فلسطين التاريخ / الواقع والمأمول

دور الأنبياء والعلماء في استنقاذ القدس من الأعداء( 1900ق.م-1291م )

بقلم: أ.د. خالد يونس الخالدي

أستاذ التاريخ الإسلامي في الجامعة الإسلامية بغزة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد

تأملتُ في تاريخ القدس منذ أقدم العصور وحتى عصرنا هذا، فتوصلت إلى الحقائق التالية:

الحقيقة الأولى: أن هذه المدينة المقدسة هي مركز الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل منذ أقدم العصور وحتى اليوم.

الحقيقة الثانية: أن أهل الحق وأهل الباطل يتعاقبون على حكم القدس منذ أقدم العصور وحتى اليوم،فتكون تحت حكم أهل الحق، وتبقى في أيديهم ما داموا مؤمنين بربهم، ملتزمين بدينهم، مجاهدين في سبيل الله، و إذا ضعف الإيمان، وقل الالتزام، وتُرك الجهاد، سقطت في قبضة الباطل، ولا تعود إلى حكم أهل الحق مهما طال زمن احتلال الباطل لها، إلا إذا توفرت الفئة المؤمنة الملتزمة المجاهدة.

الحقيقة الثالثة: أن الفئة المؤمنة الملتزمة المجاهدة المؤهلة للنصر والتحريرلم تتكون في أي عصر من العصور إلا بجهود الأنبياء أو ورثتهم من العلماء الصالحين العاملين المربين المجاهدين.
وسوف أبين تلك الحقائق من خلال محطات رئيسة في تاريخ القدس، مركزاً على دور الأنبياء و العلماء عبر التاريخ في تحرير القدس، أو حفظها من السقوط

ليعتبر علماء عصرنا، ويقوموا بواجبهم في تحرير القدس التي تعاني من حكم الباطل منذ نحو مائة سنة.

أولاً: كانت القدس حوالي (1900ق.م) تحت حكم أهل الحق، وكان للنبي إبراهيم عليه السلام الفضل في تمكينهم فيها، حيث نشر الإسلام بين ثلة من أهلها، ونجح في كسب حاكمها اليبوسي الكنعاني ملكي صادق إلى الإسلام. وكان الإمام في هذه الأرض المقدسة هو إبراهيم –عليه السلام- يؤكد ذلك قولُ الله تعالى:" وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما، قال ومن ذريتي؟ قال لا ينال عهدي الظالمين".

ثانياً: ظلت القدس تحت حكم أهل الحق بعد وفاة إبراهيم عليه السلام، حيث قام أبناؤه إسحاق ويعقوب بواجبهم في هداية الناس وإرشادهم، وحافظوا على الإمامة فيها، يؤكد ذلك قول الله تعالى:"ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلاً جعلنا صالحين، وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا، وأوحينا إليهم فعل الخيرات، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين".

ثالثاً: كانت القدس خاضعة لحكم القوم الجبارين زمن بعثة موسى عليه السلام حوالي( 1300ق.م حيث سلطهم الله تعالى على المارقين عن دينهم. ولا بد أن مروقهم عن الدين نتج عن انحراف العلماء، وغياب دورهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

رابعاً: كلف الله موسى عليه السلام بتحرير الأرض المقدسة بمن معه من المؤمنين، لأنه لا يجوز لأهل الحق عندما تصبح لهم شوكة أن يتركوها مغتصبة في أيدي أهل الباطل، فأمر موسى قومه بالتوجه إليها بعد أن نجاهم الله من فرعون وجنده، لكنهم جبنوا عن الجهاد ورفضوا، فعاقبهم الله تعالى بالتشرد والذل، وهذا مصير كل من لا يقوم بدوره من المسلمين في تحرير القدس، أما موسى عليه السلام فقد سأل الله أن يفرق بينه وبين قومه الظالمين، وأن يموت قريباً من القدس، فحقق الله له ما أراد.

خامساً: اندثر الجيل الجبان المنحرف من قوم موسى، وخرج جيل جديد، فبعث الله لهم نبياً هو يوشع بن نون، دعاهم إلى الإيمان فآمنوا، وحضهم على الجهاد فاستجاب جزءٌ منهم، لكنه قرر ألا يشارك معه في تحرير بيت المقدس إلا الأتقياء المعلقة قلوبهم بالآخرة، فنقى صفه، وأخرج منه كل من رجّح أن قلبه معلق بالدنيا، وبالفئة القليلة المؤمنة تمكن من تحرير القدس (حوالي 1190ق.م).

وعن يوشع بن نون وتنقية صفه يحدثنا النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم فيقول:"غزا نبي من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني منكم رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها، ولا أحد بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينتظر أولادها، فغزا فدنا من القرية صلاة العصر أو قريباً من ذلك، فقال للشمس أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحبست حتى فتح الله عليه".

سادساً: ظلت بيت المقدس في يد الفئة المؤمنة من أتباع يوشع بن نون نحو أربعة عقود حيث مات يوشع، و غاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فخرج جيل منحرف مترف جبان، فجرت فيهم سنة الله في المنحرفين، إذ سلط الله عليهم من أهانهم واغتصب أرضهم وسامهم سوء العذاب، وهم جالوت وجنوده الذين يرجح أنهم الآشوريون، وكان ذلك حوالي( 1150ق.م).
وقد طال حكم جالوت وجنوده لبيت المقدس، لنحو 125 سنة، بسبب فساد أحبار بني إسرائيل، إذ أعطوا لأنفسهم حق التشريع لقومهم، وكأنهم أربابلهم، فأحلوا لهم الحرام و حرموا عليهم الحلال، قال تعالى:" اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله". ولأن بني إسرائيل وعلماءهم كانوا لا يتناهون عن المنكر، قال تعالى:" لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتاهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون".

سابعاً: ظلت القدس في قبضة جالوت وجنودِه إلى أن عاد أهلُ بيت المقدس إلى دينهم، واستعدوا للجهاد، وخرجت منهم فئةٌ مؤمنة ربانية مجاهدة قادها الملك المؤمن العالم طالوت، وكان من بين جنده المؤمنين داوود عليه السلام، وكان ذلك حوالي سنة 1025ق.م. وكان لأحد أنبيائهم واسمه شمويل بن بالي الدور الرئيس في إصلاحهم وترغيبهم في الجهاد.

ولأنه لا يصلح لتحرير القدس إلا الصالحون الصادقون الأتقياء قرر طالوت أن يمحص صفه وينقيه من ضعاف الإيمان، فاختبرهم اختبارات عدة، ولم يواجه عدوه إلا بفئة مؤمنة نجحت في كل مراحل التمحيص والاختبار، ويصور الله سبحانه هذا التمحيص وما حصل بعده من نصر لعباده الصادقين فيقول:"فلما فصل طالوت بالجنود قال: إن الله مبتليكم بنهر، فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني، إلا من اغترف غرفة بيده، فشربوا منه إلا قليلاً منهم، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه، قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين* ولما برزوا لجالوت وجنوده، قالوا ربنا أفرغ علنا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين* فهزموهم بإذن الله، وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة، وعلمه مما يشاء، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين".

ثامناً: أقام داود ومن بعده ولدُه سليمان عليهما السلام دولة خلافة إسلامية في الشام وكانت عاصمتها القدس، وزمن قيامها هو سنة 1004ق.م، ويعد عصر هذه الدولة هو العصر الذهبي لبيت المقدس. وما يؤكد إسلامية هذه الدولة أن الأنبياء كلهم مسلمون، فسليمان عليه السلام عندما دعا بلقيس ملكة سبأ إلى دينه دعاها إلى الإسلام إذ أرسل إليها يقول:"إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، ألا تعلوا عليَّ وأتوني مسلمين".وعندما قررت بلقيس الدخول في دين سليمان قالت:" وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين".

تاسعاً: استمر حكم داود وسليمان حوالي ثمانين عاماً،(1004-923ق.م)، ثم انحرف بنو إسرائيل عن عقيدة أنبيائهم(الإسلام)، وأخذت زاوية الانحراف تزداد بالتدريج، بفعل غياب العلماء الصالحين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، وانقسمت مملكة سليمان إلى قسمين شكلا دولتين منفصلتين، عرفت إحداهما بمملكة إسرائيل(923-721ق.م)، بينما سميت الأخرى مملكة يهودا(923-586ق.م)، وقد عانت هاتان الدولتان من الفساد العقائدي والأخلاقي، وانتشر الترف والانحراف وأدى إلى الضعف العسكري والسياسي، فتحققت فيهم سنة الله تعالى التي تحققت فيمن قبلهم من المنحرفين عن منهج الله، إذ سلط الله على مملكة إسرائيل الملك الآشوري سرجون الثاني، فقضى عليها سنة721ق.م، ونقل سكانها إلى حران وكردستان وفارس وساموهم سوء العذاب، وأسكنوا مكانهم جماعات من الآراميين، كما سلط الله سبحانه على مملكة يهودا نبوخذنصر فقضى عليها سنة586ق.م وسبى 40ألفاً من أهلها المنحرفين إلى بابل.

عاشراً: أرسل الله سبحانه عدداً كبيراً من الأنبياء إلى بني إسرائيل المنحرفين، لعلهم يهتدون ويعودون إلى الإسلام دين أنبيائهم، ويستحقون التمكين في الأرض المقدسة، لكنهم كذبوا أنبياءهم، وأساءوا إليهم، وقتلوا كثيراً منهم، فاستحقوا البقاء في الذل والتشرد والعبودية للعديد من الأقوام، إذ تمكن الإمبراطور الفارسي قورش الثاني من احتلال القدس بعد أن أسقط الدولة البابلية الكلدانية سنة 539ق.م،و أعاد قورش جزءاً من اليهود إلى القدس مكافأة لهم على مساعدتهم له ضد البابليين، فعاشوا فيها أذلاء تحت حكم الفرس.

ثم خضعت القدس لاحتلال الإسكندر المقدوني سنة 332ق.م، فعاش اليهود خاضعين لليونان، وانقسموا وزادت خلافاتهم بسبب تنافسهم على الولاء لحكامهم.

ثم خضعت القدس سنة37ق.م لاحتلال الرومان الذين نصَّبوا عليها هيرودس الذي تهود وقتل -بتحريض من اليهود- نبي الله يحيى ثم أباه النبي زكريا، ورمى اليهود مريم بنت عمران بالزنى، وهموا بقتل عيسى عليه السلام، وظنوا أنهم قتلوه لكن الله نجاه منهم ورفعه إليه.

أحد عشر: ظلت بيت المقدس وأرض الشام في قبضة المحتل الأوروبي(الرومي) حتى قيض الله لها المسلمين فحرروها بقادة و جندٍ رباهم على الإيمان والالتزام والجهاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكبار الصحابة، إذ تسلم مفاتيحها عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- سنة 16هـ /637م. ويلاحظ أن مدة تعاقب أهل الباطل عليها، وبعدها عن حكم أهل الحق كانت طويلة جداً من سنة 923ق.م – سنة 637م أي 1560 سنة، وذلك لعدم استجابة بني إسرائيل لرسلهم، بل قيامهم بتكذيبهم وقتلهم، ولا شك أن الأمة التي لا تستجيب للأنبياء أو لورثتهم من العلماء تعاقب بالذل والهوان واتيه والشرد والاستعباد.

وقبل أن يغادر بيت المقدس لم ينس الخليفة العالم أن يوصي المسلمين في زمانه وفي الأزمنة اللاحقة بالتمسك بالمبادئ التي تبقي القدس في أيديهم، فقال:" يا أهل الإسلام، إن الله تعالى قد صدقكم الوعد، ونصركم على الأعداء، وأورثكم البلاد، ومكَّن لكم في الأرض، فلا يكون جزاؤه منكم إلا الشكر، وإياكم والعمل بالمعاصي، فإن العمل بالمعاصي كفر بالنعم، وقلما كفر قوم بما أنعم الله عليهم ثم لم يفرغوا إلى التوبة إلا سُلبوا عزَّهم، وسلَّط الله عليهم عدوهم".

اثنى عشر: ظلت القدس في أيدي المسلمين نحو خمسة قرون ينعمون بها وتنعم بهم وبحكمهم لها على منهج الله، وعندما انحرفوا عن دينهم، وتنافسوا على الدنيا، وكثرت معاصيهم، ولم يفرغوا إلى التوبة، و انشغل العلماء بالدنيا، وبمسائل جدلية فلسفية و ضعف دورهم الدعوي والتربوي و التعليمي، سُلِبوا عزهم، وسلط الله عليهم عدوهم، وسقطت القدس سنة 492هـ/1099م في أيدي الصليبيين.

وقد سجل التاريخ على الفاطميين الشيعة وواليهم على القدس افتخار الدولة أنهم تنازلوا عن القدس للصليبيين مقابل تركهم يحكمون مصر، حيث سمح الصليبيون لهولحاشيته بالخروج، مقابل ترك القدس وأهلها المسلمين لهم، فقتلوا منهم أكثر من سبعين ألفاً بينهم الكثير من الفقهاء والعلماء والعباد الذين قصروا بسكوتهم عن الحكم الشيعي للقدس، و قصروا عندما لم يقوموا بدورهم في صناعة جيل مؤمن ملتزم مجاهد يستعصي على الانهزام أمام الأعداء." واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة". 

ثلاثة عشر: ظلت القدس أسيرة في قبضة الصليبيين إلى أن أخذ المسلمون بأسباب النصر، فعادوا إلى ربهم، والتزموا بدينهم، وزهدوا في الدنيا، ووحدوا كلمتهم على الجهاد في سبيل الله، وتسلم قيادتهم أمراء ربانيون مجاهدون، فحرروها سنة583هـ/1187م.

أربعة عشر: أسهم في صناعة الجيل الذي جاهد الصليبيين وانتصر عليهم الكثير من العلماء، أمثال الشيخ أبي حامد الغزالي(ت: 505ه)، الذي وجد أن النصر لا يتحقق إلا ببناء جيل قوي الإيمان، خالٍ من أمراض النفس، مقبلٍ على الله، فألف كتاباً اشتهر في زمن الاحتلال الصليبي للقدس و كان بالغ الأثر في إصلاح النفوس، هو كتاب" إحياء علوم الدين".

والشيخ عبد القادر الجيلاني( ت: 561ه) الذي انتهج منهج وعظ الناس، وحثهم على الالتزام بالدين، وكان يحضر مجلسه نحو سبعين ألفاً، وبنى مدرسة لتخريج العلماء العاملين.

وسبط ابن الجوزي الذي كان يحرض على الجهاد، ويشارك بنفسه في الجهاد ضد الصليبيين.

وشيخ الإسلام ابن تيمية الذي آمن أن فلسطين لن تُحرر من الصليبيين إلا بجيل يجمع بين قوة العقيدة وسلامتها، ويتمسك بالسنة ويبتعد عن البدع، ويجاهد في سبيل الله، وقد عمل على إعداد هذا الجيل، واصطدم بالأمراء المتقاعسين، وتعرض لأذاهم، وشارك بنفسه سنة 690ه في تحرير عكا آخر معاقل الصليبيين في بلاد الشام من الاحتلال الصليبي، وكان للجيل الذي أعده دوراً رئيساً في معارك التحرير الكامل للشام.

خمسة عشر: نجحت جهود العلماء المربين المجاهدين في صناعة جيل النصر و التحرير وقادته، فقد ولد نور الدين محمود بن زنكي -الذي حرر معظم الشام وفلسطين- تحت الاحتلال الصليبي، وتربى على كتب الغزالي وغيره من العلماء، فكان من خيرة الأمراء، وصفه ابن الأثير فقال:" طالعت تواريخ الملوك المتقدمين إلى يومنا هذا، فلم أرى بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين". وقال فيه ابن كثير: "كان رحمه الله حسن الخط كثير المطالعة للكتب الدينية متبعا للآثار النبوية، محافظاً على الصلوات في الجماعات، كثير التلاوة، محباً لفعل الخيرات، عفيف البطن والفرج، مقتصداً في الإنفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس، حتى قيل إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقة منه، من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا، ولم يُسمع منه كلمةُ فحش قط في غضب ولا رضى، صموتاً وقوراً" وتحدث ابن كثير عنه فقال:" قرأ عليه بعض طلبة الحديث حديثاً مسلسلاً بالتبسم، فطُلب منه أن يبتسم ليصل التسلسل، فامتنع من ذلك وقال: إني لأستحي من الله أن يراني مبتسماً والمسلمون يحاصرهم الفرنج بثغر دمياط".

أما صلاح الدين الأيوبي الذي تحررت القدس على يديه وأيدي جنده المؤمنين، فقد تأثر بالعلماء الصالحين في عصره، ووصفه ابن شداد بقوله: كان "حسن العقيدة، كثير الذكر، شديد المواظبة على صلاة الجماعة، ويواظب على السنة والنوافل ويقوم الليل، وكان يحب سماع القرآن وينتقي إمامه، وكان رقيق القلب خاشع الدمعة، إذا سمع القرآن دمعت عيناه، شديد الرغبة في سماع الحديث، كثير التعظيم لشعائر الله

ويقول ابن كثير أن صلاح الدين:" لم يترك في خزانته من الذهب سوى جرام واحد، أي دينار واحد صورياً وستة وثلاثين درهماً، وقيل أنه:لم يترك داراً ولا عقاراً ولا مزرعة ولا بستاناً ولا شيئاً من أنواع الأملاك".

ستة عشر: أدرك نور الدين محمود بن زنكي أهمية دور العلماء في تحرير القدس، فأكرمهم، وأنفق عليهم، وبالغ في إجلالهم، وتقريبهم، وبنى لهم المدارس في كل مكان، فأخذوا ينشرون العلم، ويربون طلابهم على حب الجهاد، وعندما نصحه بعض مستشاريه بتقليل الإنفاق عليهم، لحاجة الدولة للإنفاق على إعداد الجيوش للقتال، قال لهم:" "هم جند الله، وبدعائهم نُنصر على الأعداء، ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيهم، فإن رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا"، وكان يسمع نصيحتهم ويجلها ويقول: "إن البلخي إذا قال لي: محمود، قامت كل شعرة في جسدي هيبة له ويرق قلبي"، وبالرغم من أن الأمراء والقادة كانوا لا يجرؤون على الجلوس في مجلسه دون أمره وإذنه، فإنه كان إذا دخل عليه العالم الفقيه، أو الرجل الصالح، قام هو إليه، وأجلسه، وأقبل عليه مظهراً كل احترام وتوقير. لقد كانت بلاد الشام خالية من العلم وأهله، وفي زمانه صارت مقراً للعلماء والفقهاء والصوفية، وقد أسهم ذلك في صناعة مجتمع مؤمن قوي متعلم محب للجهاد، راغب في تحرير القدس، وقد نجح المجتمع الذي أعده العلماء الصالحون في تحرير معظم الشام وفلسطين.

سبعة عشر: سقطت عاصمة الخلافة الإسلامية بغداد في قبضة المغول سنة656هـ/1258م، بسبب انحراف الخليفة المستعصم وانشغاله باللهو، وتسليم مقاليد الحكم إلى الوزير ابن العلقمي الذي تآمر مع المغول على تسليمهم بغداد.

و زحف المغول إلى بلاد الشام التي كان أهلها وحكامها وقتئذ منحرفين مترفين عابثين متصارعين، وفرَّ الأمراء عن دويلاتهم الهزيلة وتركوا شعوبهم بلا قيادة.

وقد تمكن المغول من احتلال الشام دون مقاومة تذكر، وعندما وصلوا إلى غزة بعث هولاكو برسالة إلى حاكم مصر سيف الدين قطز يقول فيها:"اتعظوا بغيركم، وأسلموا إلينا أمركم، فنحن لا نرحم من بكى، ولا نرق لمن شكا، أي أرض تؤويكم ؟ وأي طريق تنجيكم؟ وأي بلاد تحميكم؟ فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، الحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يسمع".

ولسوء حظ هولاكو وجنوده فقد كان قطز حاكماً مؤمناً مجاهداً، تربى منذ سن التاسعة في الشام على يد العز بن عبد السلام، وعندما وصل قطز إلى حكم مصر صار العز شيخ العلماء فيها، وقد أمر قطز بقتل رسل هولاكو وتعليقهم، واجتمع بالأمراء والقادة والوجهاء، وطلب رأيهم عد أن أسمعهم رسالة هولاكو، فأشاروا عليه بالهروب، فقال" والله لو لأجد من ألقاهم به إلا نفسي للقيتهم بنفسي، فارتفعت هممه، وقرروا القتال معه، واستدعى عالم مصر، وطلب منه أن يحرض الناس على الجهاد، وقام العلماء بدورهم، وتحمس الناس للجهاد في سبيل الله، وتكوَّن جيش مؤمن معظم جنده من العلماء والصالحين و أهل الجهاد، و قرر قائده قطز أن يكون شعاره: "واإسلاماه"، وأن يخرج الجيش لملاقاة المغول، وأن يحرروا الشام وفلسطين من دنسهم، ودارت معركة عين جالوت في ( 25-رمضان-658هـ/6-سبتمبر-1260م)، وهزم المغول لأول مرة في تاريخهم، وتحررت فلسطين بعد خمسة أشهر فقط من احتلالها، لتخرج الأمة بدرس كبير وهو أن التحرير لا يتأخر عندما يواجَه الأعداءُ بجيش مؤمن يقوده قائد رباني يأخذ بكل أسباب النصر الممكنة، وعندما يقوم علماء الأمة بدورهم في الدعوة والتربية والتعليم والبناء والجهاد.

التوصيات:
1- من الضروري أن يدرك أولو الأمر الراغبين في تحرير القدس أن جيل النصر والتحرير لن يُبنى إلا بجهود العلماء الأقوياء الأتقياء الصالحين المجاهدين، لذلك لا بد من العمل على إعداد هذه النوعية من العلماء، وتقديرهم، و مشاورتهم، وتوفير كل ما يعينهم على القيام بواجبهم.

2- على العلماء أن يدركوا أنهم ورثة الأنبياء، وأنهم لن ينجحوا في إصلاح المجتمع إلا إذا أصلحوا أنفسهم، و جعلوا الآخرة أكبر همهم، و نأوا بأنفسهم عن التنافس على الجاه والمال، وكانوا قدوة للناس في كل ما يدعونهم إليه.

3- لا بد من إعداد العلماء للمشاركة بأنفسهم في معركة تحرير القدس، لأن وجودهم في صفوف المجاهدين، يرفع الهمم، ويعجل في النصر والتحرير.

4- أن تحرير القدس لن يتحقق مهما طال زمن الاحتلال، إلا بجيل قوي الإيمان، شديد الالتزام، محب للجهاد في سبيل الله، وعلى الحكم و العلماء والمربين والآباء ومسئولي وزارات التربية والتعليم والثقافة والشباب و الأوقاف والمرأة أن يكثفوا جهودهم لإعداد هذا الجيل.

وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آل وصحبه وسلم

والحمد لله رب العالمين.

.