دراسات وتوثيقات / دراسات وبحوث

الأسرى الفلسطينيُّون.. الألم المُعاش والأمل المنشود

 

الأسرى الفلسطينيُّون.. الألم المُعاش والأمل المنشود

 

بقلم/ محمد الناجي

 مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقيَّة

تمرُّ القضيَّة الفلسطينيَّة بمنعطفٍ خطيرٍ، وضياعٍ وتفريطٍ غير مسبوقيْن، في ظلِّ مؤامرةٍ رهيبةٍ، وصمتٍ مُطبِقٍ يُخيِّمُ على أرجاء العواصم الإسلاميَّة والعربيَّةِ؛ يُبرَّرُ له بانشغال الأقطار والأمصار بهمومِها، ونوازِلِها، والحوادثِ العاصفةِ بها!

 

ولا شكَّ أنَّ الأسرى الفلسطينيِّين القابعين في سجون البغي والعدوان الصُّهيوني يُشكِّلون مُكوِّنًا رئيسًا ومُهِمًّا من مُكوِّنات تلك القضيَّة، وتُعدُّ قضيَّتُهم من القضايا التي عالجتْها الشريعة الإسلاميَّة –وكانت سبَّاقُ قضيَّتُهم من القضايا الحسَّاسة التي عالجتْها الشريعة الإسلاميَّة -وكانت مهم ومعاناتهم.يسًا ومُهِمًّا من مُكوِّنات تلك الة في ذلك- فأوجبت السَّعي والعمل من أجل إطلاق سراحهم بكل الوسائل، ومهما بلغت الأثمان. كما تُعدُّ تلك القضيَّة من القضايا الوطنيَّة التي تُمثِّلُ جرحًا غائرًا في نفس كلِّ أبيٍّ حرٍّ شريفٍ يرفض الضَّيْم، ويتشوَّف للحريَّة، وهي في الوقت نفسه تُمثِّل بمجموعِها ثابتًا من ثوابتِ الفلسطينيِّين؛ فموضوع الأسرى لا يقبل المناورة ولا المفاوضة، ولا التنازل أو التَّفريط.

 

الأسرى الفلسطينيَّون المُغيَّبون في سجون الاحتلال الصُّهيوني يعيشون الألم والمعاناة؛ بكل تفاصيلها ومعانيها، ولا يملكون في سبيل انتزاع أدنى حقوقهم من سجَّانهم إلا الإضراب عن الطَّعام كوسيلةٍ وخطوةٍ احتجاجيَّة لإيصال رسالتهم والضَّغط على عدوِّهم، مع يقينهم ويقيننا أنَّهم أُسلِمُوا إلى عدوٍّ غادرٍ جبانٍ، لا يرقب في مؤمنٍ إلًّا ولا ذمَّة.

 

وكم هو مؤلم –حقًّا- وأنت تجد الأسيرَ الفلسطينيَّ؛ المكبَّل بالقيود، الرَّاقد في زنزانةٍ معتمةٍ، يُعلِن إضرابًا عن الطَّعام والشَّراب؛ لنيل أبسط حقوقه مثل: زيارة ذويه له، وتمكينه من الحديث إليهم، ومنْحه الحق في التَّعليم ومطالعة الكتب وغير ذلك من الحقوق التي أقرَّتْها وكفلتْها كل القوانين الدوليَّة.

 

وأمام هذا المشهد تجد السجَّان يتلذَّذ بمعاناة أولئك الأسرى المُضربين عن الطَّعام؛ فيُحضر الأشربة أمامهم، ويتعمَّد إحضار القهوة –تحديدًا-، ويَحضر المستوطنون والجنود ليُنظِّموا حفلات شواء أمام غرف الأسرى وزنازينهم في محاولةٍ للنَّيْل من عزائمهم، وكسر إرادتهم وصمودهم!

 

أمام هذه المعاناة التي كُتِبت فيها الكُتب، وأُلِّفت فيها المؤلَّفات الطِّوال –والمجال لا يتَّسع لسرْد أوجه المعاناة- يخرج علينا من يُنادي بحرمانهم من مستحقاتهم الماليَّة التي تُدفع لهم ولذويهم بحجَّة أنَّ هذا تمويل وتغذية للإرهاب، وأنَّ الاستمرار في تقديم تلك الأموال لهم يُشكِّل عائقًا أمام عمليَّة السلام!

 

وهذا ما بدى واضحًا من خطاب رئيس الوزراء الصهيوني (بنيامين نتنياهو) الذي دعا في تصريحاتٍ صحافيَّة للتوقُّف عن تمويل ودعم الإرهاب –في إشارةٍ لصرف مستحقَّات ذوي الشُّهداء والأسرى والجرحى-، وهو الأمر نفسه الذي طلبه رئيس الولايات المتحدة الأمريكيَّة (ترامب) من رئيس السُّلطة الفلسطينيَّة (محمود عباس) في إطار "صفقة القرن" وتحقيق السَّلام وَفق وجهة النَّظر الأمريكيَّة المُتماهية مع الصهيونيَّة –بكلِّ تأكيد-.

 

إنَّ المساس بحقوق الأسرى الماليَّة خطوة على طريق التَّنازل عن قضيَّتهم، وإسلامِهم لعدوِّهم؛ لتمرير مُخطَّطاتٍ أكبر تعصف بقضيَّة فلسطين برُمَّتِها.

 

في المقابل، فإنَّ الأسرى يعيشون بارقة أملٍ وتفاؤلٍ وثقةٍ كبيرةٍ بتحقُّق موعود الله عزّ وجلَّ لهم بالنّصْر والتَّمكين، والفرج القريب.

 

ومن الأشياء التي تُلْهمهم الصَّبر والسلوان امتلاك المجاهدين الفلسطينيِّين أوراقًا رابحةً أثبتت نجاحها في مرَّات سابقة، والمقصود أسر الجنود الصَّهاينة ومبادلتهم بأسرانا البواسل.

وهنا يثور التساؤل ماذا تُخبِّئ المقاومة للأسرى، وما هي فرص النَّجاح، وما هي أبرز المعوِّقات؟

 

للإجابة على هذه التساؤلات ينبغي الرُّجوع إلى الوراء قليلًا والتَّأكيد على بعض الأمور:

 

إنَّ أسر الجنود الصَّهاينة يُمثلُ تحدِّيًا كبيرًا للحكومة الصهيونيَّة، وهو موضوعٌ شديد التأثير على جبهة العدو الداخليَّة. وهذا ما يُفسِّر استعداد المجتمع الصهيوني لدفع أيِّ ثمن مقابل الإفراج عن جنديّ واحد وقع في الأسر (جلعاد شاليط أنموذجًا).

 

يسعى العدوُّ الصهيوني بكل ما أوتي من قوَّة منع عمليَّات الأسر في صفوف جنوده، ويسعى لتدريب جنوده على مقاومة ومواجهة المقاتلين الفلسطينيَّين، وتحذيرهم من مغبَّة الوقوع في الأسر، وما المناورات والتدريبات الدؤوبة التي يُنفِّذها العدو الصهيوني بين الفينة والأخرى، والتي ازدادت وتيرتها في الآونة الأخيرة إلا خير شاهدٍ على هذا.

 

سنَّ العدو الصهيوني قانون "هانيبعل" ومفهومه: جندي مقتول أفضل من جندي أسير! ويُتيح هذا القانون للجيش الصهيوني المَساس بالجندي وإلحاق الأذى به وقتله مع آسريه؛ لئلَّا يقع في قبضة المجاهدين، وبالتالي تبدأ عمليَّة المفاوضات والتَّبادل التي تتجنُّبها الحكومة الصهيونيَّة وتخشاها.

 

أقدمت حكومة الاحتلال على استصدار قانون في الكنيست الصهيوني يقضي بمبادلة أسير فلسطيني واحد فقط مقابل كل أسير صهيوني! وهذا يُمثِّل انقلابًا على العادات والأعراف المتَّبعة في الكيان الصهيوني التي كانت –حتى فترة قريبة- مستعدَّة لدفع أغلى الأثمان مقابل تخليص جنودها من الأسر.

 

ماذا بحوزة المقاومة الفلسطينيَّة؟

لا شكَّ أنَّ الإجابةَ عن هذا السؤال إجابةٌ معقَّدة، تلفُّها كثيرٌ من الاعتبارات والمحاذير الأمنيَّة والإستراتيجيَّة، وهو الذي يجعل المقاومة أن لا تُفصِح عمَّا عندها؛ لأنَّ كلَّ معلومة في هذا المجال بثمن –بل بثمنٍ غالٍ- فعند الإفصاح بمعلومة أنَّ الجندي الصهيوني (جلعاد شاليط) على قيد الحياة كلَّفت العدو الإفراج عن 20 أسيرة فلسطينيَّة. وبناءً عليه فإنَّ المقاومة تفرض تعتيمًا وتكتيمًا حول ما عندها من عدد الجنود أو طبيعتهم أو كونهم أحياءً أو أمواتًا، وما أفصحت عنه المقاومة هو فقط أنَّ الجندي (شاؤول آرون) هو مأسورٌ لديْها، ولم تُدلِ بمزيدِ بيان!

 

لكنَّ العدوَّ بعد انجلاء الحرب، ومراجعة الحسابات اكتشف أنَّ بقبضة المقاومة جنديَّيْن، ومدنِيَّيْن، وهو ما أفصح عنه مرارًا وتكرارًا، وهو ما ألمحت عنه المقاومة بشكل غير واضح وضبابيٍّ.

 

لكن مُجريات الحرب الأخيرة على غزة 2014م، والمعلومات المتوافرة، وبعض العروض المرئيَّة التي بثَّتْها المقاومة الفلسطينيَّة تُثْبت امتلاكها أكبر من هذا العدد المُعلن أحياءً وأمواتًا!

 

أمَّا عن فرص النَّجاح: فهي مُتمثِّلة في الجانب السياسي والإنساني الذي يعصف بالكيان الصهيوني، فالمُتَّتبع للشأن الصهيوني ولقضيَّة الأسرى الصَّهاينة يُدرك مدى الأزمة التي تعيشها حكومة الاحتلال، ومدى الضُّغوط الشعبيَّة والمُجتمعيَّة المُطالبة بطيِّ هذا الملف، والإفراج عن الجنود الصَّهاينة!

 

وهذا ما بدى واضحًا في جلسة الكنيست الأخيرة "العاصفة" التي جمعت أهالي الجنود الصهاينة برئيس الحكومة الصهيونية الذين وجَّهوا له الصَّفعات المتتالية، وأذاقوه من الشَّتائم واللَّعنات ما كان كفيلًا لأن يُخرج (نتنياهو) عن صمته ليذكر بعض الأمور والإجراءات التي تنتهجها حكومته من أجل الإفراج عن الجنود والمدنيِّين اليهود –على حدِّ زعمه- لكنَّ (نتنياهو) يُصرُّ على أنَّ الجنود جُثث وأنَّهم ليسوا على قيد الحياة، الأمر الذي دفع المقاومة لكسْب الفرصة والخروج في اليوم التالي –لهذه الجلسة- بعملٍ فنيٍّ يُلمِّح إلى أنَّ الجنود هم على قيْد الحياة، وأنَّ الحكومة الصهيونيَّة تكذبُ على مواطنيها، وتُمارس التَّضليل والخداع، وتتهرَّب من دفع الثَّمن، وتتنصَّل من مسؤوليَّاتها تجاه جنودها، وانتشر هاشتاق "حكومتكم تكذب عليكم"!

 

وهذا لاقى صدى كبيرًا في أوساط المجتمع الصهيوني الذي وصف الفيديو بأنَّه "فيلم رعب حقيقي"، وهو ما جعل والدة أحد الجنود الأُسارى تُشاهد الفيديو عشرات المرَّات، ولم تغمض لها عينٌ طيلة ليلة نشر الفيديو.

 

كل هذه المُؤشِّرات والمُعطيات تُثبت مدى حساسيَّة هذا الملف لدى الكيان الصهيوني، وتُبشِّر الأسرى بفرج قريب.

 

ولكن ينبغي الوقوف عند جملة من السيناريوهات التي قد تحدث للحيلولة دون تحقيق إنجاز صفقة مشرِّفة للمجاهدين الفلسطينيِّين، ومنها:

 

قيام الحكومة الصهيونيَّة بالهروب إلى الأمام، وتنفيذ حرب رابعة على قطاع غزَّة، في محاولة للانتقام من غزَّة ومقاومتها، والظهور أمام شعبها أنَّها تسعى لاسترداد الجنود الصَّهاينة؛ فتعمل على إسكاتهم ولو لفترة من الزَّمن.

إحكام الحصار على قطاع غزَّة، وتشديد الخناق أكثر ممَّا هو عليه.

تشديد الإجراءات التعسُّفيَّة والقمعيَّة بحق الأسرى الفلسطينيِّين وفرض بعض الإجراءات العقابيَّة؛ كمنْعهم من زيارة ذويهم، وحرْمانهم من أبسط حقوقهم، وهذا قد ظهر بجلاء على لسان بعض وزراء الحكومة الصهيونيَّة، ونوَّاب الكنيست الذين طالبوا باتخاذ مزيد من الإجراءات، بل وصل الحدُّ للمطالبة بقتْلهم كخطوة للنَّيْل من الفصائل المجاهدة، ولثنْيِها عن المواصلة في ملف أسر الجنود.

.