دراسات وتوثيقات / دراسات وبحوث
صور من بركة نبي الله عيسى عليه السلام في الأرض المباركة
صور من بركة نبي الله عيسى عليه السلام في الأرض المباركة
أيمن الشعبان
الحمدُ للهِ الذَّي خَلق فَسوَّى وقدَّر فهدى، وأَشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له في كل مخلوقٍ حكمةٌ باهرةٌ وآيةٌ ظاهرةٌ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد:
فإنَّ الله سبحانه وتعالى لحكمة ربانية بالغة يصطفي بعضَ مخلوقاتهِ على بعض، من الأزمنة والأمكنة والأفراد والأحوال، فَخَلَقَ الخلق واجتبى منهم الأنبياء، ثمَّ مِن الأنبياء الرسل، ثم اختار منهم أُولي العزم ممن ذكرهم بقوله تعالى:(وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا)[1].
مِن الأماكن التي اصطفاها الله سبحانه وتعالى، تلك الأرض الطيبة المعظمة المقدسة المباركة بيت المقدس الأرض المباركة، مَوطن ومعدن وأرض الأنبياء ومولد ونشأة ومبعث روح الله وكلمته وعبده ورسوله المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام.
مِنْ أَظهر وأَجل وأَوضح وأَعظم خَصائصِ تلك الأرض اتصافها واشتهارها بالبركة، التي أصبحت لها عنوانًا واسمًا وشعارًا ووصفًا وصورةً ورسمًا، لا تنفك عنها وملاصقةٌ لذكرها ومقترنة معها، فقد جمعت تلك الأرض كل أنواع البركة؛ المكانية والزمانية.. الحسية والمعنوية.. الدينية والدنيوية.
قال سبحانه وتعالى:(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )[2]، قال محمد بن شهاب الدِّين: "فلو لم يكن لبيت المقدس من الفضيلة غير هذه الآية لكانت كافية، وبجميع البركات وافية؛ لأنه إذا بورك حوله فالبركة فيه مضاعفة"[3].
مما اختصَّ اللهُ سبحانه به نبيه ورسوله عيسى عليه السلام، استغراق البركة له فكأنه أحاط بها وأحاطت به من شِدَّة الارتباط والالتصاق، ولنتأمل ذلك الوصف الرائع والمعنى الجميل ذو الدلالة المتنوعة الشمولية لحقيقة البركة لنبي الله عيسى عليه السلام، قال تعالى عنه:(وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ)[4].
فهو مباركٌ في نفسهِ وعِلمهِ وعَمله ووقتهِ وأحوالهِ، ومباركٌ في دعوتهِ وأثرهِ وثمارهِ وعبادتهِ وصدقه وإخلاصه، فقد أفاض الله عليه الخيرات والبركات، فكان مع الله قلبًا وقالبًا في حِلِّه وترحاله، وفي يقظته ونومه، فهو كثير الخير والنفع في دعوته وجهاده من خِلال صدقه والمعجزات التي أيده الله بها، وهمته العالية في دعوة الناس للتوحيد.
البركة: هي الزيادة والنماء وكثرة الخير وهناء العيش والكفاية في كل شيء، وهي ثبوت الخير الإلهي في الشيء؛ فإنها إذا حَلَّت في قليل كثرته، وإذا حَلَّت في كثير نفع، ومن أعظم ثمار البركة في الأمور كلها استعمالها في طاعة الله عز وجل، وهي دوام الخير واستقراره وثباته.
البركة في الغالب تكون مقيدة بزمان أو مكان أو حَال أو عَرَضٍ متعلقٍ بفرد، كالبركة في الوقت والمال والذرية والعلم والعمل وهكذا، ولكن عيسى عليه السلام تميز بشموليةٍ عجيبةٍ واستغراقٍ منقطع النظير، في بركتهِ قبل ولادته وعند ولادتهِ وفي مهدهِ وبعثته ورفعه ونزوله بل الأعجب من ذلك تمتد هذه البركة لتشمل الدار الآخرة!
حتى تتضح لنا روائع ولطائف ومعالم تلك البركة لعيسى عليه السلام، نتعرف إجمالاً على معاني قوله تعالى:(وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ)[5]، وأقوال أهل التفسير الشاملة المتنوعة فيها:
- قال الطبري رحمه الله: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: وجعلني نَفاعًا. وقال آخرون: كانت بركته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقال آخرون معنى ذلك: جعلني مُعلم الخير[6].
- (وجعلني مباركًا) أي: ذا بركات ومنافع في الدِّين والدعاء إليه ومعلمًا له[7].
- جَعَلَنِي فِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ غَالِبًا مُفْلِحًا مُنْجِحًا لأَنِّي مَا دُمْتُ أَبْقَى فِي الدُّنْيَا، أَكُونُ عَلَى الْغَيْرِ مُسْتَعْلِيًا بِالْحُجَّةِ فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الْمَعْلُومُ يُكْرِمُنِي اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّفْعِ إِلَى السَّمَاءِ[8].
- مُبَارَكٌ عَلَى النَّاسِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ بِسَبَبِ دِعَائِيِّ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءُ الأَكْمَهِ وَالأَبْرَصِ[9].
- أي: نافعًا للخلق يرشدهم إلى أمور دينهم، ويمنعهم من ارتكاب الزّلّة التي فيها هلاكهم، ومن استضاء بنوره نجا. فهذه بركاته التي كانت تصل إلى الخلق. ومن بركاته إغاثة الملهوف، وإعانة الضعيف، ونصرة المظلوم، ومواساة الفقير، وإرشاد الضال، والنصيحة للخلق، وكفّ الأذى عنهم وحمل الأذى منهم[10].
- قِيلَ: مُبَارَكًا عَلَى مَنْ تَبِعَنِي[11].
- عَن مُجَاهِد (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا) قَالَ: هاديًا مهديًا[12].
- كثير الخير حيثما وجدت. أُبلِّغ وحي ربي لتقوم النفوس وكبح الشهوات والأخذ بما هو مناط السعادات[13].
- وقيل: معنى، " مباركاً " ثابت على دين الله وطاعته أينما كنت لأن أصل البركة الثبات على الشيء، مأخوذ من بروك البعير[14].
- جَعَلَنِي مُبارَكاً نَفَّاعًا كثير الخير والبركة لأهل الصلاح من البرية أَيْنَ ما كُنْتُ وحيثما توطنت وجلست معهم يصل خيرى ونفعي إليهم[15].
- (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كنت) يَقُول: جعلني معلما مؤدبا[16].
من خلال هذه المعاني الرائعة الجميلة المتنوعة المتعددة لعيسى عليه السلام، ازدانت تلك الأرض بركة على بركة، أضف لذلك أنه آخر أنبياء بني إسرائيل ومن أولي العزم من الرسل، والعجيب في كل ذلك أن عيسى بُعث بالنبوة وعمره ثلاثون سنة، ورفع على الصحيح وله من العمر ثلاثة وثلاثون سنة! بمعنى أن عمره من البعثة إلى الرفع ثلاث سنين فقط!
ولنتأمل سويًّا روائع البركة قبيل ولادة عيسى عليه السلام مرورًا بحياته المليئة بالمعجزات والبركات، ثم رفعه ثم نزوله آخر الزمان وبعدها، نجد العجب العجاب كما يأتي مختصرًا.
عيسى عليه السلام من أسرة مباركة:
بالنظر لأسرة عيسى عليه السلام نجد أن جده الرجل الصالح عمران وجدته امرأة عمران (حنة بنت فاقوذا)، التي نذرت ما في بطنها خالصًا محررًا لوجه الله للقيام بخدمة ورعاية بيت المقدس، وكانت تتمناه ذكرًا ليتسنى له ذلك، ولكن لما صدقت تقبل الله منها نذرها وأنجبت سيدة نساء العالمين مريم عليها السلام.
زكريا عليه السلام زوج خالة عيسى عليه السلام، بمعنى أنه ابن خالة يحيى عليه السلام السيد الحصور النقي التقي الزكي الذي آتاه الله الحكم صبيًا، فهما أسرتان كريمتان بينهما مصاهرة اصطفاهما الله سبحانه وتعالى كما أخبر:( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ )[17].
من بركة عيسى عليه السلام: أن أمه مريم الطاهرة العفيفة القانتة الصادقة الصديقة الخاشعة المخبتة المخلصة العابدة العذراء البتول، سيدة نساء العالمين أعطاها الله كرامات في محرابها وأن الله تقبلها بقبولٍ حسنٍ ويسر لها كفالة نبي من صالحي بني إسرائيل هو زكريا عليه السلام، بعد أن اختصموا في رعايتها وكفالتها:(فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[18]، فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف.
ومن بركة عيسى عليه السلام: أن روح القدس جبريل عليه السلام بشر أمه به بينما هي بعيدة عن قومها متعبدة لله في محرابها، (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا)[19]، هو الطاهر من الذنوب، الذي ينمو على النزاهة والعفة، وقيل المراد بالزكي النبي[20].
من روائع البركة: أمر رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بذكر قصة مريم وولادة عيسى عليهما السلام[21]، ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا )[22].
بركة عيسى عليه السلام بعد ولادته:
من بركة عيسى عليه السلام الجلية الواضحة، تلك الولادة المعجزة المبهرة التي لم تشهد لها البشرية مثيلا، إذ خلق الله سبحانه آدم من تراب بلا أب ولا أم دون أن يشهد خلقه أحدا من البشرية، ثم خلق حواء من أب دون أم، وخلق سائر الخلق من أب وأم، وعيسى عليه السلام من أم بلا أب في أعجب ولادة عبر التاريخ يشهدها الناس.
لمَّا استشعرت مريم حملها ابتعدت بجنينها مخافة اللائمة، وعند اقتراب لحظات الولادة تمنت الموت لصعوبة الموقف، فهي وحيدة وبعيدة عن أهلها وتقاسي آلام انعدام الطعام والشراب والرعاية، والأصعب من ذلك كله ألم الكلام الذي سيصدر من قومها إزاء هذا الحدث الكبير!
من روائع بركة عيسى عليه السلام التي تميز بها هو وأمه فقط دون سائر البشر، أنه نجا عند ولادته من نخسة الشيطان، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلا نَخَسَهُ الشَّيْطَانُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَانِ، إِلا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ» ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)[23].
في تلك اللحظات العصيبة ألجأها مخاض الولادة إلى جذع نخلة يابس، وحصلت الولادة المعجزة في تلك الأرض المباركة، لتحصل معجزة أخرى من روائع بركات ذلك النبي الزكي إذ أنطقه الله سبحانه وتعالى بتلك الكلمات العجيبة، (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا )[24]، أي نهرًا تشربين منه فخفف عنها انعدام الماء، (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا)[25]، أي: طريًّا لذيذًا نافعًا[26]، فخفَّف عنها انعدام الطعام.
ثم أرشدها للطعام والشراب كي تَقر عينها وتطيب نفسها ويهنأ قلبها، ومن بركته وجَّهها وأرشدها لمواجهة قومها بثقةٍ عاليةٍ ويقينٍ كبيرٍ وتوكل منقطع النظير، ( فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا )[27].
وتستمر بركة ذلك الرضيع في مهده لينطق مرَّة أخرى أمام قومها بمعجزة عظيمة وآية مبهرةً على ثرى تلك الأرض الطيبة المباركة مُبرئًا أمه، ومقيمًا الحجة بالتَّوحيد على قومه بالرَّد عليهم أنَّ الله واحدٌ فردٌ صمدٌ لم يلد ولم يولد، ليتكلم بتلك الكلمات التي فيها الدروس والعبر والفوائد والدرر لتستغرق أنواع البركات وجميع الخيرات(قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا* وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)[28].
من روائع بركة عيسى عليه السلام في حياته:
من روائع بركته عليه السلام: قال ابن عاشور رحمه الله في تفسيره: وَالْمُبَارَكُ: الَّذِي تُقَارِنُ الْبَرَكَةُ أَحْوَالَهُ فِي أَعْمَالِهِ وَمُحَاوَرَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُبَارَكَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ بَارَكَهُ، إِذَا جَعَلَهُ ذَا بَرَكَةٍ، أَوْ مِنْ بَارَكَ فِيهِ، إِذَا جَعَلَ الْبَرَكَةَ مَعَهُ.
وَالْبَرَكَةُ: الْخَيْرُ وَالْيُمْنُ.
ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ بِرَحْمَةٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ لِيُحِلَّ لَهُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِمْ وَلِيَدْعُوَهُمْ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ بَعْدَ أَنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَغَيَّرُوا مِنْ دِينِهِمْ، فَهَذِهِ أَعْظَمُ بَرَكَةٍ تُقَارِنُهُ. وَمِنْ بَرَكَتِهِ أَنْ جَعَلَ اللَّهُ حُلُولَهُ فِي الْمَكَانِ سَبَبًا لِخَيْرِ أَهْلِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ مِنْ خِصْبِهَا وَاهْتِدَاءِ أَهْلِهَا وَتَوْفِيقِهِمْ إِلَى الْخَيْرِ، وَلِذَلِكَ كَانَ إِذَا لَقِيَهُ الْجَهَلَةُ وَالْقُسَاةُ وَالْمُفْسِدُونَ انْقَلَبُوا صَالِحِينَ وَانْفَتَحَتْ قُلُوبُهُمْ لِلْإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ، وَلِذَلِكَ تَرَى أَكْثَرَ الْحَوَارِيِّينَ كَانُوا مِنْ عَامَّةِ الْأُمِّيِّينَ مِنْ صَيَّادِينَ وَعَشَّارِينَ فَصَارُوا دُعَاةَ هَدًى وَفَاضَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِالْحِكْمَةِ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ كَوْنَهُ مُبَارَكًا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ نَبِيئًا عُمُومًا وَجْهِيًّا، فَلَمْ يَكُنْ فِي قَوْله وَجَعَلَنِي نبيئا غُنْيَةٌ عَنْ قَوْلِهِ وَجَعَلَنِي مُبارَكاً[29].
كان عيسى - عليه السلام - واضح البركات: كان يخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وكان يبرئ الأكمه والأبرص -بإذن اللَّه- ويحيي الموتى، ويُنادي الموتى فيخرجون من قبورهم وأنزل اللَّه تعالى على يديه المائدة من السماء، على أن تكون عيدًا لأولهم وآخرهم، فأي بركة أعظم يُعطاه مبارك[30]؟!
ومن روائع بركته عليه السلام أنه النبي الوحيد الذي ذُكر في القرآن ببشارته على ثرى تلك الأرض المباركة ببعثة النبي عليه الصلاة والسلام، مع أنه ما من نبي بعث بعد إبراهيم عليه السلام إلا بشر بقدوم النبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى عن لسان عيسى عليه السلام (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ )[31].
قال عليه الصلاة والسلام: أنا دعوة أبي إبراهيم، وكان آخر من بُشِّر بي عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام[32].
ومن بركات عيسى عليه السلام كثرة معجزاته المبهرة، التي أيده الله بها وكانت عونا له على دعوته، من ذلك:
معجزات إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله:
فإنَّ الله سبحانه أرسل عيسى عليه السلام في قوم يفاخرون بمهاراتهم بالطب، بل وصلوا مرحلة متقدمة في التفوق الطبي بحسب زمانهم، فأجرى الله على يديه معجزات مبهرات تشاكل وتماثل تلك المهارة ومن جنس ما برعوا به، لا يستطيع الطب بالغا ما بلغ أن يصل إليها.
قال سبحانه:(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ . وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[33].
1- نفخ الروح في الطير الذي أعده وشكله من الطين، فينفخ فيه فيكون طيرًا حقيقيًا يطير بجناحيه بإذن الله، وهذه معجزة فوق طاقة البشر.
2- أنه يمسح الأكمه فيبرئه بإذن الله، والأكمه هو الذي وُلد أعمى، ما رأى النور في حياته.
3- أنه يمسح على الأبرص فيشفيه بإذن الله, والبرص من أعقد الأمراض التي تستعصي على الطب.
4- أنه يُحيي الموتى بإذن الله, بعضهم قال: بالنداء, وبعضهم قال: بالنفث.
5- أنه يُنبئ الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم, وهذا نوعٌ من الاطّلاع على الأشياء المحجوبة والبعيدة, ونفوذ العلم بها إلى ما وراء الحجب مستحيل.
6- أن الله سبحانه كفّ بني إسرائيل عنه حينما أرادوا قتله, وألقى شبهه على من دلّ على مكانه أو أحد تلامذته، ثم رفع عيسى إليه، قال تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ)[34].
قال السعدي رحمه الله: وأيُّ: آية أعظم من جعل الجماد حيوانًا، وإبراء ذوي العاهات التي لا قدرة للأطباء في معالجتها، وإحياء الموتى، والإخبار بالأمور الغيبية، فكل واحدة من هذه الأمور آية عظيمة بمفردها، فكيف بها إذا اجتمعت وصدق بعضها بعضًا؟ فإنها موجبة للإيقان وداعية للإيمان[35].
معجزة المائدة:
طلب الحواريون من عيسى عليه السلام أن يُنزل الله عليهم مائدة من السماء ليأكلوا منها, ولتطمئن قلوبهم بالإيمان فيثبتوا عليه, فدعا عيسى ربه فأنزل عليهم المائدة التي طلبوها فكانت معجزة كبيرة له.
قال تعالى:(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ* إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ )[36].
نزول تلك المائدة العجيبة بثمار وأطعمة متنوعة من الجنة، لبركات عظيمة لعيسى عليه السلام، وقد ذكر البغوي رحمه الله في تفسيره بعض الآثار لطعام تلك المائدة من ذلك[37]:
قَالَ كَعْبُ الأَحْبَارِ: نَزَلَتْ مَائِدَةٌ مَنْكُوسَةٌ تَطِيرُ بِهَا الْمَلائِكَةُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، عَلَيْهَا كُلُّ الطَّعَامِ إِلّا اللَّحْمَ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أُنْزِلَ عَلَى الْمَائِدَةِ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ.
قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ عَلَيْهَا ثَمَرٌ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ.
وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ سَمَكَةٌ فِيهَا طَعْمُ كُلِّ شَيْءٍ.
من بركات عيسى عليه السلام نزول الإنجيل متمما للتوراة:
الإنجيل كتاب عظيم متمم للتوراة، أنزله الله على عيسى عليه السلام فيه هدى ونور، ورد ذكره في القرآن اثنا عشر مرة.
ويغلب عليه الحِكَم والأمثال مع ما فيه من أحكام، وجاء مصدقًا لما في الحق من التوراة ومبينًا المحرف فيها.
قال تعالى:(وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ )[38].
كثرة معاني لقب عيسى عليه السلام بالمسيح:
اشتهر عيسى عليه السلام بلقب (المسيح)، والذي ذكر في عدة مواضع من القرآن، وكلمة " المسيح" لها دلالات ومعانٍ كثيرة من ذلك:
1- كثير التنقل من بلد إلى آخر، يسيح في الأرض ليس له مكان يستقر به، من شدة دعوته وحرصه على هداية الناس.
2- الذي يمسح الناس فيشفيهم، لما أعطاه الله من معجزات وآيات مبهرات، فيأتي لصاحب العاهة كالأكمه والأبرص والميت، فيمسح على هؤلاء فيقومون وكأنه لم يكن فيهم شيء.
3- الذي فيه مَسحةٌ من جمال، وقد وصفه عليه الصلاة والسلام بأنه أبيض مشرب بالحمرة، لا هو أسمر ولا أبرص وإنما بياض جميل، ومن شِدَّة وضاءته وحسنه (كأنما خرج من ديماس) أي حمام.
4- الممسوح الأخمُص من القدم، أي أن قَدمه مخموصة قطعة واحدة ليس فيها التجويف الداخلي.
من روائع بركة عيسى عليه السلام بعد نزوله:
بركة عيسى عليه السلام بركة شمولية مترامية الأطراف متنوعة المجالات متعددة الجوانب، ومن بركاته استمرار حياته إلى الآن في السماء، لأنَّ الله رفعه بروحه وجسده ولم يمت حتى الآن، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام الصادق المصدوق بنزول عيسى آخر الزمان، بل جَعل نزوله من علاماتِ ومقدماتِ السَّاعة الكبرى.
أخرج الإمام أحمد في مسنده[39] وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة[40] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاتٍ: دِينُهُمْ وَاحِدٌ، وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ نَازِلٌ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، سَبْطٌ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ، بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْنِ، فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيُعَطِّلُ الْمِلَلَ، حَتَّى تَهْلِكَ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلُ كُلُّهَا غَيْرَ الإِسْلامِ، وَيُهْلِكُ اللهُ فِي زَمَانِهِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ الْكَذَّابَ، وَتَقَعُ الأَمَنَةُ فِي الأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الإِبِلُ مَعَ الأُسْدِ جَمِيعًا، وَالنُّمُورُ مَعَ الْبَقَرِ، وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ، وَيَلْعَبَ الصِّبْيَانُ وَالْغِلْمَانُ بِالْحَيَّاتِ، لا يَضُرُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَيَمْكُثُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّيَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَدْفِنُونَهُ".
وفي رواية عند البخاري[41] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ المَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: " وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا).
وفي رواية عند مسلم[42]: "ولَتُترَكَنَّ القِلاصُ فلا يُسعَى عليها ، ولَتَذْهَبَنَّ الشَّحناءُ والتَّباغُضُ والتَّحاسُدُ . ولَيُدعَوُنَّ ( ولَيَدعُوَنَّ ) إلى المالِ فلا يَقبَلُه أحدٌ".
وفي صحيح الجامع[43] للألباني قال عليه الصلاة والسلام:" طوبى لعيش بعد المسيح يؤذن للسماء في القطر ويؤذن للأرض في النبات حتى لو بذرت حبك على الصفا لنبت وحتى يمرّ الرَّجل على الأسد فلا يضره ويطأ على الحية فلا تضره ولا تشاح ولا تحاسد ولا تباغض".
وهنا العديد من الآثار والثمار والبركات نجملها باختصار:
1- عيسى عليه السلام أقرب نبي لنبينا عليه الصلاة والسلام.
2- فيكسر الصليب: أي إبطال النصرانية والحكم بشريعة الإسلام.
3- ويقتل الخنزير: فيحرم اقتناءه وأكله.
4- وَيُعَطِّلُ الْمِلَلَ: بهلاك جميع الملل والديانات فلا تبقى إلا ملَّة الإسلام دينًا قيمًا.
5- القضاء على عنوان الضلال ورأس الكفر المسيح الدجال.
6- يعم الأمن والأمان في ربوع الأرض، يقول عليه الصلاة والسلام:" طُوبَى لعيشٍ بعْدَ المسيحِ"[44].
7- لا تجد فقيرًا محتاجًا، إذ يفيض المال حتى لا يقبله أحد.
8- السَّجْدَةُ الوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ تَكْثُرُ رَغْبَتُهُمْ فِي الصَّلَاةِ وَسَائِرِ الطَّاعَاتِ لقصر آمالهم وعلمهم بِقُرْبِ الْقِيَامَةِ وَقِلَّةِ رَغْبَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَعْنَى الْحَدِيثِ[45].
9- يغلب على الناس الزهد في الدنيا وقصر الأمل، "ولَتُترَكَنَّ القِلاصُ فلا يُسعَى عليها"، فَلا يسْعَى عَلَيْهَا أَي يزهد فِيهَا وَلا يرغب فِي اقتنائها وَلا يعتني بهَا لِكَثْرَة الأَمْوَال وَقلة الآمال[46].
10- ذهاب العداوة والشحناء والضغائن والبغضاء بين الناس.
11- السماء تمطر مطرًا كثيرًا نافعًا.
12- الأرض جميعها تصبح صالحة للنبات والزراعة، " حتى لو بذرت حبك على الصفا لنبت" أي الحجر الأملس!
من بركته القضاء على عنوان الفساد يأجوج ومأجوج:
من بركات عيسى عليه السلام في آخر الزمان، القضاء على عنوان الفساد يأجوج ومأجوج في فلسطين، بعد القضاء على عنوان الضلال والباطل، كما في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه الطويل في صحيح مسلم وجاء فيه: "فيطلبه -أي عيسى عليه السلام- حتى يدركَه ببابِ لُدَّ. فيقتله -أي المسيح الدجال- ، ثم يأتي عيسى ابنَ مريمَ قومٌ قد عصمهم اللهُ منه. فيمسح عن وجوهِهم ويحدثُهم بدرجاتِهم في الجنةِ. فبينما هو كذلك إذ أوحى اللهُ إلى عيسى: إني قد أخرجتُ عبادًا لي ، لا يدَانِ لأحدٍ بقتالهم . فحرِّزْ عبادي إلى الطور. ويبعث اللهُ يأجوجَ ومأجوجَ. وهم من كلِّ حدَبٍ ينسِلونَ. فيمرُّ أوائلُهم على بحيرةِ طَبرِيَّةَ. فيشربون ما فيها . ويمرُّ آخرُهم فيقولون: لقد كان بهذه، مرةً، ماءً. ويحصر نبيُّ اللهِ عيسى وأصحابُه. حتى يكون رأسُ الثَّورِ لأحدِهم خيرًا من مائةِ دينارٍ لأحدِكم اليومَ. فيرغب نبيُّ اللهِ عيسى وأصحابُه. فيُرسِلُ اللهُ عليهم النَّغَفَ في رقابِهم. فيصبحون فرْسَى كموتِ نفسٍ واحدةٍ. ثم يهبط نبيُّ اللهِ عيسى وأصحابُه إلى الأرضِ. فلا يجِدون في الأرضِ موضعَ شبرٍ إلا ملأه زَهمُهم ونتْنُهم . فيرغب نبيُّ اللهِ عيسى وأصحابُه إلى اللهِ. فيرسل اللهُ طيرًا كأعناقِ البُختِ . فتحملُهم فتطرحهم حيث شاء اللهُ. ثم يرسل اللهُ مطرًا لا يَكِنُّ منه بيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٌ . فيغسل الأرضَ حتى يتركها كالزَّلفَةِ. ثم يقال للأرض : أَنبِتي ثمرَك ، ورُدِّي بركتَك . فيومئذٍ تأكل العصابةُ من الرُّمَّانةِ . ويستظِلُّون بقِحْفِها . ويبارك في الرَّسْلِ . حتى أنَّ اللقحةَ من الإبلِ لتكفي الفِئامَ من الناس . واللَّقحةُ من البقرِ لتكفي القبيلةَ من الناس . والّلقحةُ من الغنمِ لتكفي الفَخِذَ من الناس . فبينما هم كذلك إذ بعث اللهُ ريحًا طيِّبَةً . فتأخذُهم تحت آباطِهم . فتقبض رُوحَ كلِّ مؤمنٍ وكلِّ مسلمٍ . ويبقى شِرارُ الناسِ ، يتهارَجون فيها تهارُجَ الحُمُرِ ، فعليهم تقوم الساعة" .
من بركات عيسى عليه السلام يوم القيامة:
يوم القيامة يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، وتدنو الشمس من الخلائق فيصيبهم الغم والكرب، فيبحثون عمن يشفع لهم إلى ربهم ليأذن ببدء الحساب، فيأتون آدم أبو البشر فيذكر ذنبًا ثم يقول: اذهبوا إلى نوح، فيأتونه ثم يذكر ذنبا ثم يقول: اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتونه فيذكر كذباته ثم يقول: اذهبوا إلى موسى، فيأتونه ثم يذكر ذنبه ثم يقول: اذهبوا إِلَى عيسى. فَيَأْتُونَ عيسى فَيَقُولُونَ: يَا عيسى أَنْتَ رَسُولُ اللّهِ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ، وَكَلِمَةٌ مِنْهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ. فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ. أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلاَ تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ عيسى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَنْباً. نَفْسِي. نَفْسِي. اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي. اذهبوا إِلَى مُحَمَّدٍ. فَيَأْتُونّي فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللّهِ وَخَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ. وَغَفَرَ الله لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ. أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلاَ تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِداً لِرَبِّي. ثُمَّ يَفْتَحُ الله عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئاً لَمْ يَفْتَحْهُ لأَحَدٍ قَبْلِي. ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ. سَلْ تُعْطَهْ. اشْفَعْ تُشَفَّعْ.... الحديث[47].
في الحديث دلالة لطيفة لاستمرار بركة عيسى عليه السلام إلى ما بعد انقضاء الدنيا، وفي أصعب اللحظات على البشرية في انتظار الخلائق فصل القضاء، من خلال تلك المشورة العظيمة التي بسببها يأذن الله في الشفاعة وبدء الحساب.
خِتامًا: المتأمل لحياة عيسى عليه السلام يجدها حافلة بالمنجزات والبركات والخيرات، والأحداث والمواقف التاريخية المتميزة، في فترةٍ وجيزة محدودة وثمار كبيرة ومنافع عظيمة تعدت جميع الخلائق، فصلى الله عليه وعلى نبينا وسلم تسليمًا كثيرًا.
العدد (25) من سلسلة بيت المقدس للدراسات
[1] ( الأحزاب:7).
[2] (الإسراء:1).
[3] إتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى (1/95).
[4] (مريم:31).
[5] (مريم:31).
[6] تفسير الطبري (18-190-191).
[7] تفسير القرطبي (11/103).
[8] مفاتيح الغيب (21/535).
[9] مفاتيح الغيب (21/535).
[10] تفسير القشيري (2/427).
[11] تفسير البغوي (5/230).
[12] الدر المنثور (5/509).
[13] محاسن التأويل (7/93).
[14] الهداية إلى بلوغ النهاية (7/4532).
[15] الفواتح الإلهية ص498.
[16] تفسير ابن أبي زمنين (3/95).
[17] (آل عمران:33).
[18] (آل عمران:37).
[19] (مريم:19).
[20] فتح البيان (8/148).
[21] التفسير الحديث (3/146).
[22] (مريم:16).
[23] رواه مسلم برقم 2366.
[24] (مريم:24).
[25] (مريم:25).
[26] تفسير السعدي ص492.
[27] (مريم:26).
[28] (مريم:30-33).
[29] التحرير والتنوير (16/99).
[30] زهرة التفاسير (9/4634).
[31] (الصف:6).
[32] السلسلة الصحيحة برقم 1546.
[33] (المائدة:48-49).
[34] (النساء:157).
[35] تفسير السعدي ص131.
[36] (المائدة:111-115).
[37] تفسير البغوي (2/103).
[38] (المائدة:46).
[39] برقم 9632.
[40] برقم 2182.
[41] برقم 3488.
[42] برقم 243.
[43] برقم 1919.
[44] صحيح الجامع برقم 3919.
[45] شرح النووي على مسلم (2/191).
[46] شرح السيوطي على مسلم (1/179).
[47] أخرجه البخاري برقم 4712، ومسلم برقم 322.