دراسات وتوثيقات / دراسات وبحوث
حكم رواية الإسرائيليات
حكم رواية الإسرائيليات
سترى في ثنايا هذه الموسوعة كمًّا عظيمًا من أحاديث بني إسرائيل، ، والذي أثبتناه هنا إنما وضع للعلم والبيان، وليس للحجة والاعتماد، فبحمد الله شريعتنا فيها الغُنية والكفاية، وشريعة من قبلنا محرفة ومبدلة بلا نهاية.( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) ([1]).
وقد فصل أهل العلم المرويات المنقولة عن بني إسرائيل إلى أقسام ثلاثة:
القسم الأول: ما علمنا صحته مما بأيدينا من القرآن والسنة، والقرآن هو الكتاب المهيمن، والشاهد على الكتب السماوية قبله، فما وافقه فهو حق وصدق، وما خالفه فهو باطل وكذب، قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) ([2])
وهذا القسم صحيح، وفيما عندنا غنية عنه، ولكن يجوز ذكره وروايته للاستشهاد به، ولإقامة الحجة عليهم من كتبهم، وذلك مثل ما ذكر في صاحب موسى عليه السلام وأنه الخضر، فقد ورد في الحديث الصحيح، ومثل ما يتعلق بالبشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم وبرسالته، وأن التوحيد هو دين جميع الأنبياء، مما غفلوا عن تحريفه أو حرفوه، ولكن بقي شعاع منه يدل على الحق.
وفي هذا القسم ورد قوله صلى الله عليه وسلم:« بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ».
قال الحافظ في "الفتح": أي لا ضيق عليكم في الحديث عنهم؛ لأنه كان تقدم منه صلى الله عليه وسلم الزجر عن الأخذ عنهم، والنظر في كتبهم، ثم حصل التوسع في ذلك، وكان النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية، والقواعد الدينية خشية الفتنة، ثم لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك، لما في سماع الأخبار التي كانت في زمنهم من الاعتبار.
القسم الثاني: ما علمنا كذبه مما عندنا مما يخالفه، وذلك مثل ما ذكروه في قصص الأنبياء من أخبار تطعن في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كقصة يوسف، وداود وسليمان، ومثل ما ذكروه في توراتهم من أن الذبيح إسحاق لا إسماعيل، فهذا لا تجوز روايته وذكره إلا مقترنا ببيان كذبه، وأنه مما حرفوه وبدلوه، قال تعالى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) ([3]).
وفي هذا القسم ورد النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة عن روايته، والزجر عن أخذه عنهم، وسؤالهم عنه، قال الإمام مالك رحمه الله في حديث:« حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ »: المراد جواز التحدث عنهم بما كان من أمر حسن، أما ما عُلِم كذبه فلا.
القسم الثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا، ولا من ذاك، فلا نؤمن به، ولا نكذبه، لاحتمال أن يكون حقا فنكذبه، أو باطلا فنصدقه، ويجوز حكايته لما تقدم من الإذن في الرواية عنهم.
قال ابن بطال عن المهلب: هذا النهي في سؤالهم عما لا نص فيه؛ لأن شرعنا مكتفٍ بنفسه، فإذا لم يوجد فيه نص، ففي النظر والاستدلال غنىً عن سؤالهم، ولا يدخل في النهي سؤالهم عن الأخبار المصدقة لشرعنا، والأخبار عن الأمم السالفة([4]).
وأكثر هذه الإسرائيليات نقله لنا كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما، وقد يصح السند إليهم، وهذا لا يعني صحة المقولة ولا الاعتماد عليها.
قال الشيخ محمد أبو شهبة: لا منافاة بين كونها صحيحة السند، أو حسنة السند، أو ثابتة السند، وبين كونها من إسرائيليات بني إسرائيل، وخرافاتهم، وأكاذيبهم، فهي صحيحة السند إلى ابن عباس، أو عبد الله بن عمرو بن العاص، أو إلى مجاهد، أو عكرمة، أو سعيد بن جبير وغيرهم، ولكنها ليست متلقاة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لا بالذات، ولا بالواسطة، ولكنها متلقاة عن أهل الكتاب الذين أسلموا، فثبوتها إلى من رويت عنه شيء، وكونها مكذوبة في نفسها، أو باطلة، أو خرافة، شيء آخر، ومثل ذلك الآراء والمذاهب الفاسدة اليوم، فهي ثابتة عن أصحابها، ومن آرائهم ولا شك، ولكنها في نفسها فكرة باطلة، أو مذهب فاسد([5]).
موسوعة بيت المقدس وبلاد الشام الحديثية
من إصدارات: مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية