فلسطين التاريخ / أعلام بيت المقدس

(القائد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وأقوال العلماء فيه)


أ.منذر قاسم المشارقة

       الحديث عن العظماء في التاريخ حديث يشحذ الهمم ويشعر المرء بالفخر واليقين بأن هذه الأمة لا تزال قادرة على صناعة الرجال مع ما تمر به من محن واستضعاف، وهذه سنة الله في الأمم، وأن الأيام فيها دول، فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتصر في بدر وينتصر الكفار في أحد، وما ذلك إلا امتحان لهذه الأمة ليعرف الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق.

       ومن هؤلاء علم من أعلام الأمة ومن قادتها الأبطال الذي وضع بصماته في التاريخ،  فكان له الدور الكبير بعد الله عز وجل في رفعة الإسلام والمسلمين وعودة الأمة إلى عزها ومجدها سواء من الناحية السياسية أو من الناحية الشرعية، أوقف زحف الصليبيين وهزمهم ورد بلاد المسلمين لاسيما بيت المقدس إلى حوزة المسلمين، وفي نفس الوقت قضى على الدولة الباطنية في مصر وهي الدولة الفاطمية العبيدية الرافضية، وتلك من أجلّ الأعمال في حياته.

 إنه صلاح الدين الأيوبي ـ رحمه الله تعالى ـ القائد الفذ، ولعل السبب من وراء كتابة هذا البحث المختصر أنه قد وقع بين يدي مقال فيه كثير من التحامل على صلاح الدين الأيوبي وتحميله أمور أكثر مما تحتمل، ومنها أنه لم يظهر إنكاراً أو تغييراً لشيء من موبقات الفاطميين ولا أدري كيف لإنسان منصف أن يقول مثل هذا القول، ألا يكفي صلاح الدين فخراً أنه أزال دولة الفاطميين وأعاد مصر إلى بلاد المسلمين، ولكن كما يقول الإمام الذهبي : بأن الإنصاف عزيز، وأقول يكفينا ثناء علماء أهل السنة على صلاح الدين حتى نعلم حقيقة ما قدمه لخدمة الإسلام والمسلمين.

        ومن خلال دراسة سيرة هؤلاء الأعلام نجد أن بعضهم قد وقع في بعض الأخطاء وعذرهم في هذا الحمل الكبير والعمل الدؤوب وما كانوا عليه من مسئولية عظيمة تحملوها،  وقد تكون هذه الأخطاء كبيرة أحياناً وقد تكون صغيرة، والباحث المنصف هو الذي ينظر إلى هذا الخطأ بتجرد ويعرضه بكل إنصاف، ولكن في نفس الوقت لا بد وأن ينظر لماذا وقع؟ وما هي ظروفه ودواعيه؟ وإعطاء الخطأ حجمه الصحيح، ولا ينظر إلى هذا الإنسان من خلال أخطائه فقط فهذا من الظلم والتحامل المقصود نسأل الله السلامة، وكما قال الإمام الذهبي: (إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه وعلم تحريه للحق واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه وإتّباعه، يُغفر له زللـه ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه،  نعم لا نقتدي به في بدعته وخطئه ونرجو له التوبة من ذلك)  السير 5/271.

 وفي هذه الورقات سأتناول العناصر التالية:-

نبذة مختصرة عن حياة صلاح الدين الأيوبي.

نبذة عن العصر الذي عاش فيه وما هو الاعتقاد السائد فيه.

أعماله في خدمة الإسلام.

خصوم صلاح الدين الأيوبي.

أقوال العلماء فيه من السابقين والمتأخرين.

خلاصة القول.

 ترجمته:

اسمـه: يوسف بن الأمير نجم الدين أيوب بن شاذي بن مروان بن يعقوب الدويني ثم التكريتي المولد. كنيتـه: أبو المظفر، لقبه: صلاح الدين.

مولده: ولد في سنة اثنتين وثلاثين وخمس مئة، إذ كان أبوه نجم الدين متولي تكريت نيابة، وكان أبوه ذا صلاح، ولم يكن صلاح الدين بأكبر أولاده.

طلبه للعلم:

ذكر الذهبي عنه في السير -ج 21 ص 278 – "سمع من أبي طاهر السِّلفي، والفقيه علي بن بنت أبي سعد، وأبي الطاهر بن عوف " ثم ذكر قال الموفق عبد اللطيف: "أتيت وصلاح الدين بالقدس، فرأيت ملكاً يملأ العيون روعة، والقلوب محبة، قريباً بعيداً سهلاً محبباً، وأصحابه يتشبهون به يتسابقون إلى المعروف، كما قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ) وأول ليلة حضرته وجدت مجلسه حَفْلاً بأهل العلم يتذاكرون، وهو يحسن الاستماع والمشاركة "إلى أن قال: "محاسن صلاح الدين رحمه الله لا سيما في الجهاد فله فيه اليد البيضاء ببذل الأموال والخيل المثمنة لجنده وله عقل جيد وفهم وحزم وعزم،  فقال العماد عن صلاح الدين: "نزّه مجالسه عن الهزل ومحافله آهلة بالفضلاء يؤثر سماع الحديث بالأسانيد حليماً مُقيلاً للعثرة تقياً نقياً وفياً صفياً".

     ويقول عنه ابن عساكر: "يوسف بن أيوب بن شادي الملك الناصر صلاح الدين سلطان المسلمين وقامع المشركين فاتح بيت المقدس وبلاد الساحل ومخلصها من أيدي الكافرين رحمه الله" انتهى. وتعرّض صلاح الدين لمحاولة اغتيال مِن قِبل الباطنية، ولكن الله نجاه وسلمه.

 زهده:

لم يُخلّف صلاح الدين في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهماً وديناراً صورياً، ولم يُخلف ملكاً ولا عقاراً رحمه الله، ولم يختلف عليه في أيامه أحد من أصحابه، وكان الناس يأمنون ظلمه، ويرجون رِفده، وأكثر ما كان يصل عطاؤه إلى الشجعان وإلى العلماء وأرباب البيوتات، ولم يكن لمبطل ولا لمزاح عنده نصيب.

 وفاته: توفي رحمه الله بقلعة دمشق بعد الصبح من يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمس مئة.

 العصر الذي عاش فيه:

   عاش صلاح الدين الأيوبي في القرن السادس الهجري وكان كردياً ومعروف أن أكثر العشائر الكردية إلى اليوم متصوفة شوافع وكان أبرز ملامح شخصيته الإيمان العميق الذي يتقرب من خلاله إلى الله عبر مجاهدة النفس والعمل على مجاهدة الكفار.

   وكان الاعتقاد السائد في تلك الفترة اعتقاد الأشاعرة تلمس هذا من القضاة والعلماء الذين كانوا في تلك الفترة من الذين خالطوا صلاح الدين الأيوبي وكذلك انتشار التصوف في تلك الفترة وخاصة القادرية والرفاعية.

      والأمر الآخر أن صلاح الدين الأيوبي رحمه الله كان محاطاً بنخبة من العلماء والقضاة الأشاعرة فقد سمع الحديث من أبي الطاهر السلفي قال عنه الإمام الذهبي: (لسان الميزان [جزء 1 -  صفحة 299 ])، وكان يقرأ من كتاب الإمام تاج الدين البندهي المسعودي وكان المسعودي مؤدباً للملك الأفضل بن صلاح الدين، ذكره أبو شامة المقدسي في كتابه كتاب الروضتين، وكذلك نشره للمذهب الشافعي في مصر بعد أن أزال المذهب الشيعي.

 أعماله في خدمة الإسلام:

   لا يخفى على كل عارف بصلاح الدين الأيوبي ما قام به من أعمال عظيمة تجاه أمته ودينه، فشيخه نور الدين محمود زنكي مع والده عماد الدين زنكي كانوا شوكة في حلق الصليبيين أفشلوا مخططاتهم تجاه الدولة الإسلامية ودارت معارك عظيمة معهم حتى جاء صلاح الدين الأيوبي فوحد الشام ومصر والحجاز واليمن وقاتل الصليبيين وهزمهم وحرر بيت المقدس وأعاد للأمة قوتها ومجدها في وقت كادت بلاد الإسلام أن تكون في قبضة الصليبيين والباطنيين.

    وكما قضى على الدولة الباطنية الفاطمية في مصر وأعادها لأهل السنة والجماعة وفتح المدارس لدراسة المذاهب السنية وعمل على القضاء على مذهب الشيعة في مصر يقول ابن خلكان: (وتسلم صلاح الدين قصر الخلافة واستولى على ما كان به من الأموال والذخائر وكانت عظيمة الوصف وقبض على أولاد العاضد وحبسهم في مكان واحد بالقصر وأجرى عليهم ما يمونهم وعفى آثارهم وقمع مواليهم وسائر نسائهم وفرق بين الرجال والنساء ليكون ذلك أسرع إلى انقراضهم، وكانت هذه الفعلة من أشرف أفعاله فلنعم ما فعل، فإن هؤلاء كانوا باطنيين زنادقة دعوا إلى مذهب التناسخ واعتقادهم حلول الجزء الإلهي في أشباحهم).

   ويقول المقريزي: (واستمر الحال حتى قدمت عساكر شيركوه ووصول صلاح الدين إلى مصر عام 564هـ فصرف قضاة مصر الشيعة كلهم وفرض المذهب الشافعي وأخفى مذاهب الشيعة الإمامية حتى فقدت من أرض مصر كلها،  كما حمل صلاح الدين الكافة على عقيدة الأشعري في مصر وبلاد الشام ومنها إلى أرض الحجاز واليمن وبلاد المغرب حـتى أصبح الاعتقاد السائد بسائر هذه البلاد).

   ويقول السيوطي في كتاب "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة": "وأخذ صلاح الدين في نصر السنة وإشاعة الحق وإهانة المبتدعة والانتقام من الروافض وكانوا بمصر كثيرين".

      ومن أعماله محاربته للزنادقة والفلاسفة والمتصوفة: حيث أمر بقتل السهروردي،  "والسهروردي الذي ولد في قرية سهرورد، في شمال غرب بلاد فارس، طلب العلم باكراً في أصفهان، ثم في ديار بكر، ثم بلاد الشام. واستقر في حلب، وهي في إمرة الملك الظاهر، ابن صلاح الدين. وفي حلب كتب أهم أعماله حكمة الإشراق، وكتاب اللمحات، وكتاب التلويحات، وكتاب المقاومات، وكتاب المطارحات، إلى عشرات الكتب الثانوية والرسائل". بعد ما حوت كتبه من أقوال  فلسفية كفرية، فأشار عليه العلماء بقتل هذا الرجل فأرسل إلى ابنه الملك الظاهر فقتله في حلب.

     وأيضاً قام بالخطبة والدعاء إلى الخليفة العباسي في بغداد بعد أن قطع الخطبة عن العاضد وهذا يدل على ولائه للخلافة الإسلامية العباسية.

خصوم صلاح الدين الأيوبي:

الناظر في تاريخ الناصر صلاح الدين يجد بما لا يدع مجالاً للشك أن خصوم صلاح الدين الأيوبي هم ثلاث فئات، خصوم من أجل الدنيا وهم الذين كانوا يحرصون على الملك والشيعة أتباع الدولة الفاطمية، والصليبين.

   ولا نقصد بهذا الكلام أنه لا يوجد أحد رد على صلاح الدين أو أظهر بعض أخطائه أو انتقد بعض التصرفات والآراء، وإنما المقصود أنه جعل نفسه خصماً لصلاح الدين يعاديه ويحاول الانتقام والتخلص منه،  فنجد الرافضة عندما قضى على دولتهم حاولوا مراراً اغتياله وقتله ولكن باءت هذه المحاولات بالفشل عندما كان يحاصر قلعة إعزاز المنيعة عام 571هـ.

   والفئة الثالثة هم الصليبيون وهؤلاء الحديث عنهم يطول فحياة صلاح الدين كلها كانت في مجاهدة الصليبيين وقتالهم وقد خاض معهم معارك شرسة حقق من خلالها تحرير بيت المقدس وأراض أخرى للمسلمين.

 أقوال أهل العلم في صلاح الدين الأيوبي:

    إن الإنجازات التي حققها صلاح الدين جعلت كثير من أهل العلم يسجلون كلمات الثناء والمدح على ما قام به، ولو أردنا أن نتتبع أقوال العلماء والشعراء والمؤرخين في صلاح الدين لطال المقال، ولكننا نقتصر على بعضهم وخاصة علماء أهل السنة والجماعة كشيخ الإسلام ابن تيميه وابن القيم وغيرهم.

     يقول شيخ الإسلام ابن تيميه: "وفي دولة المستنصر كانت فتنة البساسري في المائة الخامسة سنة خمسين وأربعمائة لما جاهد البساسري خارجًا عن طاعة الخليفة القائم بأمر الله العباسي، واتفق مع المستنصر العبيدي وذهب يحشر إلى العراق، وأظهروا في بلاد الشام والعراق شعار الرافضة كما كانوا قد أظهروها بأرض مصر، وقتلوا طوائف من علماء المسلمين وشيوخهم كما كان سلفهم قتلوا قبل ذلك بالمغرب طوائف، وأذنوا على المنابر:‏ ‏[‏حي علي خير العمل‏]‏ حتى جاء الترك ‏[‏السلاجقة‏]‏ الذين كانوا ملوك المسلمين فهزموهم وطردوهم إلي مصر، وكان من أواخرهم ‏[‏الشهيد نور الدين محمود‏]‏ الذي فتح أكثر الشام، واستنقذه من أيدي النصارى؛ ثم بعث عسكره إلي مصر لما استنجدوه على الإفرنج، وتكرر دخول العسكر إليها مع صلاح الدين الذي فتح مصر، فأزال عنها دعوة العبيديين من القرامطة الباطنية، وأظهر فيها شرائع الإسلام، حتى سكنها حينئذ من أظهر بها دين الإسلام‏)‏ مجموع الفتاوى باب حكم المرتد.

ويقول (ولما قدم أبو عمرو عثمان بن مرزوق إلى ديار مصر وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع؛ وكانوا باطنية ملاحدة، وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع وظهرت بالديار المصرية أمر أصحابه أن لا يصلوا إلا خلف من يعرفونه لأجل ذلك‏.‏ ثم بعد موته فتحها ملوك السنة مثل صلاح الدين وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة، ثم صار العلم والسنة يكثر بها ويظهر‏). مجموع الفتاوى/ فصل: من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات.

    ويقول: (وكان بنو عبيد اللّه القداح الملاحدة يسمون بهذا الاسم، لكن هؤلاء كانوا في الباطن ملاحدة زنادقة منافقين، وكان نسبهم باطلاً كدينهم، بخلاف الأموي والعباسي فإن كلاهما نسبه صحيح، وهم مسلمون كأمثالهم من خلفاء المسلمين‏.‏ فلما ظهر النفاق والبدع والفجور المخالف لدين الرسول سلطت عليهم الأعداء، فخرجت الروم النصارى إلى الشام والجزيرة مرة بعد مرة، وأخذوا الثغور الشامية شيئًا بعد شيء إلى أن أخذوا بيت المقدس في أواخر المائة الرابعة، وبعد هذا بمدة حاصروا دمشق، وكان أهل الشام بأسوأ حال بين الكفار النصارى والمنافقين الملاحدة، إلى أن تولى نور الدين الشهيد، وقام بما قام به من أمر الإسلام وإظهاره والجهاد لأعدائه، ثم استنجد به ملوك مصر بنو عبيد على النصارى فأنجدهم، وجرت فصول كثيرة إلى أن أخذت مصر من بني عبيد أخذها صلاح الدين يوسف بن شادي، وخطب بها لبني العباس، فمن حينئذ ظهر الإسلام بمصر بعد أن مكثت بأيدي المنافقين المرتدين عن دين الإسلام مائة سنة) - مجموع الفتاوى/ فَصْــــل في أحوال أهل الضلال والبدع.

ويقول في مجموع الفتاوى  ج17-ص501  وقال محمد بن عبد الله مطين الحافظ وغيره"إنما هو قبر المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وعلي رضي الله عنه إنما دفن بقصر الإمارة بالكوفة ودفن معاوية بقصر الإمارة بدمشق ودفن عمرو بن العاص بقصر الإمارة بمصر خوفاً عليهم إذا دفنوا في المقابر البارزة أن ينبشهم الخوارج المارقون فإن الخوارج كانوا تعاهدوا على قتل الثلاثة فقتل ابن ملجم علياً وجرح صاحبه معاوية وعمرو كان استخلف رجلاً اسمه خارجة فقتله الخارجي وقال أردت عمراً وأراد الله خارجة فسارت مثلاً ، فالمقصود أن هذا المشهد إنما أحدث في دولة الملاحدة دولة بني عبيد وكان فيهم من الجهل والضلال ومعاضدة الملاحدة وأهل البدع من المعتزلة والرافضة أمور كثير ولهذا كان في زمنهم قد تضعضع الإسلام تضعضعاً كثيراً ودخلت النصارى إلى الشام فإن بني عبيد ملاحدة منافقون ليس لهم غرض في الإيمان بالله ورسوله ولا في الجهاد في سبيل الله بل الكفر والشرك ومعاداة الإسلام بحسب الإمكان واتباعهم كلهم أهل بدع وضلال فاستولت النصارى في دولتهم على أكثر الشام ثم قيض الله من ملوك السنة مثل نور الدين وصلاح الدين وإخوته وأتباعهم ففتحوا بلاد الإسلام وجاهدوا الكفار والمنافقين.

  ويقول كذلك في مجموع الفتاوى ج27 -ص54:  "إذا عرف ذلك فهذه السواحل الشامية كانت ثغوراً للإسلام إلى أثناء المائة الرابعة وكان المسلمون قد فتحوا قبرص في خلافة عثمان رضى الله عنه فتحها معاوية فلما كان في أثناء المائة الرابعة اضطرب أمر الخلافة وصار للرافضة والمنافقين وغيرهم دولة وملك بالبلاد المصرية والمغرب وبالبلاد الشرقية وبأرض الشام وغلب هؤلاء على ما غلبوا عليه من الشام سواحله وغير سواحله وهم أمة مخذولة ليس لهم عقل ولا نقل ولا دين صحيح ولا دنيا منصورة فغلبت النصارى على عامة سواحل الشام بل وأكثر بلاد الشام وقهروا الروافض والمنافقين وغيرهم وأخذوا منهم ما أخذوا إلى أن يسر الله تعالى بولاية ملوك السنة مثل نور الدين وصلاح الدين وغيرهما فاستنقذوا عامة الشام من النصارى وبقيت بقايا الروافض والمنافقين في جبل لبنان وغيره".

ويقول في مجموع الفتاوى ج28 -ص 643: " وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين وصلاح الدين ثم العادل كيف مكنهم الله وأيدهم وفتح لهم البلاد وأذل لهم الأعداء لما قاموا من ذلكم بما قاموا به وليعتبر بسيرة من والى النصارى كيف أذله الله تعالى وكبته"

وفي منهاج السنة النبوية ج 8 -ص 24: "وأما القدماء كأرسطو وأمثاله فليس لهم في النبوة كلام محصل والواحد من هؤلاء يطلب أن يصير نبياً كما كان السهروردي المقتول يطلب أن يصير نبياً وكان قد جمع بين النظر والتأله وسلك نحواً من مسلك الباطنية وجمع بين فلسفة الفرس واليونان وعظم أمر الأنوار وقرب دين المجوس الأول وهو نسخة الباطنية الإسماعيلية وكان له يد في السحر والسيمياء، فقتله المسلمون على الزندقة بحلب في زمن صلاح الدين".

 

  ويقول ابن القيم في كتاب  المنار المنيف ج 1 -ص154: "وهم ملوك القرامطة الباطنية أعداء الدين فتستروا بالرفض والانتساب كذباً إلى أهل البيت ودانوا بدين أهل الإلحاد وروجوه ولم يزل أمرهم ظاهراً إلى أن أنقذ الله الأمة منهم ونصر الإسلام بصلاح الدين يوسف بن أيوب فاستنقذ الملة الإسلامية منهم وأبادهم وعادت مصر دار إسلام بعد أن كانت دار نفاق وإلحاد في زمنهم" .

وفي كلام الإمام ابن القيم عن استيلاء الفرق الباطنية على بعض البلاد الإسلامية إلى أن قال الصواعـق المرسلة ج3 -ص 1076: "وكم ماتت بهم سنة وقامت بهم بدعة وضلالة حتى استنقذ الله الأمة والملة من أيديهم في أيام نور الدين وابن أخيه صلاح الدين فأبرأ الإسلام من علته بعدما وطن المسلمون أنفسهم على العراء وانتعش بعد طول الخمول حتى استبشر أهل الأرض والسماء وأبدر هلاله بعد أن دخل في المحاق وثابت إليه روحه بعدما بلغت التراقي وقيل من راق واستنقذ الله سبحانه بعبده وجنوده بيت المقدس من أيدي عبدة الصليب وأخذ كل من أنصار الله ورسوله من نصرة دينه بنصيب وعلت كلمة الإسلام والسنة وأذن بها على رؤوس الأشهاد ونادى المنادي يا أنصار الله لا تنكلوا عن الجهاد فإنه أبلغ الزاد ليوم المعاد فعاش الناس في ذلك النور مدة.

قول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:

   يقول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله نقلاً عن الشيخ محمد المنجد في شريط عن صلاح الدين الأيوبي أنه سأل الشيخ ابن باز عن صلاح الدين الأيوبي فقال: هو مجدد الأمة في الجهاد.

 خلاصة ما سبق:

عند الحكم على صلاح الدين الأيوبي سواء بالسلب أو الإيجاب، فلا بد من تقييم شخصية صلاح الدين الأيوبي على ما كان فيها من أخلاق عالية وتواضع ورفق بالناس والعطف عليهم، وهمة في الجهاد والعمل، وحب العلم وأهله وطلبه ونشره وتقديم أهله، والحرص على نشر السنة وتعليمها، ومحاربة المنافقين وأهل البدع والزيغ والضلال، ومن كل جوانبها ليتضح فيها الحق.

وكما قال عنه العماد الأصفهاني (قال العماد: أطلق في مدة حصار عكا اثني عشر ألف فرس. قال: وما حضر اللقاء إلا استعار فرساً، ولا يَلبس إلا ما يحل لبسه كالكتان والقطن، نـزّه المجالس من الهزل، ومحافله آهلة بالفضلاء، ويؤثر سماع الحديث بالأسانيد، حليماً مقيلاً للعثرة، تقياً نقياً وفياً صفياً، يُغضي ولا يغضب، ما رد سائلاً، ولا خَجّل قائلاً، كثير البر والصدقات، أنكر علي تحلية دواتي بفضة، فقلت : في جوازه وجه ذكره أبو محمد الجويني. قال: وما رأيته صلى إلا في جماعة)، وكان رجلاً عسكرياً قائداً ولم يكن عالماً ولكن كان حريصاً على أن تكون أفعاله على وفق الشرع فلذلك أحاط نفسه بمجموعة من العلماء والقضاة لأخذ مشورتهم في كثير من الأمور،  لذلك من الظلم تحميل صلاح الدين أكثر مما يحتمل في القضايا العقدية والمنهجية.

   فقد كان صلاح الدين يعيش في عصر لم يكن منهج السلف هو السائد فيه وإنما كان مذهب

الأشاعرة في العقيدة ومذهب الشافعي في الفقه، هو السائد في زمانه.

    وهو من المتأولين الذين يعذرون باجتهاداتهم وذلك لحرصه على تحري الحق وأخذ أقوال أهل العلم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها،  وقد يكون عرضت عليه شبهات يعذره الله بها،  فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائناً من كان سواء كان في المسائل النظرية أو المسائل العملية، هذا الذي عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام) مجموع الفتاوى 23/346.

   وانظر إلى كلام شيخ الإسلام رحمه الله في بعض العلماء من وقعوا في بدع وبعض الكتب التي فيها مخالفة صريحة لأهل السنة والجماعة كأمثال أبو حامد الغزالي وابن حزم فيقول في مجموع الفتاوى 4/66 (ولهذا كان الشيخ أبو عمرو بن الصلاح يقول فيما رأيته بخطه:( أبو حامد كثر القول فيه ومنه، فأما هذه الكتب يعني المخالفة للحق فلا يلتفت إليها وأما الرجل فيسكت عنه ويفوض أمره إلى الله) ويعقب شيخ الإسلام: ومقصوده أنه لا يذكر بسوء لأن عفو الله عن الناسي والمخطئ وتوبة المذنب تأتي على كل ذنب، وذلك من أقرب الأشياء إلى هذا وأمثاله، ولأن مغفرة الله بالحسنات منه ومن غيره وتكفيره للذنوب بالمصائب تأتي على محقق الذنوب، فلا يقدم الإنسان على انتفاء ذلك في حق معين إلا ببصيرة ولا سيما مع كثرة الإحسان والعلم الصحيح والعمل الصالح والقصد الحسن، وهو يميل إلى الفلسفة لكنه أظهرها في قالب التصوف والعبارات الإسلامية).

   وكذلك مدحه لبعض الفئات من أهل الكلام من الكلابية والكرامية والأشعرية مع ما في بدعهم من التأويل وذلك لتصديهم لما هو أشر منهم من الفرق كالمعتزلة والرافضة وكذلك لردهم على عموم الكفار والملحدين والزنادقة فيقول:(وكذلك متكلمة أهل الإثبات مثل الكلابية والكرامية والأشعرية أنما قبلوا واتبعوا واستحمدوا إلى عموم الأمة بما أثبتوه من أصول الإيمان، من إثبات الصانع وصفاته وإثبات النبوة، والرد على الكفار والمشركين وأهل الكتاب وبيان تناقض وحججهم، وكذلك استحمدوا بما ردوه على الجهمية والمعتزلة والرافضة والقدرية، من أنواع المقالات التي يخالفون فيها أهل السنة والجماعة. فحسناتهم نوعان: إما موافقة لأهل السنة والحديث، وإما الرد على من خالف أهل السنة والحديث ببيان تناقض حججهم" انظر كتاب: موقف أهل السنة والجماعة من البدع والمبتدعة للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق.

     فخلاصة الأمر: أن هذا القائد العظيم كان بحق أنموذجاً للقائد الفذ فقد جمع بين القوة والحزم مع الأخلاق الفاضلة وحب العلم وأهله وطلبه ونشره وتقديم أهله، فقد كان رحمه الله كما قال تعالى:(أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) همّه الجهاد في سبيل الله كما وصفه المؤرخين، فلم يكن يلتفت إلى نفسه فكان يقاوم مرضه مقاومة شديدة ليتمكن من الجهاد في سبيل الله، فنسأل الله أن يقيض لهذه الأمة رجالاً وقادة أمثال صلاح الدين الأيوبي ليقود الأمة نحو العزة والتمكين ويكونوا شوكة في حلوق أعداء الدين من الكفار والمنافقين وأهل الزيغ والضلال .... اللهم آمين.

العدد الثاني – مجلة بيت المقدس للدراسات

.