هذا للعلن يكون الهاتف أو البريد الإلكتروني هو الوسيلة التي يعبر فيها الشخص عما يجول في خاطره.

وتساءلت بعد جوابي على ذلك السؤال: ما السبب في تكرار مثل هذه التساؤلات؟!

ومن أشاع مثل هذا التشكيك عند بعض النفوس؟! ولماذا تفشى الجهل في معرفة وإدراك حقوقنا مع ما نعيشه من بحر الفضائيات والبرامج والمناقشات؟! ولماذا أضحى المواطن العربي في صراع داخلي؟!!

ولماذا لم تنطلي تلك الأكاذيب على الجيل الأول الذي عايش مأساة فلسطين منذ ١٩١٧ م إلى سقوطها بأيدي عصابات اليهود، فكتاباتهم ودفاعهم عن حقوقهم في المسجد الأقصى وأرض فلسطين راسخة كرسوخ الحجر والشجر في الأرض المباركة؟!

وتذكرت حينها العبارة الجميلة التي كتبها العالم والمؤرخ البريطاني أرنولدج.توينبي" في مقدمة كتابه " تهويد فلسطين " ص ٩ بأن : من أشد المعالم غرابة في النزاع حول فلسطين هو أن تنشا الضرورة للتدليل على حجة العرب ودعواهم .

سؤال عاجل وجواب آجل:

سأبدأ في خوض جواب هذا السؤال والرد على تلك الشبهة بتساؤلات لا أريد جوابها في الحال، ولكنني أريده أن يكون بعد قراءة وتأمل وطول بحث وتفكير، حتى لا نهزم في مواطن النقاش، وإثارة الشبهات والأباطيل:

1.   من الأسبق على أرض فلسطين العرب أم اليهود؟

2.   ومن استقر فيها أكثر العرب أم اليهود؟

3.   وهل تمكن فيها الإسلام أكثر أم اليهودية؟

4.   وهل سادت على هذه الأرض اللغة العربية آم العبرية؟

5.   وهل قرا عليها القرآن أكثر أم التوراة؟

6.   ومن بني أولا المسجد الأقصى أم الهيكل المزعوم؟

7.   وهل قدست تلك الأرض قبل بني إسرائيل أم بعد دخولهم؟

8.   وهل دافع عن هذه الأرض المباركة العرب أم اليهود؟

9.   ومن دحر تسع حملات صليبية وحررها من الاحتلال؟

10. وهل انتزع العرب فلسطين من اليهود؟

11. وهل هدم العرب لليهود فيها دولة قائمة؟

12. هل اللغة العبرية هي لغة إبراهيم عليه السلام؟

13. ومن هم الذين بذلوا أرواحهم للدفاع عنها وطرد الروم والصليبيين منها؟

14. وهل رأي هؤلاء وأجدادهم أرض فلسطين في حياتهم؟

15. ولماذا لا يطالب اليهود بالأوطان التي هاجروا منها في أوروبا وغيرها؟

16. وهل المسجد الأقصى بني على أنقاض الهيكل المزعوم؟

17. وهل يهود اليوم هم من سلالة يهود الأمس؟

18. وما علاقة الفلاشا بأرض فلسطين؟

19. وأية سلالة يهودية كانت وما زالت في فلسطين؟

20. وهل وعد بلفور يعطيهم الحق في أرض المسلمين؟

21. وهل قرار تقسيم فلسطين يعطي هذا الحق المزعوم؟

22. وهل أنبياء بني إسرائيل كانت دعوتهم للإسلام أم لليهودية؟!

23. وما هي ملة أنبياء الله جميعا (سواء من أرسل إلى بني إسرائيل أو إلى غيرهم من الأمم)؟

24. وهل يوشع بن نون عليه السلام دخل الأرض المقدسة مع اليهود؟!!

ومن أحق بأرض فلسطين اليهود أم المسلمون في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}(الأنبياء:105).

٢٥. وهل يهود اليوم هم عباد الله؟!

٢٦. من أحق الناس بهذه الأرض بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؟!

٢٧. وهل تواجد اليهود بضع سنوات يلغي حق من عاش عليها آلاف السنين؟! ولماذا يلغي قليلهم كثير غيرهم؟!

٢٨. وماذا قررت لجنة التحكيم في أحداث البراق ف عام ١٩٢٩ م، لمن تعود ملكية ذلك الحائط؟!

٢٩. وهل كان بناء سليمان للمسجد الأقصى أول البناء؟! أم تجديدا وتعاقب عليه من

قبله الأنبياء والرسل؟

٣٠. وهل كان إبراهيم الذي يدعون وراثته يهوديا؟

حقائق تاريخية:

إن فلسطين بلا شك أرض عربية لأنها قطعة من جزيرة العرب وموطن عريق لسلالات من العرب استقروا فيها أكثر مما استقر اليهود وتمكن فيها الإسلام أكثر مما تمكنت اليهودية وغلب عليها القرآن أكثر مما غلبت التوراة وسادت فيها العربية أكثر مما سادت فيها العبرية.

فأين كان اليهود كل هذه القرون إذا كانوا أصحاب حق في فلسطين؟! ولماذا يدعون إرثا لم يدفع عنه أسلافهم غارة بابل، ولا غزو الرومان ولا عادية الصليبيين؟!! ألا يستحق التراث من دافع عنه وحامى دونه؟!

أليس من الثابت تاريخيا وجود القبائل العربية من الكنعانيين (1) في فلسطين قبل ظهور اليهود بألاف السنين، ولم ينقطع وجود العرب واستمرارهم في فلسطين إلى يومنا الحالي، فالعرب عاشوا في فلسطين قبل مجيء اليهود إليها، وفي أثناء وجودهم فيها، وظل العرب فيها بعد طرد اليهود منها.

وقد أثبت التاريخ مرور فترات طويلة لم يكن فيها أي يهودي في فلسطين والقدس، فأي عرق استمر من الاتصال في هذه البلاد؟ وأي حق لهذا الأثيوبي والروسي والصيني وغيرهم في فلسطين الذين لم تطأها أقدامهم ولا أقدام أجدادهم في أي يوم من الأيام، فيما يقتلع الفلسطيني من أرضه وجذوره الممتدة إلى آلاف السنين ثم يلقى في العراء مشردا بلا وطن وبلا هوية؟!

نقول ليهود اليوم: حين يدعي شعب معين حقا تاريخيا في منطقة معينة فيجب أن يكون له حق عرقي سلالي، ولكي تتشكل سلالة معينة فإن ذلك يتطلب آلاف السنين من التواجد المستمر، فالسؤال الذي نسأله: أية سلالة يهودية كانت وما زالت في فلسطين وهل هو - العرق الفلاشي الأفريقي؟ أم هو - العرق القوقازي السوفياتي؟ أم هو العرق الأشكنازي الأمريكي؟ أم العرق الأشكنازي الأوروبي؟ أم هو عرق دول حوض البحر المتوسط؟ أم هو العرق الشرقي العربي؟!

أليس أكثر من ٨٠% من اليهود المعاصرين - حسب دراسات عدد من اليهود أنفسهم لا ينتمون تاريخيا للقدس وفلسطين، كما لا ينتمون قوميا لبني إسرائيل، فالأغلبية الساحقة ليهود اليوم تعود إلى يهود الخزر (2) (الأشكناز) وهي قبائل تترية - تركية قديمة كانت تقيم فشمال القوقاز، وتهودت في القرن الثامن الميلادي، ولم يتسنى لهم أو لأجدادهم أن يروا فلسطين في حياتهم.

واليهود المعاصرون - سلالة الخزر- إن كان لهم حق المطالبة بأرض فعليهم أن يطالبوا بالحق التاريخي لمملكة الخزر بجنوب روسيا وبعاصمتهم (إتل) وليس بفلسطين أو بيت المقدس، لأن أجداهم لم يطؤوها من قبل، ومن دولة "خزريا" اليهودية انحدر ٩٢% من يهود العالم (3)، وتقدر نسبة يهود الخزر في فلسطين بحوالي ٨٣% من اليهود ككل في فلسطين (4). فإن كان ثمة حق عودة لليهود، فهو ليس إلى فلسطين وإنما إلى جنوب روسيا.

يقول دنلوب (5): "إن يهود أوروبا الشرقية، وعلى الأخص يهود بولندا منحدرون من خزر العصور الوسطى، ولا شك أن وجود أغلبية من ذوي البشرة الشقراء والشعر الأشقر والعيون الملونة بين يهود أوروبا الشرقية ينبغي أخذه بعين الاعتبار وإيجاد تفسير له".

ولو جاز المطالبة بتوزيع خرائط وحدود الأوطان المعاصرة بناء على التاريخ القديم، لطالب المصريون بإمبراطورية رمسيس الأكبر، ولطالبت إيران بمملكة قمبيز، ولطالبت مقدونيا بإمبراطورية الاسكندر المقدوني، ولتحول العالم إلى صورة من المطالبات ليس لها

نظير. فتلك الذريعة لا تعتبر في منطق الأعراف الدولية التي يتحاكمون إليها، وإلا ترتب على ذلك تغيير خارطة العالم أجمع!!

والغريب أن هذا الحق - المزعوم - لم يظهر طوال القرون التي مضت؛ بل لم يظهر بداية ظهور الصهيونية، حيث أن فلسطين لم تكن هي المرشحة لتكون الوطن القومي لليهود؛ بل رشحت عدة أقطار في أفريقيا وأمريكا الشمالية كذلك، ولم تظهر فكرة فلسطين - باعتبارها أرض الميعاد - إلا بعد فترة من الزمن. فقد حاول هرتزل الحصول على مكان في (موزمبيق) ثم في (الكنغو) البلجيكي، كذلك كان زملاؤه في إنشاء الحركة الصهيونية السياسية، فقد كان "ماكس نوردو" يلقب بالإفريقي و"حاييم وايزمان" بالأوغندي، كما رشحت (الأرجنتين) عام ١٨٩٧ م و(قبرص) عام ١٩٠١ م، و(سيناء) في ١٩٠٢ م ثم (أوغندا) مرة أخرى في ١٩٠٣ م بناء على اقتراح الحكومة البريطانية، وأصيب هرتزل بخيبة أمل كبيرة؛ لأن اليهود في العالم لم ترق لهم فكرة دولة يهودية سياسية؛ سواء لأسباب أيديولوجية؛ أو لأنهم كانوا عديمي الرغبة في النزوح عن البلاد التي استقروا فيها. بل إن مؤتمر الحاخامات الذي عقد في مدينة فيلادلفيا في أمريكا في أواخر القرن التاسع عشر أصدر بيانا يقول: إن الرسالة الروحية التي يحملها اليهود تتنافى مع إقامة وحدة سياسية يهودية منفصله (6).

وهذا ما أكده حديثا أكثر من حاخام من حاخامات الأرثوذكس (7) الذين كشفوا حقيقة هذا الكيان الغاصب الذي أسمى نفسه "إسرائيل !!" وكيف أن قيام هذا الكيان مخالف للعقيدة اليهودية التي ترى أن اليهود منفيون في الأرض بأمر من الله بسبب مخالفتهم لتعاليم اليهودية؟!! وأنه يجب ألا تكون لهم دولة!! لأن قيام الكيان الصهيوني يعارض أوامر التوراة!!

إن كان لليهود حق في فلسطين فلماذا يشيعون الأكاذيب؟

 هل يحتاج من يزعم بأنه صاحب حق إلى إطلاق وإشاعة الأكاذيب لأخذ حقه؟!! ولماذا أطلقوا العديد من الأكاذيب لتسويق الحجج وإيجاد المبررات لسلب الأرض ؟!ولماذا اختبئوا وراء أكذوبة أنهم لم يأخذوا أرض فلسطين إلا بيعا من أهلها وشراء من اليهود؟! أيحتاج صاحب الحق أن يشتري ما يملكه؟!!

ولماذا قالوا أن فلسطين أرض بلا شعب؟! وأنها صحراء خالية؟ وأنهم حولوها من جرداء إلى جنان؟! وأن الفلسطينيين خرجوا منها طوعا ولم تخرجهم العصابات الصهيونية؟! وغيرها الكثير من الأكاذيب... التي لخصها "عاموس إيلون" بقوله: "الإسرائيليون أصبحوا غير قادرين على ترديد الحجج البسيطة المصقولة وأنصاف الحقائق المتناسقة التي كان يسوقها الجيل السابق" (8). ويقول إيلي إيلون "إن أي شيء يقيمه الإسرائيليون مهما كان جميلا، إنما يقوم على ظلم الأمة الأخرى"(9).

حقائق قرآنية:

 يقول الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - في تفسيره قول الله تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ}(المائدة: ٢١)؛ كان بنو إسرائيل أفضل العالم في زمانهم؛ لقوله تعالى:{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}(البقرة:47)؛ لأنهم في ذلك الوقت هم أهل الإيمان؛ ولذلك كتب لهم النصر على أعدائهم العمالقة، فقيل لهم: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ}(المائدة: ٢١) والأرض المقدسة "هي فلسطين؛ وإنما كتب الله أرض فلسطين لبني إسرائيل في عهد موسى؛ لأنهم هم عباد الله الصالحون؛ والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء:105)، و{ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } (الاعراف:128).

إذا المتقون هم الوارثون للأرض؛ لكن بني إسرائيل اليوم لا يستحقون هذه الأرض المقدسة؛ لأنهم ليسوا من عباد الله الصالحين؛ أما في وقت موسى فكانوا أولى بها من أهلها؛ وكانت مكتوبة لهم، وكانوا أحق بها؛ لكن لما جاء الإسلام الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم صار أحق الناس بهذه الأرض المسلمون (10).

وقال الألباني - رحمه الله - في السلسلة الصحيحة: "وقال الله تعالى لموسى عليه

السلام: {.. سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} (الأعراف: ١٤٥) وهي الدار التي كان بها أولئك العمالقة، ثم صارت بعد هذا دار المؤمنين، وهي الدار التي دل عليها القرآن من الأرض المقدسة ... فأحوال البلاد كأحوال العباد فيكون الرجل تارة مسلما وتارة كافرا، وتارة مؤمنا وتارة منافقا، وتارة برا تقيا وتارة فاسقا، وتارة فاجرا شقيا؛ وهكذا المساكن بحسب سكانها" (11).

وفي إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد ج٣ص ٩٨ يفسر الآية بالآتي: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (المائدة:21) يعني: أرض فلسطين، ليخلصوها من الوثنيين لأنها كانت بيد الوثنيين، وموسى عليه السلام أمر بالجهاد لنشر التوحيد ومحاربة الشرك والكفر بالله وتخليص الأماكن المقدسة من قبضة الوثنيين، وهذا من أغراض الجهاد في سبيل الله. التي كتب الله لكم المائدة لأن الله كتب أن المساجد والأراضي المقدسة للمؤمنين من الخلق من بني إسرائيل أوغيرهم، كتب الله لكم شرع أن تكون الولاية عليها للمؤمنين، كما قالى تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}(الأنبياء: ١٠٥)، فالولاية على المساجد - وخصوصا المساجد المباركة وهي المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى وسائر المساجد- للمؤمنين، ولا يجوز أن يكون للكفار والمشركين من الوثنيين والقبوريين سلطة على مساجد الله سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}(التوبة:١٧).

وفي الفتاوى الكبرى لابن تيمية (٦/ ٢٢٥): {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} (المائدة: 21-22) الآيات، وقال تعالى لما أنجى موسى وقومه من الغرق: {.. سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} (الأعراف: ١٤٥) وكانت تلك الديار ديار الفاسقين لما كان يسكنها إذ ذاك الفاسقون ثم لما سكنها الصالحون صارت دار الصالحين. وهذا أصل يجب أن يعرف. فان البلد قد تحمد أو تذم في بعض الأوقات لحال أهله ثم يتغير حال أهله فيتغير الحكم فيهم؛ إذ المدح والذم والثواب والعقاب إنما يترتب على الإيمان والعمل الصالح أو على ضد ذلك من الكفر والفسوق والعصيان " (12).

وقد نبه الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود فرسالة له باسم "الإصلاح والتعديل فيما طرأ على اسم اليهود والنصارى من التبديل" وفيها تحقيق بالغ أن "يهود" انفصلوا بكفرهم عن بني إسرائيل زمن بني إسرائيل، كانفصال إبراهيم عن أبيه آزر، والكفر يقطع الموالاة بين المسلمين والكافرين كما في قصة نوح مع ابنه؛ ولهذا فإن الفضائل التي كانت لبني إسرائيل ليس ليهود فيها شيء، ولهذا فإن إطلاق اسم بني إسرائيل على يهود يكسبهم فضائل ويحجب عنهم رذائل، فيزول التمييز بين "إسرائيل" وبين يهود المغضوب عليهم، الذين ضربت عليهم الذلة والمسكنة "(13).

من سكن من بني إسرائيل في أرض فلسطين؟

سكن أرض فلسطين "الأرض المقدسة" فالماضي أجيال مؤمنة من بني إسرائيل وأقاموا عليها حكما إسلاميا مباركا زمن يوشع عليه السلام وطالوت، وزمن داود وسليمان عليهما السلام، ولقد كتب الله الأرض المقدسة فلسطين لذلك الجيل المؤمن من بني إسرائيل لإيمانهم وفضلهم على الكافرين الذين كانوا في زمانهم ومكنهم من دخولها على يد يوشع بن نون عليه السلام، ونصرهم على أعدائهم الكافرين، فلما جاءت أجيال جديدة منهم، وخالفت شرط الاستخلاف، ونقضت عهد الله وطغت وبغت، أوقع الله بها لعنته وسخطه ونزع الأرض المقدسة منهم، وكتب عليهم الشتات والضياع في بقاع الأرض كما قال تعالى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } (الاعراف: ١6٧).

هل القدس مقدسة منذ زمن بني إسرائيل؟!

ولا شك أن قوله تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ} (المائدة:21) دليل على آن القدس وفلسطين مقدسة منذ القدم، قبل أن يحل بها قوم "موسى" عليه السلام لأن وجود المسجد الأقصى في القدس وفلسطين قبل حلول بني إسرائيل في فلسطين، وقبل أنبياء بني إسرائيل الذين يزعم اليهود وراثتهم.

ودليل آخر من السنة أنه كان من تعظيم موسى عليه السلام للأرض المقدسة أن سأل الله تبارك وتعالى عند الموت أن يدنيه منها. روى مسلم في صحيحه مرفوعا: "فسأل الله تعالى أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر" (١٤). قال النووي:" وأما سؤاله - أي موسى عليه السلام - الإدناء من الأرض المقدسة فلشرفها، وفضيلة من فيها من المدفونين من الأنبياء وغيرهم " (15)..

وجميع الرسل والأنبياء من بعث منهم إلى بني إسرائيل أو إلى غيرهم من الأمم، دينهم الإسلام، ورسالتهم هي الإسلام، ودعوتهم التوحيد، وأتباعهم الذين آمنوا بهم هم المسلمون، كما قال تعالى على لسان نوح عليه السلام لقومه: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (يونس:72).

وقال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (البقرة: ١٣٠)، وقال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} (المائدة: ١١١).

فالإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة وإن تنوعت شرائعهم واختلفت مناهجهم فإبراهيم وإسماعيل وإسحاق والأسباط وداود وسليمان وعيسى عليهم السلام... دينهم جميعا الإسلام، والذين قدر الله سبحانه وتعالى أن يتحرر بيت المقدس على أيديهم، وسلطانهم وإقامة حكم الله عليها هم المسلمون ومن هؤلاء؛ المسلمون بقيادة يوشع بن نون، والمسلمون المجاهدون الذين من بينهم داود عليه السلام، وجاء بعد داود عليه السلام ابنه سليمان عليه السلام وعلى عهده كان بيت المقدس عاصمة للدولة الاسلامية وليست عاصمة لليهود كما يزعمون. والمسلمون صحابة رسول الله رضوان الله عليهم ، فعلى أيديهم بدأت معارك التحرير بما في ذلك بيت المقدس، وشاء الله أن يتحرر ويقوم عليها حكم الإسلام على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ١٥هـ، والمسلمون بقيادة نور الدين محمود بن زنكي، وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم من الحكام المسلمين هم الذين قادوا المجاهدين المسلمين حتى تحقق على أيديهم تحرير بيت المقدس بعد ٩٣ عاما من اغتصابها (١٦).

وعقيدتنا في أنبياء الله تعالى - من بني إسرائيل أو غيرهم - هي الدعوة إلى الإسلام.

نحن ننكر على الجهلة من الكتاب ذمهم وطعنهم لأنبياء بني إسرائيل، واعتبارهم يهودا داخلين ف دائرة العداء، ووصفهم بأوصاف لا تليق بأنبياء الله تعالى، فمنهم من ذم موسى وهارون عليهما السلام، ومنهم من حقد بكتاباته على داود عليه السلام لأنه قتل جالوت، ووصف فترة حكمه بالفساد، ومنهم من وصف سليمان عليه السلام بالملك اليهودي المستبد؛ لأنه استعمر بلاد العرب حتى اليمن، ومنهم أساء إلى يوشع بن نون فتى موسى "عليهم السلام لأنه دخل فلسطين وقاتل أهلها من العرب!!

فهم - بجهلهم - يكرهون كل من كان من بني إسرائيل ولو كان صالحا تقيا أو نبيا رسولا، ويمدحون كل من وقف أمام بني إسرائيل ولو كان كافرا ظالما؛ ولا يفرقون بين أنبياء بني إسرائيل ومن آمن معهم وتاريخهم المشرق الذي حكمهم فيه مؤمنوهم وصالحوهم وقادهم فيه أنبياؤهم، فهذا التاريخ نعتبره تاريخا إسلاميا مثل تاريخ موسى وهارون، وتاريخ داود وسليمان ، وتاريخ زكريا ويحيى، وتاريخ عيسى عليهم الصلاة والسلام، وبين التاريخ الأسود الذي يقوم على الكفر والتكذيب ومحاربة الحق ونقض العهود وقتل الأنبياء وممارسة الظلم والسعي في الفساد ونشر الرذائل والمنكرات، فهذا التاريخ هو التاريخ الحقيقي لليهود، وهذا ما نتبرأ منه وننكره ونحكم عليهم بالكفر والظلم والفسوق والعصيان.

والدفاع عن حقوقنا لا يكون بذم أنبياء الله الذين اصطفاهم من بين الخلق ليحملوا رسالته، ويدعوا إلى توحيده، وإن تقسيم بني إسرائيل وتاريخهم إلى قسمين إنما هو في الكلام على بني إسرائيل السابقين، الذين كانوا قبل رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فمؤمنهم منا، وكافرهم عدونا، أما بعد بعثة نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم مطالبون بتصديقه والإيمان به واتباعه والدخول في دينه، فمن آمن بدعوة الإسلام فهو مؤمن مسلم، أخ لنا وواحد منا كالصحابي الجليل عبد الله بن سلام رضي الله عنه، ومن رفض ذلك وأصر على يهوديته فهو كافر، أي أن كل اليهود بعد البعثة كفار، وموقفنا من تاريخهم البراءة والإنكار .

وهناك أخطاء في أذهان الكثيرين لا بد أن تصحح فأنبياء بني إسرائيل ليسوا يهودا ولكن اليهود هو كل من كفر فرسالة نبيه؛ وأن لا صلة ليهود اليوم بسلالة بني إسرائيل - وهذا بإثبات واعتراف اليهود أنفسهم - وأن لا حق لليهود في القدس ولا غيرها من أرض فلسطين لا من قريب ولا من بعيد؛ والأرض المقدسة لا تتغير بملك الكافر، فتبقى قدسيتها ومكانتها لحين تحريرها من أيدي الأعداء.

وفي الختام نقول: كيف تكون الأرض المقدسة لمن أعرض عن شرائع الله تعالى وفرائضه ووصاياه؟! وكيف تكون الأرض المقدسة لمن عبد غير الله تعالى، وعبد الآلهة والأوثان؟!! وكيف تكون الأرض المقدسة لمن كذب الرسل وقتل الأنبياء وأساء الأدب مع الله تعالى؟!! وكيف تكون تلك الأرض المباركة حق لمن كفروا من بني إسرائيل، وأدعوا كذبا أنهم أحفاد نبي الله يعقوب عليه السلام؟!!

ونقول لكل من أعطي لليهود الصهاينة الحق في أرض فلسطين التي لا يملكها ولا يستحقها غير المسلمين - زورا وبهتانا - وربط وعد الله سبحانه وتعالى للمؤمنين الصادقين الموحدين بوعد بلفور، هذه الأرض لأهل الإيمان والتقوى طال الزمان أو قصر، فالنصر والتمكين لدين الله قادم لا محالة بنا أو بغيرنا قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (التوبة:33).

فالنصر موعود الله سبحانه وتعالى للجباه الساجدة، والقلوب الموحدة، والأيدي الطاهرة المتوضئة، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:٥٥).

وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه سيحقق النصر على أيدي المؤمنين أتباع هذا الدين في الأرض المقدسة على أعدائهم:" لا تزال طائفة من أمتي على الحق، ظاهرين على من ناوأهم وهم كالإناء بين الأكلة، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " (17).

• الهوامش:

(١) الكنعانيون هم من أقدم الجماعات البشرية التي وعى التاريخ سكناهم لأرض فلسطين، وهم جزء من الهجرات العربية التي خرجت من شبه الجزيرة العرية إلى أرض فلسطين التي سميت لذلك فجر تاريخها بـ " أرض كنعان".

(٢) يهود الخزر، هم من الأتراك المغول، ووطنهم ف بلاد الخزر الواقعة ف جنوب روسياف جوار مصب نهر الفولغاف بحر الخزر (بحر قزوين)، وهؤلاء اليهود كانوا أكبر الكتل المتهودة، وقد اعتنق أكثر أهلها الدين اليهودي ف العصور الوسطى بعد اعتناق أمير هم اليهودية، وبقيت تمارس الديانة اليهودية بحرية هناك حتى أواخر القرن العاشر الميلادي. وللاستزادة يرجع إلى كتيب "يهود اليوم... ليسوا يهودا " د بنيامين فريدمان.

(٣) دولة الخزر الجديدة أو إسرائيل ص: 36-37.

(٤) أثر الفكر اليهودي ف كتابة التاريخ الإسلامي ص: ٧٤.

(ه) تاريخ يهود الخزر ل: د. م. دنلوب - ترجمة: سهيل زكار ص: ٣٤٦ - ٣٤٧.

(٦) د. يوسف القرضاوي، (القدس قضية كل مسلم)، بتصرف واختصار.

(٧) تيار اليهود الأرثوذكس هو الأكبر بين التيارات اليهودية في العالم والأوسع انتشارا، ويضم في صفوفه الجماعات المتدينة الوطنية اليهودية والجماعات الأكثر تزمتا وتشددا بما له علاقة بأصول الديائة اليهودية، وفي مقدمة هؤلاء الحريديم - أي المتشددون دينيا واجتماعيا وسلوكيا - وينادون بالتمسك الشديد بكافة أصول الديانة اليهودية وشرائعها كما هو وارد ف التوراة منذ بداية اليهودية وحتى أيامنا المعاصرة، وفي مقدمة ذلك الشرائع والتعليمات والأنظمة التي يجب على اليهودي، خاصة المتدين، السير بموجبها. ويعتقدون بكل ما جاء في التوراة والتلمود، والأرثوذكسية ذاتها مكونة من عدة تيارات، ولكن المشترك فيما بينها هو موافقتها وتوافقها على أن الشريعة اليهودية هي مركز حياة الشعب اليهودي كجماعة وأفراد.

(٨) عاموس إيلون موسوعة اليهود واليهودية عد الوهاب المسيري.

(٩) موسوعة اليهود واليهودية عبد الوهاب المسيري.

(١٠) تفسير القرآن محمد صالح العثيمين ج٣ ص ١١٧.

(١١) السلسلة الصحيحة ج٨ ص ٣5٦.

(١٢) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/225).

(١٣) معجم المناهي اللفظية، للشيخ بكر أبو زيد؛ ص ٩٣.

(١٤) صحيح مسلم، حديث رقم ٣٤٧٤.

(١5) شرح النووي لصحيح مسلم، ي/ ص ١٠٣.

(١٦) أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ، د. جمال عد الهادى.

(١٧) أخرجه الطبراني الكبير رقم ٧٥٤ وصححه الألباني ف الصحيح رقم ٢٧٠.

 

مجلة بيت المقدس للدراسات – العدد التاسع

.