فلسطين التاريخ / الواقع والمأمول
الطريق إلى غزتنا وقدسنا
د.عيسى القدومي
ما أشبه الليلة بالبارحة حين تقلب صفحات التاريخ ... فالحالة التي كانت عليها الأمة الإسلامية حين بدأ مشروع الحملات الصليبية لاحتلال القدس ومدن المشرق الإسلامي أشبه بحالنا اليوم .
الكثير من المدن والدويلات لم تصمد أمام الهجمات الصليبية بسبب الحالة المزرية التي وصلت بتلك الدويلات وحكامها والصراعات بينهم على متاع الدنيا وكراسي الرئاسة ؛ بل وتحالفهم مع النصارى ضد إخوانهم ... وإضعاف الخلافة العباسية وانتشار الفرق الباطنية وسيطرتها على الكثير من الدول والمدن ... وسقطت في نهاية المطاف القدس بأيدي الصليبيين واستمر احتلالها لإحدى وتسعون عاما ، وكان لحكام النصارى صولة وجولة في أرض المسلمين !!
لعلنا نسأل كيف كان الخروج من ذلك الظلام ؟! وكيف أحييت الأمة من جديد وعرفت طريق نصرها وعزتها ؟! ومن قاد مسيرة التغيير وكيف قادها ؟! وهل كان طريق النصر سهلاً ؟! وكيف تحول المسلمين من شتات الغوغائية والغثائية إلى أمة عمل وجهاد ؟! وكيف كان المسير للوصول إلى صلاح الدين ؟!!
الدور الأول والأساس في إحياء الأمة من جديد – في تلك الفترة وفي كل فترة – قام به العلماء الصالحين المصلحين الذين عرفوا الناس بطريق النصر والعز ... وهو طريق الرجوع إلى الله تعالى ، وأفهموهم أن للنصر سنن لا بد أن نسير عليها ليتحقق موعود الله بالتمكين {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} ، وكان شعارهم هو ما قاله أبي الدرداء رضي الله عنه: "نحن قوم نقاتل عدونا بأعمالنا" .
وتلك كانت بداية مبشرات ومقدمات إحياء الأمة من جديد ، فقام العلماء مجتمعين بالإنكار على الخليفة العباسي " الراشد بالله " حيث كان ظالما وفاسدا وشارباً للخمر ، ولم يحرك ساكنا مع كل النصح لحفظ بيضة المسلمين ومحارمهم والدفاع عن مقدساتهم وصد نفوذ الفرق الباطنية الني أضعفت الخلافة وشقت الصف وحرفت عقائد المسلمين وتحالفت مع النصارى ولم تدافع عن القدس والمسجد الأقصى ... وكان آخر الدواء الكي!!
حيث أجمعوا على العمل لتغيير الواقع بالإصلاح الشامل - الراعي والرعية - فنشروا حلقات العلم ونشطوا في واجب الدعوة إلى الله تعالى والتمسك بالكتاب والسنة ، مما أعطى العلماء مكانة وكلمة بين الناس ، ونصحوا الخليفة وحذروه ثم نقضوا بيعته وأعلنوا البيعة لعمه ، الذي قام بالإصلاح والتغيير لمصلحة المسلمين .
وعين الخليفة حاكما للموصل وهو المجاهد " عماد الدين الزنكي " ( 539هـ - 1145م ) ومن هنا بدأ العمل الفعلي ... عماد الدين رجل صالح أقام حلقات العلم ، وأعاد تدريس وقراءة باب الجهاد في تلك حلقات ، وبدأ بالعلم والإصلاح وتهيأت الأمة للجهاد ، فالإصلاح والإعداد الإيماني والعقدي يجب أن يسبق الجهاد ، لأن حال الأمة لن يستقيم إلا بالعلاج الشرعي ، وأن يتوحدوا على التوحيد بداية ثم ينتقلوا لما بعد ذلك .
وحين أعلن " عماد الدين " توحيد الأمة حورب من الدويلات ومنع عنه الإمداد والسلاح والمال .... فأمر المجاهدين ان يتجمعوا من كل مكان في الموصل ؛ ومنها بدأ تحركه على الدويلات فقصد حلب وضمها إلى حكمه بعد 46 سنه تحت الحكم الصليبي ، فاستشعر البابا بالخطر ، وتحالف حاكم دمشق المسلم مع حاكم القدس النصراني فقام الفاطميون باغتيال " عماد الدين زنكي " فتولى مقاليد الحكم من بعده ابنه البطل " نور الدين زنكي " وكان تربى في حلقات العلم وسيرة والده الجهادية ، وكان من أعظم الحكام المسلمين في ذلك الزمان .
فبدأ بالإصلاح فنشر الدعاة بين الناس وقضى على الفساد ، وأصلح الاقتصاد، وأصلح نظام القضاء بأن اختيار الصالح لتولي تلك المناصب ... فأصلح في الحكم والاقتصاد والحركة الاجتماعية؛ وبعد ذلك بدأ يعد للجهاد، وعين قادة باسلين منهم " أسد الدين شيركوه بن شادي بن أيوب " ويسمى " شيركوه الأيوبي " وأخوه " نجم الدين أيوبي بن شادي بن أيوبي " وهذا هو والد صلاح الدين الأيوبي .
كان " نور الدين – رحمه الله من مبادئه الرئيسية : ان الأمة حتى تستطيع أن تواجه لابد ان تعدّ، ولا يمكن لأمة ضعيفة مفككة أن تنتصر فلابد من إعدادها إيمانيا وفكرياً وعقائديا واجتماعيا وجهاديا واقتصاديا ... ولابد ان تكون عادلة .
وكان من بركة عمل الأبطال المصلحين عماد الدين وابنه نور الدين الزنكي ومن سبقهم من العلماء وعلى مدى خمسون عاما من العمل والإصلاح والإعداد والجهاد أن تقلد القائد "صلاح الدين الأيوبي" الوزارة في مصر ومن هنا بدأ التغيير ليتحقق النصر الفعلي ، لأن من سنن الله تعالى أن جعل للنصر أسبابا ، وللهزيمة أسبابا كذلك ، فأخلص القائد صلاح الدين النية لله تعالى وأصلح وأعاد مصر إلى العقيدة الصحيحة وجند العلماء والوُعاَّظ لحث الناس على الجهاد في سبيل الله ، ولم يركن إلى الدنيا فكان مجاهدا في وسط المعركة يقودها بنفسه ، ووحد الأقاليم والممالك لإعداد القوة المادية ، وإمداد المعركة بالجنود وتحقيق الوحده الإسلامية .
لم يرى الخروج على الخليفة العباسي وبقى وفياً له وهو في حالة الضعف التي يعانيها، ويكتب إليه بكل كبيره وصغيره ، مع ما كان بيد صلاح الدين من الأقاليم تجعله أهلاً أن يكون خليفة ، ونشر العدل بين المسلمين ، ومن ذلك رفع المكوس عن الحجاج التي كان والي الحجاز يفرضها عليهم ، فأحب المسلمون صلاح الدين لأنهم وجدوا منه صدق النية والعمل ، عاش مجاهداً ومات ولم يترك ثروة ولا عقاراً.
قال عنه صاحبه القاضي " بهاء الدين بن شداد " : " كان - رحمه الله - عنده من القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال " وقال : " وهو كالوالدة الثَّكْلى ، يجول بفرسه من طلب إلى طلب ، ويحث الناس على الجهاد ، ويطوف بين الأطلاب بنفسه وينادي : ياللإسلام ، وعيناه تذرفان بالدموع . وكان حين يتفقد الجند ويرى خيمة فيها جنود لا يقومون الليل يشير إلى الخيمة ويقول :" من هذه الخيمة تأتيكم الهزيمة ؛ "إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" .
ويتحدث ابن شداد عن حبه للجهاد ، فيقول : ولقد كان حبُّه للجهاد والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاءً عظيماً ، بحيث ما كان له حديث إلا فيه ، ولا نظر إلا في آلته ، ولا كان له اهتمام إلا برجاله ، ولا ميل إلا إلى من يذكره ويحثه عليه ، ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسائر بلاده ، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تهب بها الرياح ميمنة وميسرة .
وكان من توفيق الله تعالى على صلاح الدين الأيوبي أن اختار القاضي الفاضل ليكون عوناً له، وقد أحسن الاختيار فكان وزيره وكاتبه ومستشاره، وأحسن استخدام سلاح القلم واللسان، وسلاح العلم والتعليم، وسلاح العمل والإتقان.
ومن أهم خصال القاضي الفاضل – رحمه الله – كان قوي الاعتقاد بأن طريق الإسلام وعز المسلمين هو طريق أهل السنة، وكل طريق غيره لا يوصل إلا إلى الخلاف وضعف المسلمين . فما غابت أرض فلسطين عن باله ، وأيقن بصدق وإخلاص صلاح الدين في الجهاد من أجلها . فقد كان مقرباً من صلاح الدين ووزيره حتى قيل بأنه الرجل الثاني في دولة صلاح الدين، ومستشاره الأمين الذي لازم السلطان صلاح الدين طيلة حياته، وكان له خير معين في الرأي والمشورة والعمل.
وخلاصة القول ... لن يخرج فينا كأمثال صلاح الدين ... ولو بُحت حناجرنا .. ما دمنا على حالنا ... فـ "صلاح الدين " سبقه جهود علماء مخلصين نشروا العلم ، ووجهوا الناس للعمل ، حتى تهيأت الأمة وأعدت عدتها للنصر فمقدمات النصر نصر ...نسأل الله تبارك وتعالى أن ينصر إخواننا المرابطين في غزة وأن يخفف عن ضعفائهم .
.