فلسطين التاريخ / تهويد وتزوير وإجرام

من شبهات وأباطيل اليهود: أن اليهود حولوا القدس وفلسطين من صحراء إلى جنان

د.عيسى القدومي

 

هذه الشبهة قالها حاييم وايزمن -رئيس البعثة الصهيونية التي أرسلت إلى فلسطين-، في إطار السعي لتنفيذ الوطن القومي اليهودي في سياق شهادته أمام لجنة التحقيق الملكية البريطانية، مخاطباً أعضاء اللجنة: «لقد حولنا أراضي كانت ملأى بالمستنقعات والرمال إلى أراضي صالحة للزراعة والعمران، لم تكن هناك بيوت ولكن أنشأناها، ولم تكن هناك طرق ولكننا عبّدناها»([1]).

وقد روج الصهاينة الأوائل في الغرب أن فلسطين أرض صحراوية قاحلة، واستمروا في ترويج هذه الأكذوبة حتى بعد تأسيس كيانهم الغاصب؛ للتأكيد على المعجزات التي حققوها في «الصحراء» التي تسمى: «فلسطين»، والتي أهملها «الغزاة» ودمروا معالم الحياة فيها -على حد زعمهم-، لحث اليهود على الهجرة إلى فلسطين، والاستعمار في «أرض الآباء والأجداد».

حيث زعم (ليفي أشكول) -رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق- أن العرب (يطمعون) بفلسطين ليس لأن لهم حقّاً فيها، وإنما فلسطين كانت صحراء أكثر من كونها متخلفة، كانت لا شيء، وأنه فقط بعدما جعلنا الصحراء تزهر ومأهولة بالسكان أصبحوا مهتمين بأخذها منا([2]).

والغرابة أن تلك التصريحات المثيرة للدهشة والاستغراب، والمؤكدة للخرافات التي روجتها الصهيونية العالمية تتكرر بين حين وآخر!([3])، فهذا التزييف العلني والواضح لتسجيل الأحداث والوقائع لم يحبك بالطرق المتقنة؛ والتي كانت تلبس على القارئ وكأنها حقيقة!

لا شك أننا اليوم أمام تزييف ساذج لا ينطلي إلا على السفهاء من الناس، فبعدما قالوا الكثير من الشبه ورددوها بأنهم يهاجرون إلى أرض لا شعب لها، وإلى أرض قاحلة بلا زراعة، متأخرة بلا صناعة، يهودية لا اسم لها في التاريخ سوى إسرائيل.

ونرد على تلك الشبهة بالآتي:

1- أن أهل فلسطين كما هم ضحية احتلال سلب أرضهم وتشريدهم وتدنيس مقدساتهم، والكذب على تاريخهم، والطعن بعقيدتهم وثوابتهم؛ فهم -أيضاً- ضحية الأفكار والأكاذيب التي سوقتها الصهيونية؛ بدءاً من نقاء اليهود وساميتهم إلى الاعتقاد بدونية أهل فلسطين وتخلفهم، وهذا التزييف للحقائق مقصده تغيب أهل فلسطين ليس فقط حضاريّاً وإنما -أيضاً- وجوديّاً على تلك الأرض المباركة.

2- أن الأرض التي بارك الله -تعالى- فيها للعالمين، والتي شهدت نزول الوحي السماوي على كثير من الأنبياء مثل: داود، وعيسى عليهم السلام؛ الذين نشؤوا وترعرعوا في أرض فلسطين، وإلى إبراهيم ولوط وموسى، عليهم السلام؛ الذين هاجروا إلى تلك الأرض المباركة، والتي ظلت على مدار التاريخ والسنين ساحة للصراع والتنازع على ملكيتها والسيطرة على خيراتها، وعمرها التاريخي الذي يفوق (5000) سنة، هل كانت صحراء خالية خلال تلك العهود إلى أن احتلها اليهود في عام (1948م)؟

3- ألا يكفي تلك الأرض المباركة، والتي تهفو لها القلوب شرفاً وقدسية باحتوائها المسجد الأقصى، مسرى النبي عليه الصلاة والسلام، وأولى القبلتين، وثالث المساجـد المعظمة في الإسلام بعد المسجد الحرام، والمسجد النبوي الشريف، فالتاريخ العظيم لهذه الأرض المباركة، والحضارات التي قامت على أرضها، وما سطره الرحالة والمؤرخون والجغرافيون عن هذه الأرض في كتبهم وكتاباتهم بأنها من أخصب بلاد الشام، وأكثرها عمرانا على صغر رقعتها، ثم وقفوا على أصغر مدنها، فحدثونا عما شاهدوه فيها من زروع وثمار، فما اشتهرت بها القدس من ثمار وزروع ومعمار يفوق الخيال، ولا تقل مدن فلسطين الأخرى عن ذلك؛ حيث يصف الدمشقي مدينة نابلس بأنها قصر في بستان([4])، وكذلك أريحا والرملة التي اشتهرت بكثرة فواكهها وجمال عمرانها، وحيفا التي وصفها المقدسي بأنها ليس على (البحر المتوسط) أجمل وأكثر خيرات منها.

4- أليست سائر مدن وجـبال فلسطين وسهولها ملئ بالزروع والثمار؟ ألا يدحض هذا النشاط الزراعي الكثيف أكذوبة اليهود أنهم حولوا الصحراء إلى جنان، ويسقط مزاعمهم بأن جهودهم -منذ بداية الاحتلال- أحيا أرض فلسطين بالزراعة والعمران، ولهذا هم أحق بها من العرب والمسلمين؟

5- لماذا لا يُذكر أن هذا الكيان الغاصب أُقيم على أنقاض حياة الفلسطينيين وحطامهم، وأنه ما قامت دولتهم إلا بتشريد الملايين، وهدم وتدمير آلاف من المنازل والقرى، وتغيير المعالم بهدف طمس الهوية الإسلامية والتاريخية، وإقامة المغتصبات اليهودية، وبدعم كامل من الدول الحليفة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة؛ والتي تشكل مساعداتها (90%) من المساعدات الخارجية المقدمة للكيان اليهودي في فلسطين، وتوفر أكثر من نصف الناتج القومي الإجمالي لهم على الأقل.

6- من المسلمات أن فلسطين خصبة التربة، وافرة الإنتاج الزراعي، فالبرغم من صغر مساحتها، وإمكانيات أهلها المادية والتقنية المتواضعة، فقد كانت تنتج كميات وافرة من الحبوب والخضروات والفواكه وبخاصة البرتقال الفلسطيني؛ الذي كان يحظى بشهرة عالمية.

وحول مستوى التقدم في تجارة البرتقال في يافا قبل الاحتلال، يذكر (خيري
أبو الجبين)(
[5]) في كتابه «حكايات عن يافا» أن قبل الاحتلال اليهودي ليافا في عام (1948م) كان نصف أهل يافا تقريباً مرتبطون بثمره البرتقال، تلك الثمرة الذهبية؛ بدءاً من صاحب البيارة، وعمال البرتقال، والمزارع، والتاجر، والمخمن، والنجار، وتاجر بيع الخشب، والورق اللازم لعملية التصدير، وأصحاب السيارات، والسائقين، وموظفي المخازن، وعمال الميناء، والبحارة، وعمال نقل الصناديق إلى البواخر، وأصحاب المطابع، ومهام أخرى جانبية مرتبطة بثمرة البرتقال؛ التي امتازت بزراعتها يافا، وكان من البرتقال العادي، والبرتقال الشموطي، وأبو صرة، والفالسينا، ودم الزغلول، والكباد، والبوملي، والجريب فروت، والكلمنتينا، والمندلينا، ويوسف أفندي، والليمون الحلو، والليمون الحامض، والخشخاش، والبرتقال الصغير، والبرتقال السكري([6]).

7- وشهد (يوسف فايتس) -وهو من المسؤولين اليهود الأساسيين في مجال السيطرة على الأراضي في فلسطين- بالآتي: «رأينا آثار الحضارة الزراعية الأصلية الجذور التي خلفها النازحون وراءهم، ولقد تملكني الهم من جراء ذلك ومن جزاء واقعنا الحالي، فمن أين لنا بطاقات بشرية كافية لمواصلة هذه الحضارة، ولمتابعة تعميقها وتوسيعها؟ ومتى سنقدر على حشر آلاف اليهود إلى هنا لكي يبقى الجليل على ازدهاره وإيناعه»([7]).

وعن القرى العربية، واستغلال الأرض من قبل المزارعين العرب؛ فيقول (يوسف فايتس) في «يومياته» عن زيارة استهدفت فحص قابلية استيطان اليهود في القرى العربية، التي اضطر أهلها للجلاء عنها عام (1948م): «كانت معظم هذه القرى كبيرة، ومشيدة من البيوت الحجرية الجميلة، ومحاطة ببساتين الزيتون والحقول الممتدة الواسعة، وهي تضطجع بين انبساطة السهل وسفح الجبل، أما ما يتربع منها فوق السطح فهي أصغر مساحة، وأقل بيوتاً؛ وذلك لافتقارها للأراضي الصالحة للزراعة، ولانتشار الأرض الصخرية فيها»([8]).

وشهادة أخرى للزعيم الصهيوني (أشير غنزبرغ) -وهو من أوائل المهاجرين اليهود إلى فلسطين العربية، وصاحب التيار الثقافي في الصهيونية-، كتب في عام (1891م) تحت اسم مستعار هو: «آحاد ها عام» -أي: واحد من العامة- قائلاً: «اعتدنا أن نقول في الخارج بأن أرض فلسطين شبه صحراوية لا زرع فيها ولا ضرع، وعلى من يشاء الحصول على أرض فليأت إليها، ويأخذ ما يشاء من الأرض، غير أن الواقع مخالف لذلك تماماً، فمن الصعب أن تجد في طول البلاد وعرضها أرضاً بلا زرع، والمناطق الوحيدة غير المزروعة فيها هي مساحات من الرمال وجبال صخرية من الممكن زراعتها بأشجار الفاكهة بعد إصلاحها»([9]).

فزعم الصهاينة بأن فلسطين العربية أرض صحراوية قاحلة زعم قصد منه كسر حاجز الخوف لدى اليهود، وإيهامهم بأن فلسطين خالية من السكان لتشجيعهم على الهجرة إليها.

8- كانت فلسطين الدولة الأولى في العالم المصدرة للبرتقال، فحسب ما جاء في تقرير لجنة «بيل» الملكية البريطانية الذي قدمه وزير المستعمرات البريطاني لحكومته عام (1937م)، ودحض أكذوبة الصحراء الخالية روجيه غارودي([10]) بنقله التالي: «حتى لا نضرب إلا مثلاً واحداً هو: زراعة الحمضيات، نقول: إن تقرير (Peel) الذي قدم إلى البرلمان البريطاني من قبل سكرتير الدولة لشئون المستعمرات، في شهر تموز والذي اكتفى بملاحظة نمو زراعة الحمضيات في فلسطين، كان يقدر أن الثلاثين مليوناً من صناديق برتقال الشتاء الذي سيتعاظم استهلاكه العالمي في السنوات العشر القادمة، يوضع في المرتبة الأولى من البلاد المصدرة له في العالم، كما يلي: فسطين (15) مليوناً، الولايات المتحدة (7) ملايين، إسبانيا (5) ملايين، دول أخرى -مثل: قبرص ومصر والجزائر..- ثلاثة ملايين»([11]).

عندما كان الباحث اليهودي (إسرائيل شاحاك) يقوم بدراسة في عام (1973م) اكتشف أنه لم يبق من أصل (475) قرية فلسطينية وقعت ضمن الحدود الإسرائيلية التي أعلنتها إسرائيل في عام (1949م) إلا تسعون قرية فقط، أما القرى الباقية وعددها (385) فكانت قد دمرت([12]).

وقال (شاحاك) في تقرير له: «أن القرى دمرت بما فيها منازلها وأسوار الحدائق وحتى المدافن وشواهد القبور، بحيث لم يبق-بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة- حجر واحد قائماً، ويقال للزوار الذين يمرون بتلك القرى أن المنطقة كلها كانت صحراء»([13]).

لا شك أنها شهادة تغنينا عن طول بيان؛ لأنها تلخص الأكذوبة، وتختصر الرد، فالمادة البشرية الفلسطينية ليست بدائية أو متخلفة كما يروج الصهاينة، وإنما هي متقدمة وقادرة على اكتساب المهارات اللازمة للاستمرار في العصر الحديث وتحت ظروف القمع والقهر.

الخلاصة: نعم؛ لقد اغتصب اليهود فلسطين وهي جنة خضراء بسهولها وجبالها ووديانها وحقولها وبساتينها وحتى صحراءها، وقد اقتبس اليهود من الفلاحين الفلسطينيين أساليبهم الزراعية وتقنياتهم في الري؛ التي لا يعرف اليهود عنها شيئاً؛ لأنهم كانوا محرومين من مزاولتها في أوروبا!

فمن الذي عمر فلسطين وحولها إلى جنة خضراء، العرب أم اليهود؟ إن من عمر فلسطين وحولها إلى جنة خضراء هم أصحابها الأصليون، أحفاد العرب الكنعانيين الأوائل، وليس اليهود كما يزعم الصهاينة!

ونقول: إن هذه الأرض قطعة من العالم الإسلامي، بل هي فلذة كبده، وستبقى حية في نفوس أبناء هذا الدين؛ سواء كانت صحراء كما يزعمون، أو أصبحت جنان كما يدعون، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا يزعزع اعتقادنا بذلك إنكار الأعداء، وافتراءات المعتدين، سراق التاريخ والأرض والمقدسات.

والحقيقة أن فلسطين لم تكن أرضاً صحراوية قاحلة في يوم من الأيام، فلا هي خالية من السكان -كما زعموا-، ولا هي صحراء قاحلة، ولا أهلها متخلفون، ولله الحمد والمنة.



([1])        حاييم وايزمن، «شهادة أمام لجنة التحقيق الملكية» منشورات الوكالة اليهودية/3، القدس- مطبعة عزرائيل، (شباط/ فبراير 1937)، (ص35). وانظر: «الاستشراق»، إبراهيم عبد الكريم، (ص63).

([2])        مجلة «نيوزويك» الأمريكية، في (17 فبراير 1969م).

([3])        في احتفالات الذكرى الخمسين لإقامة وإعلان الكيان اليهودي، جاء في مشاركة الرئيس السابق للولايات المتحدة «بل كلينتون»، مادحه الكيان اليهودي بأنهم حولوا «الصحراء» إلى «جنان»!

([4])        شيخ الربوة الدمشقي، «نخبة الدهر في عجائب البر والبحر» (ص200).

([5])        خيري أبو الجبين: هو أول مدير لمكتب منظمة التحرير الفلسطينية في دولة الكويت عند تأسيسها عام (1964م)، ومؤسس مدارس المنظمة فيها، وتولى رئاسة صندوق يافا الخيري بالكويت، وساهم بنشر الفولكلور الفلسطيني لتلك المدينة، وأصدر الكتب التالية: «مذكرات خيري أبو الجبين»، و«قصة حياتي في فلسطين والكويت»، و«حكايات عن يافا»، و«عائلة أبو الجبين أصولها وفروعها»، وشارك كعضو في إصدار الموسوعة الفلسطينية عام (1984م).

([6])        انظر للاستزادة: «حكايات عن يافا»، خيري أبو الجبين، (ط 1، 2005)، دار الشروق للنشر والتوزيع- عمان، الأردن، (ص85-87)، وكانت زيارته لتلك البيارات في (27/ 10/1939م).

([7])        (من يوميات يوسف فايتس) -رئيس دائرة أراضي إسرائيل-، بتاريخ (18/12/ 1948). المصدر: «الصهيونية.. الحقيقة بكاملها» البروفسور إسرائيل شاحاك، (1975م»، الفصل الخامس، (ص19)، وكذلك كتاب «الاستيطان التطبيق العملي للصهيونية» عبد الرحمن أبو عرفة، (ص15).

([8])        «الاستيطان التطبيق العملي للصهيونية»، عبد الرحمن أبو عرفة، (ص15).

([9])        «آحاد الأعمال الكاملة باللغة العبرية»، تل أبيب، نشر دار ديفير، الطبعة الثامنة، (ص23). وانظر: «الخداع على صفحات مقدسة» (ص168).

([10])      ولد في (17 يوليو 1913م) في مرسيليا- فرنسا، وهو فيلسوف وكاتب فرنسي، وفي الثاني من (يوليو عام 1982) أشهر جارودي إسلامه، وله العديد من المؤلفات في الدفاع عن الإسلام وقضايا المسلمين وفي مقدمتها: قضية فلسطين، وفضح الصهيونية والكيان الغاصب في فلسطين.

([11])      روجيه غارودي، المصدر: (تقرير بيل Peel)، الفصل الثامن، الفقرة (19)، (ص214).

([12])      «الخداع»، بول فندلي، (ص31).

([13])      المصدر السابق، (ص31).

.