فلسطين التاريخ / تاريخ
فلسطين ورسالة السماء
فلسطين ورسالة السماء
أيمن الشعبان
@aiman_alshaban
لحكمةٍ ربانيةٍ يَصطفي ربنا سُبحانه وتعالى من عبادهِ ما يَشاء، كاصطفاءهِ محمدًا عليه الصلاة والسلام خَير البَّشر من الأنبياءِ، ثمَّ إبراهيم عليه السلام وأُولي العزم من الرُّسل، ثمَّ الصحابة الكرام بعد الأنبياء، وأفضلهم أبا بكر رضي الله عنهم جميعًا، ويَختار بعض الأزمنةِ والأمكنةِ ويُفضلها على غيرها؛ كمكة والمدينة وبلاد الشَّام عمومًا وبيت المقدس خصوصًا، وليلة القدر ويوم النَّحر والعشر من ذي الحجة وأواخر رمضان.
كلما ازداد الزَّمان أو المكان أو الأشخاص تعلقًا وارتباطًا بالتنزيلِ والوحي والشريعة؛ عَلَت المكانة، وارتفعت المنزلة، وعَظُمَت الفضيلة، كليلة القدر ارتبطت بخير الكلام" القرآن"، وخير الأنبياء" محُمدٍ عليه الصلاة والسلام"، وخير الملائكة "جبريل"، وخير الشهور" رمضان" فتأمل.
بيت المقدس خصوصًا وبلاد الشام عمومًا، ارتبطت برسالة السماء ارتباطًا وثيقًا، في بدايةِ الزمان ووسطهِ وآخرهِ، حتى عُرفت بمهدِ الرسالاتِ ومهبط الوَّحي ومعدن الأنبياء ومهاجرهم، والحدث المتجدد الحاضر في أذهان ونفوس وقلوب وعقول جميع المسلمين.
كيف لا تكون هذه الصلة العميقة برسالة السماء، وفيها أول قبلة للمسلمين، وثاني مسجد وضع في الأرض، وثالث المساجد التي تُشدُّ إليها الرحال، وفي المسجد الأقصى مسرى النبي عليه الصلاة والسلام ومعراجه إلى السموات العلى، فيه تضاعف أجور الصلوات، وفيه صلى نبينا عليه الصلاة والسلام إمامًا بجميع الأنبياء، بورك فيه وبمن حوله، وهو محراب الأتقياء، ومنبر الأنبياء، ويُرجى لمن صلى فيه أن يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وقد اختار عليه الصلاة والسلام فيه الفطرة.
لبيت المقدس مكانةٌ عظيمةٌ في حياةِ الأنبياء والمرسلين؛ فهو قبلتهم ومنارة الدعوة إلى توحيد الله عز وجل، فإما ولد فيها نبي أو مَرَّ أو مَات أو دُفِن، أو صلَّى وتقرب إلى الله أو لجأ وهاجر إليها أو عاش.
بيت المقدس مبتغى الفاتحين وفيه رباط المجاهدين، وهو محل الطائفة المنصورة التي تقاتل على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، وقد بَشَّر النبي عليه الصلاة والسلام بفتحها، وفيها يحسم الصراع مع الباطل ويقتل المسيح الدجال، وهي أرض المحشر والمنشر، وفي الشام عقر دار المؤمنين.
يقول مجير الدين الحنبلي رحمه الله عن بيت المقدس: ما فيه موضع شِبرٍ إلا وقد سجد عليه نبي أو قام عليه ملك ...، وأول أرض بارك الله فيها بيت المقدس...، وكلَّم الله موسى في أرض بيت المقدس، وتاب الله على داود وسليمان عليهما السلام في أرض بيت المقدس، ورد الله على سليمان ملكه في بيت المقدس، وبَشَّر اللهُ زكريا بيحيى في بيت المقدس، وسخَّر الله لداود الجبال والطير في بيت المقدس، وكانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يقربون القرابين ببيت المقدس، وتتغلب يأجوج على الأرض كلها غير بيت المقدس ويهلكهم الله في أرض بيت المقدس ).[1]
المسجد الأقصى في بداية الزمان وما بعده:
يبدأ ارتباط تلك الأرض المباركة والبقعة المقدسة والمكان الطيب، برسالةِ السماء في بداية الزمان، إذ بمجرد بناء المسجد الأقصى كثاني مسجد وضع في الأرض بعد المسجد الحرام؛ يصبح لتلك المدينة وما حولها شأن عظيم ومنزلة كبيرة، سيما إذا عرفنا أنها ثاني مدينة عرفت التوحيد بعد مكة شرفها الله.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال:" قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ مسجدٍ وُضِع في الأرضِ أولَ؟ قال: المسجدُ الحرامُ. قال: قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: المسجدُ الأقصى. قلتُ: كم كان بينهما؟ قال: أربعونَ سنةً، ثم أينَما أدرَكَتكَ الصلاةُ بعدُ فصلِّهِ، فإنَّ الفضلَ فيه".[2]
وقد رجح الحافظ ابن حجر رحمه الله أن بناء المسجد الأقصى في عهد آدم، كما بني المسجد الحرام في عهده، فيقول: وكذا قال القرطبي رحمه الله أن الحديث لا يدل على أن إبراهيم وسليمان لما بنيا المسجدين ابتدأ وضعهما لهما بل ذلك تجديد لما كان أسسه غيرهما.[3]
الأرض المقدسة كانت على موعد مع أحداث حافلة ومواقف جسيمة، إذ تشرفت بأن تكون اختيار ومهاجر خليل الرحمن وخير البشر بعد النبي العدنان؛ إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وصاحبه في هجرته من العراق لوط عليه السلام، بعد إذ نجاه الله من النار وعبَّاد الأصنام.
قال تعالى:(وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ)[4]،أي إنه تعالى أتمَّ عليه النِّعمة، فأنجاه وأنجى لوطًا معه إلى الأرض التي باركها، بكثرة ما بعث فيها من الأنبياء الذين انتشرت شرائعهم، في أقاصي المعمور، وكثرة خصبها وأشجارها وثمارها وأنهارها، فهي أس الخيرات الدينية والدنيوية معا.[5]
والهجرة في سبيل الله وبحثًا عن مكان آمن تُؤدى فيه شعائر الله وتتحقق فيه العبودية كما أراد الله؛ لا تكون إلا من مكان مفضول إلى فَاضل شرعًا، ومن بيئة بعيدة عن التوحيد والصلاح إلى بيئةٍ مُوحدة تقية نقيةٍ من شوائب الشرك.
ارتفع رصيد تلك الأرض المقدسة، بعد أن وطأها خليل الرحمن، ثم ازداد هذا التعلق والترابط برسالة السماء، بعد أن وهب سبحانه له إسحق ويعقوب، (زيادةً وفضلاً من غير سؤال، ثم أشار إلى أن منشأ البركة فيهما الصلاح بقوله: (كُلا جَعَلْنا صالِحِينَ) بالاستقامة والتمكين في الهداية ).[6]
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ومعلوم أن إبراهيم إنما نجاه الله ولوطًا إلى أرض الشام من أرض الجزيرة والفرات.[7]
بقي التعلق الكبير والارتباط العميق لتلك الأرض، برسالة السماء عبر أنبياء الله بين مهاجر وساكن ومار ومتعبِّد، بل أبعد من ذلك تمنيهم الموت والدفن فيها، كما أوصى يوسف عليه السلام علماء بني إسرائيل وأخذ عليهم موثقًا، أن لا يخرجوا من مصر حتى ينقلوا جسده، إلى الأرض المباركة، كما في قصة عجوز بني إسرائيل[8]، التي فيها من الفوائد العظام الشيء الكثير من أبرزها حرص الأنبياء على الإقامة أو المثوى بعد الموت، في أفضل بقاع الأرض تحقيقًا للتوحيد.
بعد أن امتن اللهُ سبحانه على موسى وقومه بِأنْ أنجاهم من فرعون وجنوده؛ قصدوا البقعة المباركة بيت المقدس، وعندما اقتربوا من الوصول ذكرهم موسى عليه السلام بنعم الله عليهم الدينية والدنيوية، وحثهم على جهاد الجبابرة الوثنيين، فتخاذلوا وعوقبوا بالتيه أربعين سنة!
ولأنَّ دعوة موسى امتداد لسائر الأنبياء، فتعلقه بالأرض المباركة تعلقًا كبيرًا إلا أنَّ قومه خذلوه، وعندما دنا أجله دعا الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية حجر، فيقول عليه الصلاة والسلام لأصحابه: فلو كنتُ ثَمَّ لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر.[9]
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: وَأَمَّا سُؤَالُهُ الإِدْنَاءَ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَلِشَرَفِهَا وَفَضِيلَةِ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمَدْفُونِينَ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ.
ودلَّ الحديث على فضل الدفن في الأرض المقدسة، وأنه أمنية الأنبياء والمرسلين، وعباد الله الصالحين، حيث سأل موسى ربه أن يدنيه من بيت المقدس رمية بحجر.[10]
ثم حَصلت المعجزة بحبسِ الشَّمسِ ليوشع بن نُون عليه السلام، ليالي سار إلى فتح بيت المقدس، ولم تحصل لغيره إطلاقًا، فحاصرها عند صلاة العصر يوم الجمعة، ولقي العدو عند اقتراب غيابها، فقال للشمس: إنكِّ مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحبست حتى فتح الله عليه.[11]
وهنا التفاتة جميلة لطالبي النصر والتمكين، التي أسبابها كلها معنوية كما في كتاب الله وسنة نبيه الصحيحة؛ إذ طلب يوشع أن لا يشارك معه في فتح بيت المقدس، كل من تعلق قلبه بالدنيا، أو انشغل فكره وعقله بأمر من شؤونها، لذلك يقول النووي رحمه الله في شرحه على مسلم[12]: أن الأمور المهمة ينبغي أن لا تفوض إلا إلى أُولي الحزم وفراغ البال لها ولا تفوض إلى متعلق القلب بغيرها لأن ذلك يضعف عزمه ويفوت كمال بذل وسعه فيه.
ولأهمية تلك الأرض وارتباطها الكبير برسالة السماء؛ ولد فيها عيسى عليه السلام خاتم أنبياء بني إسرائيل، وتكلم في المهد صبيا وأنزلت عليه المائدة ورفع إلى السماء من بيت المقدس، ورزقت مريم بفاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الضيف في بيت المقدس.
المسجد الأقصى ورسالة السماء في وسط الزمان:
لم يعرف التاريخ بقعة ارتبطت زمانيًا برسالةِ السماء كما هي في بيت المقدس، وكان لها شأن عظيم وتعلق كبير في حياة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، إذ بُشِّر بفتحها، كما في حديث عوف بن مالك الأشجعي قال: أتيتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في غزوةِ تبوكَ، وهو في قُبَّةٍ من أُدْمٍ، فقال: "اعددْ ستًا بين يديْ الساعةِ: مَوْتِي، ثم فَتْحُ بيتِ المقدسِ ..."[13].
لم يكتف عليه الصلاة والسلام ببشارة أصحابه بفتح بيت المقدس، بل شارك بنفسه في غزوة تبوك، ثم جَهَّز عليه الصلاة والسلام سرية بقيادة أسامة بن زيد في معركة مؤتة، واستمر هذا البعث بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، حتى فتحت بيت المقدس في زمن الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 15 هـ.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، ما كانَ أوَّلِ بدءُ أمرِكَ؟ قالَ: دعوةُ أبي إبراهيمَ، وبُشرى عيسَى بي ورأت أمِّي أنَّهُ خرج منها نورٌ أضاءت لَهُ قصورُ الشَّامِ.[14]
يقول ابن كثير رحمه الله[15]: وتخصيص الشام بظهور نوره إشارةٌ إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشام، ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلاً للإسلامِ وأهله، وبها ينزل عيسى ابن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها.
في وسط الزمان كانت معجزة الإسراء والمعراج؛ تلك الرحلة الفريدة والقصة العجيبة، والمعجزة المبهرة والحادثة العظيمة ذات الآيات الجليل، التي أكدَّ الله فيها أهمية الأرض المقدسة ومدى تعلقها الحثيث برسالة السماء.
الله سبحانه وتعالى قادر أن يكون المعراج مباشرة من المسجد الحرام إلى السموات العلى ثمَّ العودة إلى مكة، لكن لحكمة بالغة ومعاني عظيمة، كانت هذه الفضيلة للأرض الطيبة التي تشرفت بأن تكون مسرى حبيبنا عليه الصلاة والسلام، ثم معراجه إلى سدرة المنتهى، ورأى من آيات ربه الكبرى، وفرض أعظم ركن بعد التوحيد، واجتمع في هذه الليلة جميع الأنبياء وصلى بهم نبينا عليه الصلاة والسلام إمامًا.
فلسطين ورسالة السماء آخر الزمان:
كما هو معلوم أن لُب ومحور الصراع بين الحق والباطل، بمختلف العصور يكون في بيت المقدس، حتى يُحسم بنزول عيسى عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، ويقتل مسيح الضلال المسيح الدجال في باب لد بفلسطين.
يقول عليه الصلاة والسلام: فيُدْرِكُه- أي عيسى عليه السلام- عند بابِ لُدٍّ الشرقيِّ، فيقتلُه–أي المسيح الدجال-، فيَهْزِمُ اللهُ اليهودَ، فلا يَبْقَى شيءٌ مِمَّا خلق اللهُ عَزَّ وجَلَّ يَتَواقَى به يهوديٌّ...[16]
ويقول عليه الصلاة والسلام: "لا تَزالُ طائفةٌ من أُمَّتي يقاتِلونَ على الحقِّ، ظاهِرِينَ على مَن ناوَأَهُمْ، حتى يقاتِلَ آخِرُهم المسيحَ الدجالَ".[17]
بل ذهب عليه الصلاة والسلام لوصف دقيق وبُعد عميق، لما يحصل آخر الزمان وإعجاز مبهر، عندما أخبر أننا سنقاتل اليهود! مع أنه في زمانه صلى الله عليه وسلم كان الروم هم من يسيطر على بيت المقدس!
يقول عليه الصلاة والسلام:" تُـقـاتِـلـونَ الـيـهودَ، حتى يَـخـتَــبِـئَ أحــدُهــم وَراءَ الحجَرِ، فيقولُ: يا عبدَ اللهِ، هذا يهودِيٌّ وَرائي فاقتُلْه" وفـي رواية:"حـتـى يـقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسـلم هذا يـهـودي ورائي فاقتله ".[18]
وَفِيه: معْجزَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ أخبر بِمَا سيقع عِنْد نزُول عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلام، من تكلم الجماد والإخبار وَالأَمر بقتل الْيَهُود وإظهاره إيَّاهُم فِي مَوَاضِع اختفائهم.[19]
وهنا لفتة عجيبة تؤصل بقوة لحقيقة ارتباط تلك الأرض المباركة برسالة السماء بمختلف الأزمان، وهي أن النصر لن يتحقق إلا بمقدمات وأسباب من أعظمها تحقيق العبودية والاستسلام لرب البرية، التي هي خلاصة رسالة السماء التي يحملها جميع الأنبياء والمرسلين لدعوة كافة البشر.
بلاد الشَّام فضيلة المكان والسكان:
الفضائل إما تكون باعتبار المكان في الغالب الأعم كمكة والمدينة، وإما باعتبار السكان كاليمن، أما بلاد الشام عمومًا وبيت المقدس خصوصًا وردت فيها فضائل تتعلق بالمكان وأخرى بالسكان، وهذه ميزة عظيمة لها دلالات كبيرة، لم تنل هذا الفضل بقعة بساكنيها إلا تلك الأرض المقدسة، وفي هذا إشارةٌ قويةٌ ودلالةٌ قاطعةٌ للارتباط المتين برسالة السماء.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: والنبي صلى الله عليه وسلم ميَّز أهل الشام بالقيام بأمر الله دائمًا إلى آخر الدهر وبأن الطائفة المنصورة فيهم إلى آخر الدهر فهو إخبار عن أمر دائم مستمر فيهم مع الكثرة والقوة وهذا الوصف ليس لغير الشام من أرض الإسلام؛ فإنَّ الحجاز - التي هي أصل الإيمان نقص في آخر الزمان: منها العلم والإيمان والنصر والجهاد وكذلك اليمن والعراق والمشرق. وأما الشام فلم يزل فيها العلم والإيمان ومن يقاتل عليه منصورًا مؤيدًا في كل وقت.[20]
وكم بالشام من شرف وفضل *** ومرتقب لدى برّ وبحر
بلاد بـارك الرحمن فيها *** فقـدّسـها على علم وخبر
وقد جمع النبي عليه الصلاة والسلام لأهل الشام بين فضيلتي المكان والسكان في حديث عبد الله بن حوالة رضي الله عنه، إذ يقول عليه الصلاة والسلام: "سيصير الأمر إلى أن تكونوا جنودًا مجندةً جند بالشام وجند باليمن وجند بالعراق عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده فإن أبيتم فعليكم يمنكم واسقوا من غدركم فإنَّ الله قد توكل لي بالشام وأهله.[21]
وفي رواية:" عليكم بالشام فإنها صفوة بلاد الله يسكنها خيرته من خلقه فمن أبى فليلحق بيمنه وليسق من غدره فإن الله عز وجل تكفل لي بالشام وأهله".[22]
قال ربيعة رحمه الله: فسمعت أبا إدريس يحدث بهذا الحديث، يقول: وَمَنْ تكفَّل اللَّهُ بِهِ فَلا ضيعة عليه.[23]
وكان الخوالي يقول: ومن تكفل الله به فلا ضَيعة عليه.[24]
قال العز ابن عبد السلام رحمه الله: وهذه شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم باختيار الشام، وبفضلها وباصطفائه ساكنيها، واختياره لقاطنيها، وقد رأينا ذلك بالمشاهدة، فإن من رأى صالحي أهل الشام ونسبتهم إلى غيرهم رأى بينهم من التفاوت ما يدل على اصطفائهم واجتبائهم.[25]
قال عليه الصلاة والسلام:" سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بعدَ هِجْرَةٍ، فَخِيارُ أهلِ الأرضِ أَلْزَمُهُمْ مُهاجَرَ إبراهيمَ، ويَبْقَى في الأرضِ شِرَارُ أهلِهِا، تَلْفِظُهُمْ أَرْضُوهُمْ، تَقْذَرُهُمْ نَفْسُ اللهِ، وتَحْشُرُهُمُ النارُ مع القِرَدَةِ والخَنازِيرِ".[26]
قال الشراح: يعني ينتقل من الأراضي التي يستولي عليها الكفرة خيار أهلها، ويبقى خساس تخلفوا عن المهاجرين رغبةً في الدُّنيا، ورهبة عن القتال، وحرصًا على ما كان لهم فيها من ضياع ومواش ونحوهما من متاع الدُّنيا فهم لخسة نفوسهم، وضعف دينهم كالشيء المسترذل المستقذر عند النفوس الزكية، وكأنَّ الأرض تستنكف عنهم فتقذفهم، والله سبحانه يكرههم فيبعدهم من مظان رحمته، ومحل كرامته ; إبعاد من يستقذر الشيء وينفر عنه طبعه، فلذلك منعهم من الخروج. وثبطهم قعودا مع أعداء الدين.[27]
قال عليه الصلاة والسلام:" ألا وإن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام".[28]
قال عليه الصلاة والسلام:" إذا فَسد أهل الشامِ فلا خَير فيكم ، ولا تَزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة"[29]، فهذا مقياسٌ عجيبٌ بارتباط خيرية الأمة بخيرية أهل الشام بمفهوم المخالفة فتأمل.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ثبت للشام وأهله مناقب: بالكتاب والسُنَّة وآثار العلماء. وهي أحد ما اعتمدته في تحضيضي المسلمين على غزو التتار وأمري لهم: بلزوم دمشق ونهيي لهم عن الفرار إلى مصر واستدعائي العسكر المصري إلى الشام وتثبيت الشامي فيه. وقد جرت في ذلك فصول متعددة.[30]
ومن فضائل بيت المقدس المكانية:
- أنها أول قبلة للمسلمين.
- ثاني مسجد وضع في الأرض.
- ثالث المساجد التي تُشدُّ إليها الرحال.
- مهبط الأنبياء ومهاجرهم ومعدنهم وقبورهم فيها، ومهد الرسالات.
- مسرى النبي عليه الصلاة والسلام ومعراجه إلى السموات العلى.
- فيها تُضاف أجر الصلوات، ويُرجى لمن صلَّى فيها أن يَخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
- فيها صَلَّى نبينا عليه الصلاة والسلام إمامًا بجميع الأنبياء.
- بورك فيها وبمن جولها.
- أرض المحشر والمنشر.
- ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها على الشام.
- عمود الكتاب والإسلام بالشام.
- وديعة محمد عليه الصلاة والسلام وأمانة عمر رضي الله عنه في ذمتنا.
- تعلق قلوب المسلمين به لدرجة تمني المسلم أن يكون له موضع صغير يطل عليه أحب إليه من الدُّنيا وما فيها.
- فيه يتحصن المؤمنون من الدَّجال ولا يدخله.
- أرض وقفيةٌ، وأمانةٌ في أعناقِ المسلمين.
ومِن فَضائلِ سَاكنيها أنها:
- مبتغى الفاتحين.
- عقر دار المؤمنين.
- رباط المجاهدين.
- محل الطائفة المنصورة التي تقاتل على الحق.
- أهلها ميزان ومقياس لخيرية الأمة.
- تكفل الله بأهل الشام.
- الإيمان زمن الفتن بالشام.
كل هذه الفضائل والمزايا، التي لم تنجمع لمكان مع أهله، إلا لبلاد الشام؛ تدل دلالة واضحة بأهميتها من الناحية العقدية وارتباطها القوي برسالةِ التَّوحيد الربانية عبر الأزمان، وما يجري الآن من صراع قوى العالم بأسره على أرض الشام لدلالة واضحة على تلك الأهمية، وأن موازين القوى قد تتأثر بحصول تحولاتٍ في بلاد الشام.
كيف لا تكون كذلك وقد دخلها خيرة الناس بعد الأنبياء، من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام، قال الوليد بن مسلم: دخلت الشام عشرة آلاف عين رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله أن يُقرَّ أعيننا باستعادة المسجد الأقصى، ويَرزقنا فيه صلاة قبل الممات، وأن يَحفظ أهلنا في عموم بلادِ الشَّام من كَيد الكائدين ومَكر الماكرين، وأن يُنعم عليهم بالنَّصر والأمنِ والأمانِ عاجلاً غَير آجل.
العدد (17) سلسلة بيت المقدس للدراسات
[1]الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل (1/239).
[2]متفق عليه.
[3]فتح الباري( 6/409)، ط. دار المعرفة.
[4](الأنبياء:71-72).
[5]تفسير المراغي.
[6]تفسير القاسمي.
[7]مجموع (27/506).
[8]انظر السلسلة الصحيحة رقم 313.
[9]متفق عليه.
[10]منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (2/398).
[11]متفق عليه.
[12](12/51).
[13]صحيح البخاري.
[14]صحيح السيرة النبوية ص52.
[15]تفسير ابن كثير(1/444).
[16]صحيح الجامع برقم 7875.
[17]صحيح الجامع برقم 7294.
[18]متفق عليه واللفظ للبخاري.
[19]عمدة القاري شرح صحيح البخاري (14/199).
[20]مجموع فتاوى (4/449).
[21]صحيح الجامع برقم 3659.
[22]صحيح الجامع برقم 4070 عن وائلة.
[23]تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق ص10.
[24]مجموع الفتاوى(27/509).
[25]إتحاف الأنام بفضائل المسجد الأقصى والشام ص55.
[26]السلسلة الصحيحة برقم 3203.
[27]مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (9/4040).
[28]صحيح الترغيب برقم 3092.
[29]صحيح الجامع برقم 702.
[30]مجموع الفتاوى (27/505).