دراسات وتوثيقات / مخطوطات ومكتبات
المكتبة الخالدية والمحنة الصهيونية العظيمة.
تعتبر المكتبة الخالدية في القدس من أجلّ وأعظم المكتبات في القدس بل في فلسطين جميعاً، ولا يزال الفلسطينيون يجدون فيها كهفاً منيعاً وملاذاً قوياً وطوداً أشماً ومناراً كان يعشوا إلى ضوءه الحيارى.
وحديثي عن الخالدية ليست تأريخياً لها ولا متحدثاً عن نفائسها ونوادرها وإنما أقتصر في حديثي هذا على فترة زمنية أليمة ومحزنة شهدتها هذه المكتبة تخللتها محنة عظيمة خاضت فيها المكتبة صراعاً قوياً كاد يودى بها لولا أن ثبّت الله الحق وأهله فظفرت بنصر عظيم على أرذل ملة في الوجود ألا وهم اليهود الصهاينة عليهم لعائن الله المتتاليات أينما حلوا أو نزلوا أو ارتحلوا.
وقبل حديثي عن هذه المحنة الأليمة أود الإشارة:
أولاً : إلى أوائل من كتبوا عنها وذكروها في مصنفاتهم ثم أثنّي بذكر أهم الأعلام والكتّاب الذين أفردوا هذه الخزانة بحديث خاص سواءاً في مقالات لهم أو خلال تضاعيف مؤلفاتهم.
(1)
يعتبر الأستاذ حبيب أفندي الزيات في مقدمة كتابة (خزائن الكتب في دمشق وضواحيها) وكذلك الأستاذ المؤرخ عيسى اسكندر المعلوف في مقاله الماتع المعنون بـ (القدس وتواريخها العربية) والمنشور في مجلة المقتبس (8/574) من أوائل من ذكر هذه الخزانة باسمها دون الإشارة إلى تاريخها ونشأتها وأهم نوادرها ونفائسها.
وأما عن أول ما تكلم عنها بشئ من التفصيل منوهاً بفضلها ذاكراً لأهم ما تحويه رفوفها ومخادعها من أمهات النوادر والنفائس فهو العلامة الأثري النبيل والبحّاثة الطُلَعة الجليل عبدالله بك مخلص رحمه الله تعالى مؤرخ القدس في زمانه – وذلك عبر مقالاته وبحوثه الفريدة في بابها والنادرة في استيعابها لنفائس وأهم مخطوطات هذه الخزانة ذات المجد الأثيل والتى مازالت – وستزال إن شاء الله – منهلاً معيناً ومكرعاً جليلاً ونبعاً فيضاً وبحراً لاسائل له في المعارف والعلوم والتى نشرها على صفحة مجلة المجمع العلمي العربي – مجمع اللغة العربية في دمشق عام 1924هـ - الأدبية و التراثية، عشرات المقالات المفيدة والبحوث التليدة والتى تنبئ عن اطلاع خطير وعلم غريز تمتع به العلامة عبد الله مخلص والذي صاحبه حتى قضى نحبه وقبر في قبره.
وأوسع من تكلم عن هذه المكتبة بل وأماتها بحثاً سواءاً عن تأريخ نشأتها وبنائها والمراحل التى مرت بها أو أهم المكتبات التى أضيفت لها هو الأستاذ الفاضل النحرير الدكتور وليد أحمد سامح الخالدي – حفيد مؤسس هذه المكتبة الحاج راغب الخالدي – وذلك في مقاله الماتع النافع والذي بلغ الأربعين صفحة والمعنون بـ (المكتبة الخالدية في القدس) والذي جعله مقدمة لفهرس المكتبة الكامل والذي قام بفهرستها الأستاذ (نظمي الجعبة) والذي سيصدر في مجلدين ضخام، ثم قام الأستاذ وليد الخالدي نفسه بإعادة نشر هذا المقال على شكل كتاب مستقل يحمل نفس العنوان السابق (المكتبة الخالدية في القدس). ويكون الأستاذ وليد الخالدي بمقاله هذا وكتابة المستقل عنها قد أوفى المكتبة نصيبها غير منقوص.
(2)
وأما عن الذين تكلموا عن هذه الخزانة وأشادوا بذكرها سواءاً في تضاعيف مؤلفاتهم أو خلال مقالات مستقلة لهم نشروها في الصحف والمجلات فهم ثلة طيبة سطروا بأقلامهم وكتبوا بمداد الحبر شذرات رائعة ونبذاً ماتعة مازالت باقية الأثر يكرع منها كل مستفيد وينهل منها كل متعطش لأخبار هذه المكتبة النفسية.
وأود الإشارة إلى أن أغلب من تكلموا كان عمدتهم ورأس مالهم هو ما ذكره الأستاذ عبدالله مخلص رحمه الله عن هذه الخزانة وبخاصة الأستاذ فيليب طرازي في كتابة (خزائن الكتب العربية في الخافقين) ومحمد كرد علي في كتابة (خطط الشام)، وهاك أخي القارئ قائمة بأسمائهم وأسماء مؤلفاتهم ومقالاتهم التى تكلموا فيها عن هذه الخزانة حسب ما وقفت عليه والله الموفق.
1- الأستاذ عبدالله مخلص رحمه الله في مقاله النافع (نفائس المكتبة الخالدية) والذي نشره في مجلة مجمع اللغة العربية في دمشق سنة (1924م) مجلد ( 4) (صـ366-369) – (صـ409- 413).
2- العلامة محمد كرد علي رحمه الله في كتاب (خطط الشام 6/195).
3- الفيكونت فيليب طرازي في كتابة (خزائن الكتب العربية في الخافقين) (1/ 142-143).
4- كوركيس عواد في (فهارس المخطوطات العربية في العالم) (2/ 152-153) .
5- د. خضر سلامة (مخطوطات فلسطين) ضمن كتاب (المخطوطات الإسلامية في العالم – نشرته مؤسسة الفرقان /لندن) ( 3/438) .
6- الأستاذ كمال نبهان والأستاذ أيمن فؤاد السيد والأستاذ خضر سلامة وذلك في تضاعيف ندوة معهد المخطوطات في القاهرة حول مخطوطات في فلسطين والتى طبعت في كتاب مستقل باسم (التراث العربي المخطوط في فلسطين ).
7- مؤرخ غزة الكبير الشيخ عثمان مصطفى الطباع في كتابة القيّم (إتحاف الأعزة في كتاب غزة 2/132).
8- أديب فلسطين الكبير عجاج نويهض في كتابة ( رجال من فلسطين ) صـ 71.
9- الأستاذ كامل العسلي في كتابيه :
أ- أجدادنا في ثرى بيت المقدس.
ب-معاهد العلم في بيت المقدس.
10- الأستاذ كامل العسلي في مقاله (المكتبة الخالدية في القدس)(رسالة المكتبة مج15ع3 (أيلول 1980) ( صـ5-10).
11- مؤرخ القدس عارف العارف رحمه الله في كتابه الموسوعي الكبير (المفصل في تاريخ القدس).
12- الأستاذ حمد أحمد عبدالله يوسف في مقال له بعنوان (مخطوطات فلسطين) نشره في مجلة معهد المخطوطات مجلد41جـ1(عام 1418هـ-1997م) صـ326.
13- د.ربحي مصطفى عليان (المكتبات في مدينة القدس نشره في مجلة عالم الكتب مجلد23عدد(1-2) (صـ21-30).
14- الأستاذ إياد أحمد الفوج في مقاله (المكتبة الخالدية في فلسطين) ( كنز مخبوء) نشره في مجلة الفيصل عدد291(1421هـ-2000م) صـ 41-48.
15- الكاتبة (جوسلن عجمي) في مقال لها بعنوان (المكتبة الخالدية في القدس. كنز دفين) ترجمة /حمدي يوسف الكتكوت – الظهران - قافلة الزيت مجلد (43) (1415محرم) صـ41.
16- الأستاذ عبد الهادي هاشم في (الموسوعة الفلسطينية) (4/286-288).
17- الأستاذ كامل العسلي في بحثه المعنون بـ(المكتبات الفلسطينية منذ الفتح الإسلامي حتى سنة (1985م) الموسوعة الفلسطينية –قسم الدراسات (الدراسات الخاصة ) (جـ3/282-312).
18- البحاثة الحلبي محمد أسعد طلس رحمه الله في مقاله (دور كتب فلسطين ونفائس مخطوطاتها مجلة مجمع دمشق مجلد ( 20/1945) ومجلد (21/1964).
(3)
الخالدية ومحنتها العظيمة:
يقول أديب فلسطين حجاج نويهض في كتابة رجال حول فلسطين صـ71 واصفاً الخالدية ما نصه: (هي المكتبة الوحيدة في فلسطين جمعت فيها حصة كبيرة من تراث الذهن العربي القديم فكتبها قيمة نادرة) .
ومن الطرائف أن الشيخ طاهر الجزائري باعث النهضة الشامية في القطر الشامي قرظ الخالدية ببيتين جليلين مادحاً إياها بقوله:
أقول وقد عاينت كتباً نفيسة تروق ذوي الألباب وهي منى النفس
أيا طالباً أقصى المعارف راغباً لنيل العـلا بادر لمكتبة القـدس
ووصفها العلامة محمد أسعد طلس بقوله (أعظم دور كتب القدس) .
وأن مكتبة بهذه النفاسة والندرة بمكان لما تحويه بين رفوفها من أمات النفائس والنوادر مما يشد لها الرحال لخليق بأعداء هذا التراث من يهود ومستشرقين وغيرهم أن يكيدوا لهذه المكتبة ويناصبوها العداء مدبرين أبشع الحيل وأشنعها للقضاء على هذه المكتبة.
والمكتبة الخالدية منذ تأسيسها عام 1900م قد مرت بمراحل عديدة اجمالها ثلاثة مراحل:
1- المرحلة الأولي من عام 1900 حتى النكبة 1948مـ.
2- المرحلة الثانية من عام 1948 حتى النكسة 1967مـ.
3- المرحلة الثالثة منذ عام 1976م حتى يومنا هذا .
وسيكون الحديث هنا عن المرحلة الثالثة إذا كانت أشدها خطراً وأعظمها ضرراً على هذه المكتبة وهاك التفصيل:
المكتبة منذ 1967م
مرت المكتبة منذ عام 1967م في ثلاثة أطوار:
الأول: من 1967 وإلى عام 1982م وفيه جابهت المكتبة محاولات إسرائيلية متكررة لمصادرتها أو الاستيلاء عليها.
والثاني: من 1982 إلى 1990م وفيه خاضت الخالدية معارك قضائية في المحاكم الإسرائيلية دفاعاً عن حقوقها ووجودها.
والثالث: من 1990 إلى يوم الحاضر، وقد شهد بروز جمعية أصدقاء المكتبة وتبنيها لبرامج طموحة للحفاظ عليها وتنميتها.
الطور الأول : من 1967إلى 1982م :
كان هذا أقسى الأطوار وأخطرها، ذلك أن إسرائيل فور احتلالها للقدس الشرقية أخذت في مصادرة الأحياء الإسلامية الواقعة في الجنوب الشرقي من البلدة القديمة مقابل حائط البراق الذي يعده اليهود حائط مبكاهم. وكان طريق باب السلسلة حيث تقع المكتبة على جانبه القبلي يحد هذه الأحياء المصادرة من الشمال، وشرعت إسرائيل لتوها في هدم وجرف أحد هذه الأحياء بكامله وطرد سكانه منه وهو حي المغاربة، وهو الأقرب لما من الخالدية وحائط البراق، وكان الملك الأفضل بن صلاح الدين الأيوبي قد وقف بعضه لجهة البر سنة 589هـ/1193م ووقف معظمه لاحقاً سنة 720هـ /1320مـ على الحجاج المغاربة المجاورين للمسجد الأقصى أحد حفدة أبي مدين شعيب بن حسين المغربي، الغوث، القطب التلمساني(ت594هـ 1198مـ) ، وكانت زاوية أبي مدين التى أزيلت مع الحي على بعد أمتار من الخالدية [1]
وكانت معظم الأحياء المصادرة تابعة لأوقاف العوائل المقدسية الإسلامية. وكانت "حصة " آل الخالدي من الخسارة الجماعية ما ينيف على 40 عقاراً من منازل وشقق ودكاكين استولت إسرائيل عليها، بما في ذلك منزل القاضي موسي بن محمد بن خليل بن صنع الله الكبير والد السيدة طرفندة خاتون الذي سبق ذكرهما[2] وشمل قرار المصادر مبني المكتبة ذاته، واحتل الجنود الإسرائيليون الطابق العلوي الشرقي المطل على ساحتها والتابع لأوقاف العائلة أيضاً، وألصق على بابها بيان مصادرة باعتبارها من أملاك الغائبين ولم يكن متولي الأوقاف العائلية المهندس عادل بن حسين فخري حينذاك في القدس، فقام مقامه حيدر بن كامل بن عبد الرحمن بن محمد علي الخالدي، وكامل هذا هو أخو نظيف السالف الذكر وتمكن حيدر بمفرده وبما منّ الله عليه من قوة الإيمان والعزيمة وبما لديه من وثائق، من التصدي لقرار المصادرة وإثبات بطلان الادعاء بكون المكتبة من أملاك الغائبين، فأنقذ بذلك المكتبة من ضياع محتوم.
وما لبث حيدر أن ألف لجنة محلية لتعينه على حماية المكتبة، وكانت اللجنة مؤلفة منه ومن ابن عمه حازم وابنه (أي ابن حيدر) كامل وابنته الآنسة هيفاء وصديق العائلة عبد الله العكاوي المقدسي[3]. وكان أول عمل تولته اللجنة هو القيام بجرد محتويات المكتبة من مخطوطات ومطبوعات وانتهى هذا الجرد عام 1968مـ وتبين أن موجودات المكتبة مؤلفة من 1293 مخطوطة 4740 كتب مطبوعة، أي مجموعه 5997 مجلداً، وأن عدد مطبوع باللغة العربية هو 3135 مجلداً وبالغة الأجنبية 1569 مجلداً. وهذا هو الجرد الذي أعتمد عليه الدكتور كامل العسلي في تقديراته الخاطئة في نظرنا كما أسلفنا [4].
ولم تنته المحاولات الإسرائيلية للاستيلاء على المكتبة بالطعن الموفّق في الادعاء بكونها من أملاك الغائبين. فمنذ أواخر السبعينات أخذ مدنيون من اليهود يحلون تدريجياً مكان الجنود الإسرائيليين المحتلين للطابق العلوي الشرقي المشرف على ساحة المكتبة. وتبين بعد قليل أن هؤلاء هم طليعة مدرسة تلمودية (ياشيفا بالعبرية) تابعة لحركة دينية من غلاة الغلاة على رأسها الحاخام غورين كبير حاخامي الجيش الإسرائيلي سابقاً. وماهي إلا بضعة أشهر حتى بوشر في أعمال بناء أخذت بتشييد طابق ثالث فوق الطابق العلوي الشرقي المحتل، ثم بالالتفاف من حول ساحة المكتبة من الناحية القبلية وبناء جناح ثان للمدرسة التلمودية أخذ يعلو شيئاً فشيئاً فوق حائط الساحة من هذه الناحية، وإذ بنوافذ تفتح فتطل على الساحة، وبشمعدان ضخم ذي سبعة أعمدة يرتفع فجأة على سطح هذا الجناح وعلى رأس كل من الأعمدة مشعل كهربائي كبير، أخبرنا العاملون أن إضاءتها مقابل حائط البراق إنما ترمز إلى برنامج حركة الحاخام الدينية وطموحها لإعادة بناء الهيكل في ساحة الحرم المسجد الأقصى. ورافق حركة البناء هذه قذف متراكم على ساحة المكتبة للردم الناتج عن البناء وقاذوراته، وكانت الساحة تضم قبور ثلاثة من أمراء الخوارزميين الذين وفدوا إلى المشرق للمشاركة في قتال الإفرنج وكانت وفاتهم بين عامي 644و678هـ/ 1246و1279مـ [5]
الطور الثاني : 1982- 1990مـ
لم يعد في أوائل الثمانينات أي مجال للشك في أن الحاخام غورين عقد النية على الاستيلاء على المكتبة بهذه الأساليب، بعد إخفاق محاولة المصادرة، وأن جُل ما يقف دون ذلك هو حيدر وأعضاء لجنته المعدومو الإمكانات بسبب ما حل بأوقاف العائلة من خسائر جسيمة. فتم الاتصال بكاتب هذه المقدمة وليد ابن أحمد سامح بن الحاج راغب، واتفق على إنشاء صندوق خاص لجمع التبرعات، وعلى خطة عمل ينفق عليها من أموال الصندوق، وتضمنت خطة العمل التحرك على خطين متوازين:
أولهما: اللجوء إلى المحاكم المحلية في محاوله لإيقاف الحاخام عند حده إن أمكن.
والثاني: مباشرة العمل على ترميم المكتبة ومحتوياتها إثباتاً للوجود واستباقاً لمشروعات الحاخام.
وتألفت لجنة عائلية مصغرة لهذا الغرض ضمّت كلاًّ من حيدر بن كامل من الداخل، ووليد بن أحمد سامح والمهندس منذر بن ثابت بن نظيف والدكتور رشيد بن إسماعيل بن الحاج راغب من المقيمين في الشتات.
وتلقى الصندوق الخاص تبرعات جاءت على التوالي من الحاجة فاطمة بنت الحاج راغب عن طريق ابنها هاني بن محمد سلام البيروتي، ومن منذر وأخيه الأكبر نظيف الخالدي، ومن الصديق المحسن ورجل الأعمال الفلسطيني حسيب الصبّاغ، ومن سمو الأمير الحسن بن طلال ومن موسى شفيق بن جميل بن موسي شفيق الخالدي، وموسى شفيق الجد هذا كان من مؤسس المكتبة في أواخر القرن الماضي كما أسلفنا.
وتنفيذ للخطة المتفق عليها قدّمت الشكوى ضد الحاخام بشأن إلقائه الردم على الساحة وفتحه النوافذ في الحائط القبلي. وبعد طور تدبّر وتداول من قبل المحكمة وزيارة أعضاء المجلس البلدي الإسرائيلي بأسره بمن فيهم رئيس البلدية والقاضية رئيسة المحكمة بنفسها لموقع المكتبة، لم يسع المحكمة إلا أن تحكم في صالح المكتبة وتأمر الحاخام بسد النوافذ وإزالة الردم والإقلاع عن إلقائه مجدداً.
بيد أنه عندما حاولت اللجنة العائلية تنفيذ خطة الترميم لأبنية المكتبة اعترض الحاخام ومؤسسات استيطانية بتحريض منه على ذلك، تارة بحجة أن الترميم يهدد سلامة الطوابق التى بناها الحاخام، وتارة بحجة أن المكتبة في حال فتحها تشكل خطراً أمنياً على مدرسته التلمودية وتارة بحجة أحقية المكتبة التلمودية تملك المكتبة!.
وطالت المقاضاة سنوات عدة في كرّ وفرّ دائمين. ولكن كانت النتيجة أن المحكمة لم يسعها أخيراً إلا أن تحكم ثانية لصالح المكتبة وتدحض ادعاءات الحاخام وحلفائه.
وما إن انتهت المعركة مع الحاخام حتى بدأت المعركة مع البلدية ذاتها ولجانها المتخصصة العديدة للحصول على الإذن بالبدء بأعمال الترميم. وماطلت البلدية ولجانها ما استطاعت ولسنوات عدة، وبذرائع وأسباب مختلفة بعضها جمالي الإدعاء وبعضها فني وبيروقراطي مختلق قبل منح الإذن أخيراً، بحيث لم يتسن البدء في أعمال ترميم أبنية المكتبة الإ في أواخر الثمانينات.
وفي هذه الأثناء تقدم حيدر في السن وضعف بصره واضطر ابنه كامل إلى الانتقال إلى عمّان لممارسة عمله هناك. وفي عام 1980مـ توفي حازم الخالدي مساعد حيدر الأيمن، ذلك أن حازماً رحمه الله كان صلب العود انضم ضابطاً إلى الجيش البريطاني في مصر خلال الحرب العالمية الثانية بنصيحة والدي أحمد سامح وبحضوري، وارتقى في الرتب حتى وصل إلى رتبة عميد (ميجور) بنهاية الحرب، وكلف من قبل الجامعة العربية خلال حرب 1948مـ برئاسة مدرسة حربية في سوريا لتدريب الضباط الفلسطينيين، وهي المدرسة التى تخرّج فيها العديد من ضباط جيش التحرير الفلسطينيين فيما بعد. وبوفاة حازم لم يبق من أفراد العائلة القادرين بالقدس لمساعدة حيدر سوى ابنته الآنسة هيفاء. وقامت هيفاء ولا تزال تقوم بالواجب خير قيام، وحافظت بذلك على تقاليد سيدات العائلة بالإسهام في رعاية المكتبة.
ولم تكن مهمة هيفاء سهلة، ذلك أنه تخللت سني المقاضاة والسعي للحصول من البلدية على إذن بالترميم، مضايقات من المستوطنين المسلحين اليهود بتحريض من الحاخام غورين ومن غيره، واتخذت هذه المضايقات مرات عديدة شكل زيارات في أواخر الليل وأوائل الفجر لمنزل حيدر المجاور للمكتبة، يطرق خلالها الباب بإعقاب البنادق ويعلو فيها صمت التهديد والشتم، حتى إنه في أحدي الزيارات رافق أفراد من الشرطة الإسرائيلية المستوطنين وأصروا على استلام مفتاح المكتبة ثم أعادوه بعد مرور أيام.
وكانت هيفاء التى تتصدى لهذه الزيارات والمناورات وتتلقاها نيابة عن أبيها المريض المسن بشجاعة ورباطة جأش اشتهرت بهما.
ولا بد أن نذكر في هذا الصدد أن المكتبة تلقت عوناً في محنتها مع الحاخام غورين ومع بلدية القدس من عالِمين إسرائيليين فاضلين، هما الدكتور أمنون كوهين والدكتور داني باهات اللذان أسهما في إقناع المحكمة ولجان البلدية بما أدليا به من معلومات وشهادات بصحة موقف القائمين على المكتبة، فاستحقا منا كل شكر وتقدير، كما ساعدت في هذا الاتجاه أيضاً الاتصالات التى قامت بها اللجنة العائلية مع وزارة الخارجية الأمريكية وقنصل أمريكا العام بالقدس، وقرر خلال هذه الفترة تسمية اللجنة العائلية بـ"جمعية أصدقاء المكتبة الخالدية "وإضافة أعضاء آخرين إليها ومن خارجها ودعمها بمجلس استشاري أكاديمي رفيع المستوى مؤلف من كبار المستشرقين المتعاطفين في الجامعات الأوروبية والأمريكية.
وتقرر هذه الفترة أيضاً عدم انتظار نتيجة المقاضاة في المحاكم أو إصدار إذن من البلدية بالبدء في الترميم، والمضي في عمليتين لا تحتاج إلى موافقة السلطات الإسرائيلية، وهما دراسة إعداد فهرس عصري لمخطوطات المكتبة، ومباشرة ترميم المخطوطات وصيانته وفق أحدث الأساليب العلمية. وهكذا تمّ الاتفاق عام 1985م مع المستشرق الأمريكي الدكتور لورنس كونراد لدراسة مشروع الفهرس، ومع توني بيش الخبير البريطاني في ترميم المخطوطات عام 1986م، وأنفقت "جمعية أصدقاء المكتبة" من صندوقها على زيارات سنوية للمكتبة قام بها كل من كونراد وبيش خلال الأعوام 1985-1986م، وكانا يمكثان في القدس فترات تتراوح كل منها الأسبوعين والشهر الواحد، وكان في بعض الأحيان يرافقهما بعض المساعدين.
وتمكن كونراد خلال هذه الزيارات من تكوين نظرة إجمالية عن عدد لا بأس به من المخطوطات، وبوضع قائمة أولية[6] Shelf List بها. ثم إنه أثناء التمهيد لأعمال الترميم اكتشف عام 1987م تحت السقف القرميدي للمكتبة مجموعة ضخمة من الأوراق من مختلف الأحجام ينوف عددها على 000‚10 ورقة هي خليط من الدَّشت والأوراق الشخصية والوثائق الرسمية وصفحات المخطوطات المبعثرة فقام كونراد بتصنيفها وجمعها، وعثر من خلال ذلك على مخطوطات قيمة كاملة وأجزاء مكملة لغيرها [7].
أما توني بيش فقد أشرف على تبخير مجموعة مخطوطات بكاملها وعلى فتح وتنظيف كل مخطوطة منها على حدة ووضعها في صندوق خاص مادته عازلة تصون المخطوط عن الرطوبة والحموضة[8].
وفي 1989م تمّ تشكيل مجلس أمناء جمعية أصدقاء المكتبة من وليد أحمد سامح الخالدي، وكامل حيدر الخالدي، ومنذر بن ثابت الخالدي، والدكتور رشيد إسماعيل الخالدي، والدكتور بنيامين بروان الأمريكي، والسيدة بربارا إكّ الأمريكية أيضاً، وسجلت كمؤسسة معفاة من الضرائب بموجب قوانين ولاية مساتشوستس في الولايات المتحدة، وانضمت إليها في الوقت لاحق سمو الأميرة غيدا طلال حفيد الحاجة فاطمة ابنة الحاج راغب الخالدي. وفي الوقت نفسه تألف مجلس استشاري أكاديمي دولي لمجلس الأمناء أعضاؤه الآن هم: السفير المستشرق الدكتور نيكولاس بيخمان (سفير هولندا لدى الحلف الأطلسي)، والدكتور نظمي الجعبة (الأستاذ في جامعة بيرزيت في فلسطين)، والدكتور رشيد إسماعيل الخالدي (الأستاذ في جامعة شيكاغو في الولايات المتحدة)، والدكتور طريف أحمد سامح الخالدي (الأستاذ بجامعة كمبريدج في بريطانيا)، الدكتور فرد دونر (الأستاذ في جامعة شيكاغو)، والدكتور غيرنوت روتر (الأستاذ في جامعة هامبورغ في ألمانيا)، والدكتور أدريه ريمون (الأستاذ في جامعة أيكس أون بروفنس في فرنسا)، والدكتور جوزيف فان ايسّ (الأستاذ في جامعة توبينغن في ألمانيا، والأب توماس ميشيل (من الفاتيكان).
وفي صيف عام 1991م حصل الدكتور رشيد إسماعيل الخالدي على إحدى زمالات فولبرايت الأمريكية مكّنته من أن يقضى عطلته بالقدس لثلاث سنوات متعاقبة، حيث أقام في الشقة للزائرين ملحقة بالمكتبة ، وانكبّ على دراسة مجوداتها من الأوراق والوثائق العائلية. وشكلت هذه مصدراً أساسياً للكتاب المرجعي الذي وضعه بالإنكليزية عن الهوية الوطنية الفلسطينية الذي نشرته له جامعة كولومبيا بنيويورك عام 1997م [9].
.