فلسطين التاريخ / الواقع والمأمول

رمضان في غزة والضفة .. حرمان وآلام .

يمر رمضان هذا العام على أهل غزة والمعاناة لم تتغير عن معاناة رمضان الذي مضى... فالحصار مستمر ... والانقسام الداخلي يُدعم ليستمر .. وازدادت نسبة الفقر والبطالة ؛ وارتفعت معها الأسعار والغلاء الفاحش ... وزيادة على ذلك جاءت مشكلة الإضرابات في النقابات المهنية وتحديداً في قطاعي الصحة والتعليم "لتزيد الطين بله" وتنغص على المواطن حياته أكثر فأكثر , فهو إن مرض لا يجد من يعالجه وإذا أرسل أولاده للتعليم لن يجدوا من يدرسهم ...

يصف أهل غزة أسواق القطاع والتي طالما كانت مزدحمة خلال شهر رمضان في السابق ؛ بأنها خالية من الأهالي لعجزهم من توفير أدنى متطلبات الحياة ، معاناة فوق معاناة فالحصار من اليهود محكم ، والمعابر من العرب مغلقة ، والتيار الكهربائي ينقطع أغلب ساعات اليوم ، والبضائع التي تدخل للقطاع محدودة حيث يسمح السجان اليهودي بإدخال سلع مقننة ، لتُبْقِي المسجون على الحد الأدنى من الحياة... ولكن دون كرامة !! والتوتر الداخلي الذي بلغ أشده بين حماس وفتح جعلت المواطن في القطاع يعيش هذا التوتر ويترقب ويسأل الله أن يلطف وأن تحقن الدماء التي يدفع لها أن تُسال !!

يصف لي الأخوة العاملين في الجمعيات والهيئات الخيرية في فلسطين  حالة العوز وضيق الحال التي بلغت بالكثير من الأسر أن لا تجد على مائدة الإفطار إلا موائد متقشفة كالماء وحبات من التمر ، والبعض ممن استطاع الحصول على كيس من العدس ليكون الصنف الوحيد على مائدته طوال أيام الصيام ..., وغيرهم كان فطوره الخبز والشاي ...معاناة تشتد في رمضان و75% من العائلات هي تحت خط الفقر . هذا فضلاً عن تناول وجبة الإفطار كان في أغلب الأيام على أضواء الشموع بسبب انقطاع الكهرباء.

ففي السنوات السابقة كان أكثر ما يشغل الآباء توفير ملابس وهدايا العيد لأطفالهم ، تلك كانت معاناة الآباء والأمهات ، والآن تغيرت الحال والأحوال  ليكون هّم الأبوين توفير لقمة العيش لأطفالهم ... والعيد يمر على أطفالهم كسائر الأيام ... هذه الحال لم تعهدها المؤسسات الخيرية في السنوات السابقة ، والتي أصابها ما أصابها من الحصار ومنع تحويل الأموال لحساباتها الخيرية ، مما أفقد الآلاف من الأسر والأيتام والأرامل والمرضى والمقعدين مخصصاتهم وكفالاتهم الشهرية ، فأصبحت المؤسسات والجمعيات الخيرية والإنسانية مكتوفة الأيدي أمام تلك المعاناة التي تُنقل لنا بالصوت والصورة عبر القنوات الفضائية ولا نجد من يحرك ساكناً ...

"القطايف" من يشتريها !!

ويذكرون أن باعة "القطايف" - وهي الحلوى المحببة لدى الفلسطينيين في شهر رمضان ، وأذكرها كنموذج ينسحب على كل السلع الغذائية- يشكون من قلة المشترين لهذه الحلوى ، الأمر الذي لم يعهدوه في مثل هذا الشهر المبارك من كل عام ، ويعزو أحد العاملين هذا العزوف إلى الأوضاع الصعبة التي تعيشها الأراضي الفلسطينية، ويقول : "منذ عشرون عاماً وأنا أعمل في هذه المهنة في شهر رمضان، ولا أذكر أن الأمور كانت أسوء مما هي عليه الآن" !! ويضيف : " أسعار القطايف ليست عالية، بل هي متدنية جداً بالمقارنة مع السنوات السابقة، لكن المشكلة ليس بالأسعار، المشكلة أن جيوب الناس فارغة"!!

ويُوصف سوق الخضار بأن الباعة داخله أكثر من المشترين.. العشرات من البسطات التي تحمل الخضروات والمخلّلات والفواكه وعصائر ولحوم وغيرها، لكن دون إقبال من المواطنين، البعض يكتفي بالسؤال عن الأسعار، قبل أن يقفل عائداً إلى بيته حاملاً الغصّة في قلبه، وقلب من ينتظره هناك، فيما "ينبحّ" صوت الباعة دون أن يكفي ذلك لمجرد اكتراث أحد من "المتفرجين"!.

لكن ورغم تلك المنغصات تبدو مشاهد التكافل والترابط ظاهرة للعيان، فالكثيرون يحرصون على الاستفادة من معاني هذا الشهر من خلال القيام بالأعمال الخيرية، وزيارة الأرحام ومساعدة المحتاجين، وإن كانوا هم بحاجة إلى من يساعدهم... كما أن أجواء العبادة في رمضان تبدو في أوجها خلال هذا الشهر، فأصوات تلاوة القرآن الكريم تُسمع بشكل متواصل من المساجد، وعدد المصلين في صلاة التراويح في تزايد كبير، وخاصة من فئة الشباب وهي ظاهرة تبرز دائماً في شهر رمضان.

صور من المعاناة

 لعل البعض يظن أن المعاناة فقط لمن يعيش في قطاع غزة وكأن أهل الضفة والقدس لا يعانون من ممارسات الاحتلال ، فمع الفقر وقلة الموارد ، هناك صوراً أخرى من المعاناة ، فالبعض يضطر للإفطار على الحواجز اليهودية، في طريق العودة إلى مدنهم وقراهم ، فالعديد منهم ينتظر ساعات طويلة على الحواجز حتى يسمح لهم الدخول وفي الغالب لا يسمح لهم بذلك إلا بعد موعد الإفطار إمعاناًٍ في إذلالهم وحرمانهم من مشاركة أهليهم طعام الإفطار، ومن يحاول الالتفاف عبر طرق جانبية ملتوية فإنه سيكون معرضاً لإطلاق النيران بغرض القتل.

وتلخص الحال عجوز بلغت من العمر الثمانون بكلمات تجمع الماضي والحاضر بقولها : "لرمضان في الماضي أكلات خاصة إلى جانب الكثير من الحلويات البسيطة والطيبة في مذاقها، والتي اشتهرت بها القرى الفلسطينية ، وما زالت هذه الأكلات موجودة إلى يومنا هذا، لكن لا يوجد راحة نفسية لتذوق هذه الأطعمة كما كنا نتذوقها قديماً هذا إن توفرت الآن!! ، وهذا يرجع إلى الاحتلال الذي سلبنا كرامة العيش، وسلبنا أبسط الحقوق؛ إذ دمّر بلادنا وقتل شبابنا ولم يُبقِ لنا شيئاً. أتساءل: كيف يكون حالي عندما أتذكر ولديّ الشهيدين على مائدة الإفطار؟ إننا نتألم كثيراً ونعيش حياة صعبة جداً. إننا نتضرع إلى الله في هذا الشهر الفضيل بأن يكشف عنا الهم والحزن، وأن يزيل عنا الاحتلال، وتعود لنا ديارنا ونرجع لها بحول الله تعالى".

 تلك النماذج ما هي إلا غيض من فيض، وقليل من كثير، وصورة مصغرة لما تمر به الكثير من العائلات ... أوضاع اقتصادية في غاية الصعوبة فرضت نفسها خلال شهر رمضان على أهل فلسطين , ولا سيما على موائد الإفطار, التي اختفى منها كثير من أصناف الطعام, التي اعتاد الفلسطينيون على إعدادها خلال هذا الشهر، وأزمة اقتصادية خانقة يعاني منها الجميع هناك , بسبب الحصار الخانق, والإجراءات المشددة التي يفرضها جيش الاحتلال على الأراضي المحتلة ، والرواتب التي لم تقبض منذ عدة شهور !!

تحالف لموت شعب بأكمله

 ما نعيشه هو تحالف عالمي مستمر لحصار فلسطين بأكملها غزة والضفة لقطع جميع التحويلات حتى ولو كانت لمسح دمعة أرملة وكسوة يتيم وإغاثة مسكين لا يجد كِسرة خبز !!

ما نود أن نعرفه: من المجرم في هذا الحصار... من نفذ الحصار؟... ومن طبق الأوامر؟... ومن منع التحويلات على أشكالها ؟... ومن تجاوز في قيوده ما فرضته السياسة المهيمنة على الدول والمؤسسات والحكومات والبنوك ؟!!... أليس من حقنا أن نتساءل ونسائل مؤسساتنا وفي مقدمتها الجامعة العربية لماذا التزمت الصمت أمام معاناة ليس لها مثيل ؟!! ولماذا حرمتم شعب بأكمله من توفير طعامه ، وأدخلتموه في دوامة الجوع والمذلة والمهانة ؟!! أليس من حقنا أن نعرف كيف يترك شعب لمدة أكثر من سنتين وهو يتجرع الجوع الذي رافقه الذل والهوان من خذلان القريب قبل البعيد ؟!! ألا ينبغي أن يكسر الحصار منذ اليوم الأول الذي فرض فيه السجان حصاره ، وتجويعه للسجين !!

والحكومات العربية والإسلامية مطالبة اليوم بأداء واجبها في نصرة الشعب الفلسطيني وعونه، وفك ذلك الحصار الشديد المفروض عليه؛ بتقديم كل وسائل الدعم المادي والاقتصادي والسياسي وعدم الخضوع لتلك الإملاءات والتهديدات الظالمة الجائرة. وعلى الشعوب الإسلامية في العالم أن تقدم مزيد من الدعم والمآزرة لإخوانهم، وليحذر المسلمون جميعاً في العالم من أن يكونوا سبباً في التخذيل أو التواني أو النكوص عن دعم فلسطين والمصلحين فيها فنصرة الشعب الفلسطيني هي نصرة لأرض المسلمين .

عيسى القدومي

18-9-2008



 .