فلسطين التاريخ / الواقع والمأمول
أخلاقنا في نازلة غزة .. صيحة نذير!

أخلاقنا في نازلة غزة .. صيحة نذير!
منذر المشارقة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
مع تزايد المعاناة التي تواجه أهلنا في فلسطين – من قتل وتشريد وتجويع وتحريق – يظهر جليًا مدى الحمية والإحساس العميق في قلوب شباب المسلمين تجاه إخوانهم هناك؛ حيث تجد الكثير منا يشعر بالتقصير ويبحث عن أي سبيل يمكنه من خلاله أن يخفف - ولو جزءًا يسيرًا - من معاناة الشعب الفلسطيني؛ ذلك أن كل مسلم مخلص يتمنى أن يكون له دور حقيقي في نصرة أهلنا هناك، ورفع الظلم والعدوان عنهم.
وفي خضم هذه المآسي الدامية، نجد أن الجميع يدلي برأيه ويناقش ما يجري – سواء أكان عالِمًا أو مثقفًا أو سياسيًا أو حتى من عامة الناس – مما يجعل أصوات النقاشات كثيرة ومتشعبة، وعلى الرغم من ذلك، فإن الحاجة ماسّة في مثل هذه الأوقات للتذكير ببعض الأخلاقيات التي ينبغي التمسك بها عند الحديث عن المصائب والمآسي التي تصيب أمتنا الإسلامية والعربية.
- إن الابتلاءات والشدائد تكشف معادن الناس، وأخلاقيات المسلم تتجلى وتبدو على حقيقتها في مثل هذه المواقف الصعبة؛ وإن مما يُؤسَف له أن كثيرًا من النقاشات الدائرة حول أحداث فلسطين باتت مليئة بالسباب والشتائم، والاتهامات المتبادلة، والتخوين، والاستهزاء بالآخرين، - إلا من رحم الله - وكأن صوت الحق قد غرق وسط هذا السيل الجارف من الكلمات السلبية!! والأمر المحزن أيضًا أن مثل نلك الممارسات أصبح لا يقتصر على عامة الناس فحسب؛ بل أصبحت تجد أمثاله حتى عند بعض من ينتسبون للدعوة إلى الله؛ ممن يُفترض أن يكونوا قدوة في القول والعمل!!
ومع الأسف، أصبح مثل هذا السلوك لا يقتصر على توجه معين أو تيار محدد؛ بل أصبح مشهدًا عامًا يقع فيه كثيرون - على اختلاف توجهاتهم - فلا تكاد تسمع حديثًا لسياسي، أو تعقيبًا لطالب علم، أو تعليقًا من مثقف أو صحفي، إلا وتجد في الردود وابلًا من الاتهامات والشتائم الموجهة من المخالفين لهم!! وقد أصبحت تلك الظاهرة سمة تأتي معها سيول من الكلمات السلبية التي تؤثر بالفعل على أخلاقنا وسلوكنا كمجتمع!!
- وأمام هذا الواقع المحزن، أرى أن من واجبنا أن نعود إلى أنفسنا لنستذكر الأخلاقيات العظيمة والقيم النبيلة التي يجب على المسلم أن يتحلى بها في مثل هذه الظروف.
إن الأزمة الأخلاقية التي نعاني منها هي إحدى أسباب ضعف أمتنا، وهي دليل على بعدنا عن السلوك النبوي الذي ينهض بالأمة ويصون كيانها.
لذا، أحببت أن أذكّر نفسي أولاً - وإياكم جميعًا - بأهم الأخلاقيات والقيم التي ينبغي أن نتحلى بها في مثل هذه الأوقات، لعلنا نصلح ما يمكن إصلاحه، وهي كما يلي:
أولاً: تبنّي الكلمة الطيبة.
قال الله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا}(الإسراء: 53)؛ فالكلمة الطيبة قادرة على إخماد كثير من نيران الخلافات والفتن، ولا سيما في مثل هذه الأوقات العصيبة حيث تختلط المشاعر وتطيش العقول خلال الفتن، لتظهر حقيقة أخلاق الإنسان ومعدنه. فبدلاً من الشتم والطعن في الآخرين، علينا أن ندرك أن نصرة قضية فلسطين – لن تكون ببذاءة الألسن ولا بإلقاء التهم، ولنتذكر ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من التحذير بأن كلمة قد تُلقي بصاحبها في النار سبعين خريفًا!! نسأل الله أن يجعل ألسنتنا عامرة بالكلام الطيب الذي يصلح الأحوال.
ثانيًا: العدل والإنصاف في كل الأمور.
العدل هو أساس الحياة السليمة، وهو ما أكد عليه الإسلام في كل نواحيه، قال الله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}(الأنعام: 152)، وقال أيضًا: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(المائدة: 8).
إن من أهم أسباب الفرقة والاختلاف – ولا سيما في أوقات الفتن - غياب العدل والإنصاف، والمسلم الحق يجاهد نفسه ليكون عادلاً مع الجميع، حتى مع من يختلف معهم، وللأسف فإننا نجد أن البعض يُسقِط الأشخاص بالكامل بسبب زلة أو هفوة، ويُنكر عليهم أعمالهم الحسنة!! وهذا من الظلم البيّن الذي حذر منه الشارع، فالتعامل بإنصاف - حتى مع المخالفين - دليل إخلاص ورغبة حقيقية في الإصلاح وهداية الناس.
ثالثًا: إحسان الظن.
مع تباين وجهات النظر، تزداد ظاهرة سوء الظن بين الناس؛ حيث يظن كل طرف أن الآخر مُخطئ أو أنه يتبنى نوايا سيئة؛ بل يصل الأمر بالبعض إلى إطلاق أوصاف مؤلمة كالاتهام بالخيانة أو العمالة أو وصف العلماء بأنهم "علماء السلاطين"!!
بينما الإسلام دعا إلى إحسان الظن، وحذر بشدة من سوء الظن فقال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}(الحجرات: 12)؛ فلنرتقِ بأخلاقنا، ولنحرص على تفسير الأمور بطريقة إيجابية تحفظ جسور التواصل بيننا وتمنع الشحناء والعداوة والبغضاء.
رابعًا: التثبت قبل نقل الأخبار.
التثبت من الأخبار غدا أمرًا في غاية الأهمية في عصرنا الحالي، خصوصًا مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي تعج بالأخبار والنقاشات دون سند قوي أو مصدر موثوق؛ ذلك أن كثيرًا من الأخبار التي نقرأها تُرفق بصور أو مقاطع فيديو قد تكون مفبركة، أو قد يُساء تفسيرها، فيقع المسلم في مغبّة اتهام الآخرين دون حق أو إصدار أحكام خاطئة!!
لذا، فإن المسلم الحكيم يُعطي نفسه وقتًا للتفكير وللتحقق قبل نشر الأخبار ليكون على يقين بأنها صحيحة، تجنبًا لنشر الأكاذيب أو تأجيج الفتن، ولنذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع".
خامسًا: الامتناع عن الحديث بلا علم.
وذلك مصداقا لقول الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}(الإسراء: 36)؛ فإن من الأخطاء الشائعة أن يتحدث البعض بلا علم، ولا سيما في أمور خطيرة ومعقدة مثل قضية فلسطين التي لها أبعاد تاريخية وسياسية ودينية عميقة، وللأسف، نجد أن بعض الناس – بل وحتى ممن يُفترض أنهم طلبة علم – يتسرعون بالحديث أو الفتوى في هذه القضايا الدقيقة دون امتلاك خلفية معرفية متينة.
فهذه القضية ليست مجرد مشكلة بسيطة يمكن الحكم عليها من قراءة التقارير أو سماع بعض النقاشات السطحية؛ وإنما هي قضية شائكة تتطلب فهمًا عميقًا للتاريخ، والسياسة، والشرع، وبالتالي لابد أن يكون الحديث عنها قائمًا على بصيرة ودراية، وترك الفتوى فيها للمجامع الفقهية أو لأهل العلم المتخصصين.
- خلاصة القول:
إن هذه الأخلاقيات ليست مجرد نصائح عابرة؛ بل هي معايير نتأسى بها لتُعيننا على تحمل المسؤولية في أوقات الفتن، وتهيئنا ليكون خطابنا وأفعالنا منضبطة بشرع الله وأخلاق الإسلام؛ فبهذه الأخلاق نستطيع أن نصبح جزءًا من الحل - لا جزءًا من المشكلة - فلنجعل من أفعالنا وأقوالنا ما يُصلح ويؤلف، بعيدًا عن الإساءة أو الفوضى، حتى ننال الرضا من الله، ونسهم في رص الصفوف في وقت تحتاج الأمة فيه إلى الوحدة والتكاتف أكثر من أي وقت مضى.
يمكن تحميله PDF من هنا 👇
. تحميل الملف المرفق