دراسات وتوثيقات / دراسات وبحوث

لا تظهر الشماتة بأخيك

صلاح بن علي الزياني

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

ما أن أعلن عن وفاة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس السيد إسماعيل هنية ـ رحمه الله ـ حتى خرجت علينا بعض الأصوات، تشمت في موته، وأخذت تبحث وتفتش في "الدفاتر القديمة" عن أخطاءه وزلاته.

وهذا داء عضال مرد بصاحبه، وهذا يذكرني بأثر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قيل لها: " إِنَّ نَاسًا يَتَنَاوَلُونَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَتَنَاوَلُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ؟! قَالَتْ: مَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا؟ انْقَطَعَ عَنْهُمُ الْعَمَلُ، ‌فَلَمْ ‌يُحِبَّ ‌اللَّهُ أَنْ يَقْطَعَ عَنْهُمُ الأَجْرَ".

رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (13/ 151)، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 387)، ورواه الآجري في "الشريعة" (1999) عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَحِمَهَا اللَّهُ: إِنِّي أَسْمَعُ نَاسًا ‌يَتَنَاوَلُونَ ‌أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ ، إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُجْرِي لَهُمْ أُجُورَهُمْ ، فَلَمَّا قَبَضَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَحَبَّ أَنْ يُجْرِيَ ذَلِكَ الْأَجْرَ لَهُمْ.

ويثلبون ويغلون في عرضه وهو ميت، وقد جاد بنفسه، وببعض ولده، وأصبح بيته ركاما بفعل طائرات اليهود، كل ذلك ـ والله حسيبه ـ دفاعا عن دينه، وعرضه، والمسجد الأقصى.

بالأمس وهو حي أخرجوا عنه إشاعة أنه َّهرب بأولاده خارج غزة، وترك الناس يموتون، وأولاده ينعمون في أرقى الفنادق، ويملكون أرقى السيارات الفارهة.

وهذا أيضا يذكرني أيضا بما ذكره ابن كثير في "البداية والنهاية" (13/ 121) قال: "َقَالَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ: ذَكَرْتُ رَجُلًا بِسُوءٍ ‌عِنْدَ ‌إِيَاسِ ‌بْنِ ‌مُعَاوِيَةَ فَنَظَرَ فِي وَجْهِي وَقَالَ: أَغَزَوْتَ الرُّومَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَالسِّنْدَ وَالْهِنْدَ وَالتُّرْكَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: أَفَسَلِمَ مِنْكَ الرُّومُ وَالسِّنْدُ وَالْهِنْدُ وَالتُّرْكُ وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْكَ أَخُوكَ الْمُسْلِمُ؟! قَالَ: فَلَمْ أَعُدْ بَعْدَهَا".

ورواه يعقوب بن سفيان في "المعرفة" (2/ 95)، ومن طريقه البيهقي في "الشعب" (6351)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (10/ 18) بنحوه.

فليحذر المسلم كل الحذر أن يقول في أخيه المسلم ما ليس فيه، ففي الحديث: " ... وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ ‌مَا ‌لَيْسَ ‌فِيهِ، حُبِسَ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْمَخْرَجِ مِمَّا قَالَ". رواه أحمد (5385)، وأبو داود (3597)، والحاكم (2222) وغيرهم وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، والألباني في "الصحيحة" (‌‌437).

ورَدْغَةِ الْخَبَالِ: كما جاء في الحديث من طريق آخر: عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ.

قال الحافظ ابن رجب في "الفرق بين النصيحة والتعيير": "وعقوبةُ ‌مَنْ ‌أشاع السوء عَلَى أخيه المؤمن، وتتَّبع عيوبه، وكَشَفَ عوراته، أن يتَّبع اللهُ عورته ويفْضَحَهُ ولو في جوف بيته، كما رُوي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وَجْه، وقد أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من وجوه متعددة". "مجموع رسائل ابن رجب" (2/ 413).

وأحذر أن يكون حجيجك الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم القيامة، يقول عليه الصلاة والسلام: "أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا ‌حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". رواه أبو داود (3052) وصححه الألباني.

ومعنى " فَأَنَا ‌حَجِيجُه": أَيْ مُحَاجِجُه ومُغالِبُه بإظْهار الحُجَّة عَلَيْهِ. "النهاية".

فإذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ  حجيج من يظلم المعاهد فمن باب  أولى من يظلم مسلما يجاهد أعداء الله إخوان القردة والخنازير اليهود.‌‌‌‌

فكيف يليق بمسلم أن يشمت بمجاهد ميت ؟!!

عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‌"لَا ‌تُظْهِرِ ‌الشَّمَاتَةَ لأَخِيكَ فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيكَ". رواه الترمذي (2506) وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. (*)

فَقُلْ لِلشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا … سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِيَنَا.

 (7/ 291"الجامع لأحكام القرآن" ).

وقال ذو النون المصري: "وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ الرَّحْمَةِ لِلْخَلْقِ: انْزِوَاءُ الْعَقْلِ لِلْمَلْهُوفِينَ، وَبُكَاءُ الْقَلْبِ لِلْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ، وَفِقْدَانُ ‌الشَّمَاتَةِ بِمَصَائِبِ الْمُسْلِمِينَ". رواه أبو نعيم في "الحلية" (9/ 261)، والبيهقي في "الشعب" (10696).

والشماتة بالأموات من أخلاق الذين لا يؤمنون، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ‌أَفَإِنْ ‌مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ؟} [الأنبياء: 34].

قال الزمخشري: كانوا يقدّرون أنه سيموت فيشمتون بموته، فنفى الله تعالى عنه ‌الشماتة بهذا، أى: قضى الله أن لا يخلد في الدنيا بشرا، فلا أنت ولا هم إلا عرضة للموت. فإذا كان الأمر كذلك فإن مت أنت أيبقى هؤلاء؟ "الكشاف" (3/ 115 ـ 116).

وقال: "‌ألشماتة ‌لؤم". "المستقصى" (1414).

نعم بدت منه زلة، في تمجيده قاسم سليماني وقوله أنه: شهيد القدس، ولعله قد تاب منها، فكان ماذا؟!!!

والرجل له حسنات كثيرة مغمورة في جنب هذه الهنة وغيرها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " إذْ قلَّ عظيمٌ في الأمة إلا وله ‌زلَّةٌ، وقد جاء في الحديث التحذيرُ من ‌زلَّةِ العلماء". "الجواب الاعتراضات" ( ص 162).

وقال الذهبي في ترجمة: زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْهَاشِمِيُّ الْعَلَوِيُّ الْمَدَنِيّ

وَكَانَ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ الصُّلَحَاءِ بَدَتْ مِنْهُ ‌هَفْوَةٌ فَاسْتُشْهِدَ فَكَانَتْ سَبَبًا لِرَفْعِ دَرَجَتِهِ في آخره. "تاريخ الإسلام" (3/ 415).

وقال ابن القيم في الهروي عندما أحطأ: "ولا توجِب هذه الزَّلَّةُ من شيخ الإسلام ‌إهدارَ ‌محاسنه وإساءةَ الظَّنِّ به، فمحلُّه من العلم والإمامة والمعرفة والتفقُّه في طريق السُّلوكِ: المحلُّ الذي لا يُجهَل. وكلُّ أحدٍ فمأخوذٌ من قوله ومتروكٌ إلّا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، صلواتُ الله وسلامه عليه. والكاملُ مَن عُدَّ خطؤه". "مدارج السالكين" (1/ 309).

وقال الحافظ ابن كثير في ترجمة "قتيبة بن مسلم":

"وَقَدْ كَانَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُصَيْنِ بْنِ رَبِيعَةَ أَبُو حَفْصٍ الْبَاهِلِيُّ، مِنْ سَادَاتِ الْأُمَرَاءِ وَخِيَارِهِمْ، وَكَانَ مِنَ الْقَادَةِ النُّجَبَاءِ الْكُبَرَاءِ، وَالشُّجْعَانِ وَذَوِي الْحُرُوبِ وَالْفُتُوحَاتِ السَّعِيدَةِ، وَالْآرَاءِ الْحَمِيدَةِ، وَقَدْ هَدَى اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ خَلْقًا لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ، فَأَسْلَمُوا وَدَانُوا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفَتَحَ مِنَ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ الْكِبَارِ وَالْمُدُنِ الْعِظَامِ شَيْئًا كَثِيرًا، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا مُبَيَّنًا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُضِيعُ سَعْيَهُ، وَلَا يُخَيِّبُ تَعَبَهُ وَجِهَادَهُ.

وَلَكِنْ زَلَّ زَلَّةً كَانَ فِيهَا حَتْفُهُ، وَفَعَلَ فَعْلَةً رَغِمَ فِيهَا أَنْفُهُ، وَخَلَعَ الطَّاعَةَ فَبَادَرَتْ إِلَيْهِ الْمَنِيَّةُ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، فَمَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، لَكِنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا قَدْ يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ مِنْ سَيِّئَاتِهِ، وَيَمْحُو بِهَا عَنْهُ مِنْ خَطِيَّاتِهِ، وَاللَّهُ يُسَامِحُهُ وَيَعْفُو عَنْهُ، وَيَتَقَبَّلُ مِنْهُ مَا كَانَ يُكَابِدُهُ مِنْ مُنَاجَزَةِ الْأَعْدَاءِ". "البداية والنهاية" (12/ 616).

قال الذهبي في ترجمة: إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الإمام الحجة:

"قلت: إمامة إسماعيل وثيقة لا نزاع فيها، وقد بدت منه هفوة وتاب، ‌فكان ‌ماذا! إني أخاف الله، لا يكون ذكرنا له من الغيبة. "الميزان" (1/ 330).

وقال في "ميزان الاعتدال" (3/ 141): "ما كل أحد فيه بدعة أو له هفوة أو ذنوب يقدح فيه بما يوهن حديثه، ولا من شرط الثقة أن يكون معصوما من الخطايا والخطأ، ولكن فائدة ذكرنا كثيرا من الثقات الذين فيهم أدنى بدعة أولهم أوهام يسيرة في سعة علمهم أن يعرف أن غيرهم أرجح منهم وأوثق إذا عارضهم أو خالفهم، فزن الأشياء بالعدل والورع".

وقَالَ أَبُو مُوْسَى المَدِيْنِيُّ: " قَلَّ إِمَامٌ إِلَاّ وَلَهُ ‌زَلَّةٌ، فَإِذَا تُرِكَ لأَجْلِ زَلَّتِه، تُرِكَ كَثِيْرٌ مِنَ الأَئِمَّةِ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفعَلَ". "السير" (20/88).

لكن أهل السنة والجماعة، أهل عدل وإنصاف حتى مع أهل البدع ومن يناوئونهم ويقاتلونهم، مثل الخوارج. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الخوارج" وَمَعَ هَذَا فَأَهْلُ السُّنَّةِ يَسْتَعْمِلُونَ مَعَهُمُ الْعَدْلَ ‌وَالْإِنْصَافَ وَلَا يَظْلِمُونَهُمْ ; فَإِنَّ الظُّلْمَ حَرَامٌ". "المنهاج" (5/ 157). 

وما أجمل ما قاله الحافظ ابن القيم ـ رحمه الله ـ :

"أنَّ من كَثُرَت حسناتُه وعَظُمَت، وكان له في الإسلام تأثيرٌ ظاهر، فإنه يُحْتَمَلُ له ما لا يُحْتَمَلُ لغيره، ويُعفى عنه ما لا يُعفى عن غيره؛ فإنَّ المعصية خَبَث، والماءُ إذا بلغ قلَّتين ‌لم ‌يحمل ‌الخَبَث، بخلاف الماء القليل فإنه يَحْمِلُ أدنى خَبَثٍ يقعُ فيه ومن هذا قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لعمر: «وما يدريك لعلَّ الله اطلعَ على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم".

وهذا هو المانعُ له - صلى الله عليه وسلم - من قتل من جَسَّ عليه وعلى المسلمين وارتكبَ مثل ذلك الذَّنب العظيم، فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه شهدَ بدرًا؛ فدلَّ على أنَّ مقتضي عقوبته قائمٌ لكنْ منع من ترتُّب أثره عليه ما له من المشهد العظيم، فوقعت تلك السَّقْطةُ العظيمةُ مغتفرةً في جنب ما له من الحسنات.

ولمَّا حضَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة، فأخرج عثمانُ رضي الله عنه تلك الصدقة العظيمة، قال: «ما ضرَّ عثمانَ ما عَمِل بعدها".

وقال لطلحة لمَّا تطأطأ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حتى صعدَ على ظهره إلى الصخرة: «أَوْجَبَ طلحة وهذا موسى كليمُ الرحمن عز وجل: ألقى الألواحَ التي فيها كلامُ الله الذي كتبه له، ألقاها على الأرض حتى تكسَّرت، ولَطَمَ عينَ ملَك الموت ففَقأها، وعاتبَ ربَّه ليلة الإسراء في النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقال: «شابٌّ بُعِثَ بعدي يدخلُ الجنةَ من أمَّته أكثرُ ممن يدخلُها من أمَّتي»، وأخذَ بلحية هارون وجَرَّه إليه وهو نبيُّ الله، وكلُّ هذا لم يُنْقِص من قَدْرِه شيئًا عند ربِّه، وربُّه تعالى يُكْرِمُه ويحبُّه؛ فإنَّ الأمرَ الذي قام به موسى، والعدوَّ الذي بَرَز له، والصبرَ الذي صَبَره، والأذى الذي أُوذِيَه في الله أمرٌ لا تؤثِّرُ فيه أمثالُ هذه الأمور، ولا يُغَبَّرُ به في وجهه، ولا يخفضُ منزلتَه.

وهذا أمرٌ معلومٌ عند الناس مستقرٌّ في فِطَرهم: أنَّ من له ألوفٌ من الحسنات فإنه يُسامَحُ بالسيئة والسيئتين ونحوها، حتى إنه ليَخْتَلِجُ داعي عقوبته على إساءته، وداعي شكره على إحسانه، فيغلبُ داعي الشكر لداعي العقوبة، كما قيل:

وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ … جاءت محاسنُه بألفِ شفيع

وقال آخر:

فإنْ يكنِ الفعلُ الذي ساءَ واحدًا … فأفعالُه اللَّائي سَرَرْنَ كثيرُ

والله سبحانه يوازنُ يوم القيامة بين حسنات العبد وسيئاته فأيهما غَلَبَ كان التأثيرُ له، فيَفعَلُ مع أهل الحسنات الكثيرة الذين آثروا محابَّه ومَراضِيه وغلَبَتْهم دواعي طبعهم أحيانًا من العفو والمسامحة ما لا يفعلُه مع غيرهم". "مفتاح دار السعادة" (1/ 504 ـ 507).

وإني لأعجب من بعض الناس ظاهرهم التدين، يطلقون لألسنتهم العنان في الوقيعة في إخوانهم المسلمين الذي يقاتلون اليهود، فبدلا أن يكونوا أعونا لهم، رضوا أن يكونوا في خندق الأعداء الذين قال الله فيهم: {لَتَجِدَنَّ ‌أَشَدَّ ‌النَّاسِ ‌عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82].

وقد علموا ما حل بأهل غزة من بلاء وقتل في أبشع صوره، وإبادة جماعية للأطفال والنساء والشيوخ والمرضى " ‌فَكَيْفَ ‌بِنَا ‌وَعِنْدَنَا ‌عَهْدُ ‌اللَّهِ أَلَّا نُسَلِّمَ إخْوَانَنَا إلَى الْأَعْدَاءِ، وَنَنْعَمُ وَهُمْ فِي الشَّقَاءِ، أَوْ نَمْلِكُ بِالْحُرِّيَّةِ وَهُمْ أَرِقَّاءُ.

يَالَلَّهِ، وَلِهَذَا الْخَطْبِ الْجَسِيمِ، نَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ لِلْجُمْهُورِ، وَالْمِنَّةَ بِصَلَاحِ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ". "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 955 ـ 956).

ويقول ابن القيم: " ومن العجب أنّ الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرّم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجلَ يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلّم بالكلمات من سخط الله، لا يُلقي لها بالًا، يزِلّ بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب! وكم ترى من رجل متورعِّ عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول!.

وإذا أردت أن تعرف ذلك، فانظر إلى ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان. فقال الله عز وجل: مَن ذا الذي يتألّى عليّ أنّي لا أغفر لفلان؟ قد غفرتُ له، وأحبطتُ عملَك".

فهذا العابد الذي قد عَبَدَ اللهَ ما شاء أن يعبده، أحبطت هذه الكلمةُ الواحدة عملَه كلّه!.

وفي حديث أبي هريرة نحو ذلك، ثم قال أبو هريرة: "تكلم بكلمةٍ أوبقَتْ دنياه وآخرته".

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالًا، يرفعه الله بها درجات. وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالًا، يهوي بها في جهنم".

وعند مسلم: "إنّ العبد لَيتكلّم بالكلمة، ما يتبيّن ما فيها، يهوي بها في النار أبعدَ ما بين المشرق والمغرب".

وعند الترمذي من حديث بلال بن الحارث المزني عن النبي - صلى الله عليه وسلم ـ "إنّ أحدكم ليَتكلّم بالكلمة من رضوان الله، ما يظنّ أن تبلغ ما بلغتْ، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه. وإنّ أحدكم لَيتكلّم بالكلمة من سخط الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه".

فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديثُ بلال بن الحارث!

وفي جامع الترمذي أيضًا من حديث أنس قال: توفي رجل من الصحابة، فقال رجل: أبشِرْ بالجنة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوَ لا تدري فلعلّه تكلم فيما لا يعنيه، أو بخل بما لا ينقصه". قال: حديث حسن.

وفي لفظ: أنّ غلامًا استشهد يوم أحد، فوُجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع، فمسحت أمّه التراب عن وجهه، وقالت: هنيئًا لك يا بنيّ، لك الجنّة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وما يدريك، لعلّه كان يتكلّم فيما لا يعنيه، ويمنع ما لا يضرّه".

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة يرفعه: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فَلْيقل خيرًا أو لِيَصْمُتْ".

وفي لفظ لمسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فإذا شهد أمرًا فليتكلّمْ بخير أو لِيسكتْ وذكر الترمذي بإسناد صحيح عنه - صلى الله عليه وسلم  ـ : "من حسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه".

وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلتُ: يا رسول الله، قل لي في الإِسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك. قال: "قل: آمنتُ بالله، ثمّ استقِمْ". قلت: يا رسول الله ما أخوَفُ ما تخاف عليّ؟ فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: "هذا". والحديث صحيح.

وعن أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمرٌ بمعروف، أو نهيٌ عن المنكر، أو ذكرُ الله" قال الترمذي: حديث حسن.

وفي حديث آخر: إذا أصبح العبد فإنّ الأعضاء كلها تكفِّر اللسانَ، تقول: اتّقِ الله فينا، وإنّما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججتَ اعوججنا". "الداء والدواء" (ص 366 ـ 372).

و"ليَكُنْ ‌حَظُّ ‌الْمُؤمِنِ ‌مِنْكَ ثَلَاثةٌ: إِنْ لَمْ تَنْفَعْهُ فَلَا تَضُرَّهُ، وَإِنْ لَمْ تُفْرِحْهُ فَلَا تَغُمَّهُ، وَإِنْ لَمْ تَمْدَحْهُ فَلَا تَذُمَّهُ". رواه الخطيب في "الزهد" (91) عن يحيى بن معاذ الرازي.

وينبغي للمسلم أن يكون قلبه سليما لإخوانه المسلمين، لا يحمل فيه ضغينة وحسدا لأحد، وأن يحب لهم من الخير كما يحب هو لنفسه.

ومن دعائه ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " ... وأسألك ‌قلباً ‌سليماً، ولساناً صادقاً ...". رواه الطبراني في "الكبير" (7135) وقال الألباني: وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات. "الصحيحة" (‌‌3228).

اللهم اغفر لعبدك إسماعيل هنية، اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقي الثوب الابيض من الدنس، ‌وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر، ومن عذاب النار، اللهم عبدك وابن أمتك احتاج إلى رحمتك، وأنت غني عن عذابه، إن كان محسنا فزد في حسناته، إن كان مسيئا فتجاوز عنه.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأحد 28/ 1/ 1446 هـ الموافق 4/ 8/ 2024 م

ـــــــــــــــــــــــ

(*) هذا الحديث صحيح خلافا لمن ضعَّفه، وسأُبين ذلك في بحث مستقل إن شاء الله.

.