فلسطين التاريخ / تهويد وتزوير وإجرام
تهويد القدس ... رؤية من الداخل
تهويد القدس ... رؤية من الداخل
عبد الله الحسيني
مراسل مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية في القدس
9-6-2013
منذ أيام كنت عائداً من المسجد الأقصى بعد صلاة العشاء إلى البيت ، فخرجت من باب الناظر متجهاً إلى باب العامود " بوابة دمشق " لأركب الحافلة إلى بيت حنينا ، الحي الذي أسكن فيه شمال البلدة القديمة في القدس ، وتلقائياً سأمرّ في طريق الواد في البلدة القديمة الواصل بين باب العامود وباب الناظر ، فصدمت عندما وجدت أنّ بقايا بلاط الطريق الروماني الموجود هنا منذ آلاف السنين والذي تعوّدت السير فوقه منذ طفولتي والواقع أمام مستشفى الهوسبيس النمساوي قد قلع بشكل عجيب من الأرض ، ووضع زفت خشن مكانه ، فقلت لرفيقي ألهذا الحد وصل الأمر ؟ حتى هذا ؟! قلع البلاط من الأرض ، وما زالت اليافطة التي تأرّخ لهذا البلاط ملصقة على جدار المبنى المجاور تتحدث عن قيمته التاريخية ولأي العهود المقدسية القديمة يعود ، فقال لي : " ألم تسمع أّنهم أعلنوا عن مشروع – يقصد بلدية الاحتلال – لترميم طريق الواد في البلدة القديمة ؟ " ، واليوم سمعنا أين أصبح مستقر هذه القطع التاريخية ... في متاحف ومؤسسات احتلاليّة وحتى في برلمان دولة الاحتلال ... كتحف يفتخر المغتصبون بها وهم غير مالكين ، وكلمة ترميم هنا قد يتصورها القارئ إصلاح وتجديد وحفاظ على جودة ومتانة المكان القديم ، أمّا نحن المقدسيون فنعي تماماً معنى الكلمة عندما تطلقها بلدية الاحتلال وسلطاته هنا في القدس ، معنىً آخر تماماً لعل هذه السطور تنبؤك به .
فكل هذه الإعلانات والشعارات تارةً باسم الترميم ، وتارةً باسم التجديد وغيرها من الشعارات ما هي إلّا وجوه قبيحة يحاولون بها تجميل سرطان التهويد .
نحن الآن في هذه المرحلة من حياة أمتنا، والعالم العربي والمنطقة خصوصاً، ثمّ العالم كله عموماً تشغله منذ نحو عامين ويزيد أحداث وأخبار ما اصطلح على تسميته الربيع العربي ، والذي مازالت فصوله بوجهها الدموي تحلّ بأهلنا في سوريا ، اسأل الله أن يرحمهم ويحقق لهم في رضاه آمالهم ، ويرفع عنهم ما هم فيه ، وغابت فلسطين بشكل كبير عن واجهة الإعلام منذ اندلاع أحداث الثورات والربيع العربي ، إلّا من أحداث هنا وهناك سيما العدوان الأخير على غزة وما لحقه أخيراً من تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على ترقية فلسطين لدولة مراقب غير عضو فيها ثم ذكريات النكبة والنكسة السنوية ، وفي ذلك وهذا لم تكن القدس مركز الحدث ولا في صدر صورته ، وهو ما كانت دائماً سلطات الاحتلال تحاول توفيره في كلّ وقت بل وتسعى إليه وتستغلّه بكل ضراوة حال توفره لها ، لذلك سعت طوال فترة احتلال القدس لتغييبها عن صدارة الأحداث ، وكلّما انفلتت منها الأمور وتصدرت القدس المشهد حاولت افتعال أحداث مختلفة لتبعدها عن صدارة المشهد ، والتي تزعج بحضورها عمل سلطاتها على أرض المدينة .
فبالرغم من وخامة آثار الربيع العربي على كيان الاحتلال بشكل عام والرعب الذي يخيم نتيجته على أجواء دولة الاحتلال مسؤولين ومواطنين على حدٍ سواء وشعور الترقب المستمر ، سيّما مصر على وجه الخصوص ، ثم تزعزع الاستقرار الذي وفره النظام السوري لأكثر من أربعين عاماً على حدود سوريا مع فلسطين وبقيّة الجولان المحتل ، إلّا أنّها حيدت العمل الجاري في القدس عن كلّ هذا ، ووصل الأمر إلى مراحل أجدني مستصعباً انتقاء الكلمات للوصف الذي يفي بالغرض للتعبير عن مدى التقدم والإيغال في الخطورة .
فالتهويد والخطر الذي كان يُحَذَّر منه عبر عقود ليست بالقليلة ، قد تمادى وأصبح يتفشى وينتشر بشكل لا يمكن تصوّره ومجاراته كورم سبق مهارة الأطباء ويكاد يعييها ...
حتى إنّك إن لم تمر من شارع لأيام قليلة – لاحظ هنا أقول أياماً – ثمّ عبرته مجدداً وجدت حدثاً جسيماً قد حصل أو تغييراً جذرياً للمكان ، فما كان يحتاج لسنوات من مشاريع التهويد حتى يتم ويتخذ القرار بالإقدام عليه ، أصبحنا نراه الآن يتم في أيام أو أسابيع قليلة ، وما كان يُستر عن الناظرين ويُعمل خفيةً وسراً ، أصبح الآن على الملأ دون مراوغة أو خجل أو ساتر أو حجاب ، وما كان يجلب المؤسسات الدولية والأثرية والجمعيات الحقوقية وغيره من أحداثٍ في السابق والإعلاميين ليعترضوا عليه ويضج العالم به ، يفعل الآن أضعافه دون أن نسمع أدنى صوتٍ لمعترض أو مدافع ، إلّا ممن خلت أيديهم من الوسيلة من بعض أبناء المكان ، وأجد المكان هنا أضيق من حصر الأحداث لكثرتها وجسامتها ، غير أنّي سأحاول أخذ أمثلة تقرّب من الواقع ، فلعل المثال يوضح المقال :
فمثلاً : كانت تثور الضجة في الأمة وتترك آثارها في العالم إذا حاول صهيوني أو جماعة صهيونية دخول الأقصى ، وتحشد وسائل الإعلام وتنطلق الأصوات ، واليوم وخلال العامين الأخيرين وبالذات الأشهر الأخيرة يدخل الصهاينة المسجد الأقصى بشكل يومي وبأفواج قد يصل تعدادها العشرات ويمارسون هم وغيرهم طقوسهم الدينية ، بل وأقصى من ذلك تقرّ بلدية الاحتلال أنّ باحات المسجد الأقصى وأروقته وأجزاؤه المكشوفة كلّها ساحات بلدية ومتنزهات عامّة لا تجري عليها أي أحكام لمسجد أو قداسة دينية ، ويعربدون فيها بالأفواج بل وتدخل الشخصيات الرسمية والدينية من الصهاينة ويتجوّلون ويشرحون داخله كيف سيتم الهدم وفي أي الأجزاء بالخرائط والمخططات على الملأ حتى وصل الأمر لإحياء شعائر أعيادهم المختلفة والدعوة إليها داخل المسجد الأقصى دون أن يهمس أحدٌ ببنت شفة ، وما الاقتحام العسكري بتاريخ 5-10-2012 الغير مسبوق لقوات الاحتلال والذي ثارت حوله موجات الاستغراب لضخامته الغير مفهومة والغير مبررة والذي قيل أنه تدريب لأحداث قادمة ما هو منّا ببعيد، ويبدو أنّه كان الأول ضمن سلسة مرتبة من هذا النوع الضخم من الاقتحامات العسكرية والتي توالت في الأسابيع والأشهر المتلاحقة .
والمثل الثاني : منذ عام 1967 بل بالذات منذ عام 1969 و بعد سقوط المسجد الأقصى تحت الاحتلال بعامين ، ثم هَدم حيّ المغاربة : والهيئات الإسلامية والأثرية وغيرها من مجموعات من الحقوقيين بوتيرة متصاعدة تحذر من الحفريات وتوسعها تحت المسجد الأقصى وفي محيطه، ودولة الاحتلال توارب وتراوغ ، فساعة تنكر وساعة تتستر وساعة تبرّر بأسباب أثرية وغيرها من حجج وإخفاء ، فما كان عشر معشاره يقيم ضجة لها أوّل يُعلم ونهاية لا تعلم ، أصبح اليوم يُفعل على الملأ دون أي غطاء وتستطيع رؤيته أمام ناظريك وأنت تسير حوله وفي داخله بل وتصوّره دون أي مانع أو عناء ، وخذ جولة ابدأها غرباً من محيط حائط البراق وما كان يُعرف بحي المغاربة قبل أن يهدمه الاحتلال ، ثم جنوباً إلى سلوان وما يسمّى اليوم "مدينة داود" وأسفل منه وادي حلوة ، ثم عد شمالاً وشرقاً إلى منطقة القصور الأموية لترى بعينيك المجردتين دون أي عناء الحفر علناً وإخراج أكوام من أكياس التراب والحجارة والآثار من المنطقة ومن أسفل المسجد الأقصى ، أمّا الآن وفي هذه اللحظة وإليكم التوثيق بالصور :
ثم ادخل المسجد وبيوت جيرانه وبكميات ضخمة مهولة : انظر الانهيارات والتصدعات والشقوق على الملأ وأيضاً هذه المرّة دون أن نسمع من يهمس ببنت شفة إلّا من رحم الله من مكمّمي الأفواه من أبناء هذا المكان
ومثال ثالث : ضجت وسائل الإعلام منذ بضعة أعوام بخبر أنّ بلدية الاحتلال ستقيم متحفاً تسمّيه متحف التسامح على جزء من مقبرة مأمن الله الإسلاميّة والتي كان حُوّل معظمها إلى حديقةٍ عامّة ضخمة تعرف بحديقة الاستقلال ، وتجدر الإشارة هنا أنّ مقبرة مأمن الله هي أقدم المقابر الإسلامية في القدس وأكبرها حجماً وفيها كم ضخم من قبور سلف الأمّة وعلمائها و أئمتها وعظمائها ومن أبناء المدينة الذين دفنوا في المقبرة عبر العصور، وأنّ مساحتها الأصلية ما يزيد على 200 دونم لم يبق منها بعد سلبها للحدائق والشوارع والفنادق والمتاجر إلّا قرابة عشر دونمات وهذه أيضاً والمكتظة بالقبور التي دفن فيها أهل القدس حتى عام 1948 عندما احتل غرب المدينة والذي تقع فيه المقبرة ومنعوا من الدفن فيها ، فهذا الجزء المتبقي هو الذي تقام عليه الآن مشاريع التهويد الحالية للمقبرة ، فعندما اقتطعت كما اسلفت بلدية الاحتلال جزءاً ليس بالقليل مما تبقى من المقبرة قبل بضعة أعوام لإنشاء ما سموه متحف التسامح ، ضجت وسائل الإعلام وغيرها من المؤسسات المعنية والإسلامية ، فتوقف العمل واكتفي بالحفاظ على جدار معدني حاجز حول المنطقة المقتطعة يحجبها عن بقية المقبرة ، واليوم ومنذ أشهر الحفر في المكان على أشدّه ، وبحسب شهود من العاملين هناك والأثريين استخرجت عشرات الهياكل العظمية من القبور ، ليس هذا فقط بل افتتح على جزء آخر من المقبرة مشروعين جديدين عملاقين بهدف إقامة دارٍ للقضاء العالي فوق المقبرة وبالمثل انتشلت عشرات الهياكل العظمية ورفات الموتى المسلمين المدفونين وحفر حوالي 20 متراً في عمق تربة المقبرة ، ولا يدرى أين ألقيت تلك الرفات والهياكل المطاردة حتى في قبورها ، ومع هذا كله والعمل جارٍ على الملأ وفي وضح النهار ووسط الطريق في مركز المدينة الحيوي ، دون أن نسمع ضجة اعتراض على الأقل هنا أيضاً ، ولا تُقدّم القدس في المشهد من هذه الجوانب في هذه الفترة أبداً ...
ومثال رابع : لتعرف أخي القارئ ما معنى تهويد ، فحتى إقفال الجدار الفاصل المحيط بالأحياء العربية من المدينة المقدسة بين العامين 2004 و 2006 وإطباقه حول المدينة وبقاء بضعة أحياء تعد على الأصابع للعرب الفلسطينيين داخل الجدار في ظل أنّ المدينة كانت كثيرة بل ممتدة الأحياء العربية المكتظة ، وبعد هذا العزل لم يعد يتوقف الأمر على الاستيطان وبناء المستوطنات الذي لا تتحدث كثير من الشخصيات الدبلوماسية العربية أو الدولية عن سواه صباح مساء ، بل إنّ آخر ما تولّدوا عنه في سرطانهم الممتد ، أن لا يُترك حيّ عربي داخل المدينة عربياً خالصاً أبداً ، فأخذوا يستشرون داخل الأحياء العربية بشتى الوسائل كالنار في الهشيم فلم يبق الآن حي عربي دون ساكنين معربدين ، بل قل سارقين صهاينة محتلين ، ولك أن تتخيل جوار هؤلاء !
ومن هذا التهويد أيضاً أنّ أحياء هذه المدينة وطرقاتها والتي عرفها التاريخ ورافقته مع قدمه وعمره منذ الآلاف منه ومرّت عليها الأمم وهي بأسمائها وصفاتها ، أصبحت اليوم تسمى بأشياء ومسميات ليس فيها إلا العجيب والغريب ، وهنا أيضاً رغم أنّ الدنيا ضجت منذ بضعة أعوام ببيت "أم كامل" ، فاليوم احتلت بيوت جيران أم كامل بل والحي – الشيخ جراح – استشرى فيه الاحتلال الاستيطاني وفي غيره من القدس ، وأصبح ينضم إلى أم كامل قائمة عوائل كثيرة صباح مساء ويحل مكانهم أورام سرطانية تهويدية في كل أحياء المدينة العربية في العامين الأخيرين بشكل جد متصاعد ، حتى إنّ آخر مخططات بلدية الاحتلال في المدينة وضمن الخطة المعروفة بعشرين عشرين (2020) تكشف أنّ نسبة الفلسطينيين الآن في المدينة قرابة 36 في المئة وأنّ الخطة ستعمل على خفض نسبتهم حتى عام 2020 إلى أقل من 12 في المئة ، وهنا أيضاً دون صوت معترض أو مدافع يُسمع !
وآخر ما طالعتنا به سلطات الاحتلال وبلديتها في المدينة وتمخضت عنه يد الإجرام التهويدي من مشاريع ، وأعظم قبحاً من أن أصفه بمثال خامس التجسيد العملي لخطة ما سموها (الحوض المقدّس) والبدء فعلياً على أرض الواقع بالحفر لبناء كنيس نور القدس كما سموه ، مباشرة وبشكل ملاصق للمسجد الأقصى وفوق المدرسة التنكزية المحتلة ، ومشروع عربات الكوابل الهوائية ، والتي تنطلق من جبل الزيتون إلى جوار حائط البراق ، والتي ستكون جاهزة للعمل في نهاية عام 2015 كما أعلنت البلدية ذلك ، حيث قالت وبشكل مباشر في إعلان المشروع الترويجي للجمهور : " الآن أصبح بإمكانك الوصول بشكل مباشر وسريع إلى حائط البراق (المبكى) كما يسمونه ، وقطع مسافة 1.6 كم دون عناء " .
كُنُس تحت الأقصى وملاصقة له ... والآن المطالبات بكلّ صراحة في برلمان دولة الاحتلال (الكنيست) بتقسيم المسجد الأقصى مكانياً بين اليهود والمسلمين ...
الأمر مريب ... مريب جداً ، حتى إنّه كما قال لي أحد الأخوة الناشطين من أبناء المدينة لم نعد نستطيع مجاراة الأحداث ولا مواكبتها لكثرتها وسرعتها على كافة الأصعدة ، ومن حاول منّا أو تكلم ، تم لجمه بطرقٍ احتلالية خبيثة .
الأحداث متسارعة بدرجةٍ لم يعد ابن المدينة معها يستطيع الإحاطة بما حصل في يوم واحد في مدينته ، وأنا لا أكتب اليوم كلماتي هذه لأمارس بها مواهبي الأدبيّة ، أو أردد نداءً قد يظنّه البعض باهتاً تكراراً لشعارٍ نادى به بعض الأفاضل منذ فترة أنّ القدس والأقصى في خطرٍ ، لا...
أنا أحدثك اليوم من داخل القدس وقد تجاوزنا هذه المراحل كثيراً ووصلنا إلى نقطةٍ فارقةٍ أصبحت أصعب من الوصف كما أسلفت وتحتاج منّا إلى عمل يتوافق مع هذه الدرجة من حدة الخطر وعمق الكارثة الواقعة ، ولا أقل من أن نبدأ قبل كل شيء من العمل بكل ما أوتينا من قوة لنزع البساط من تحت أقدام المحتل ، وإفساد بيئة التكتيم الإعلامي المفروض على القدس وواقعها ، وإثارة الضجة المناسبة إعلامياً لفداحة الحاصل على أرض الواقع ، لكن لا أقصد هنا حملة محدودة الأثر وقصيرة الأمد ، إنّما منهجاً كاملاً لسياسة مستمرة ونهج متواصل من التغطية الإعلامية المحمومة وبكافة وسائل الإعلام المتنوعة والواسعة في يومنا هذا لكل جوانب الواقع في المدينة ، فنحن نعيش في لحظة من الزمان يمكن فيها نشر الأخبار ومتابعتها بأقل الوسائل ، وما نحن ببعيدين من ثورات الربيع العربي التي كان اندلاعها على شبكات التواصل الاجتماعي قبل الشارع ، ونحن نرى اليوم كيف أنّ خبراً في أقصى الأرض يبلغ أقصاها في سرعةٍ ما أمكن تصوّرها سابقاً لعظم ما توصلت إليه الإنسانية من طفرة بالغة في التواصل الإعلامي والمعلوماتي ، لذلك نحن ما عدمنا الوسيلة لكن ما نعدمه أو نفتقر إليه هو عمل منهجي مخطط له منظم استمراري ليس بردات فعل محدودة الأثر والزمان ، وما عدونا منّا ببعيد ، حيث سيطر منذ زمن ليس بالقليل عبر لوبياته المنتشرة في الغرب والعالم والولايات المتحدة على وجه الخصوص ، سيطر على أقوى الأصوات الإعلاميّة في العالم واستطاع التحكم في عقل المواطن الغربي في معلوماته عن فلسطين لردح ليس بالقصير وتغييب الحقيقية عنه ، وكيف أنّ بضعة وسائل إعلامية أصبحت تصل اليوم للعالم من قلب العالم العربي ، على قلة الجاد منها ، إلا أنّها أحدثت أثراً عند شريحة من الغربيين وغيرهم في تغيّر إدراكهم للواقع في فلسطين والمنطقة ، حتى رأينا جماعاتٍ مثل المتظاهرين في إسبانيا والولايات المتحدة يقتضون ويتأثرون في احتجاجاتهم الأخيرة على حكوماتهم بالثورات العربية ، فكيف لو انبرى منّا من يأخذ على عاتقه بجدية قضية إبراز واقع القدس في الإعلام بالشكل المطلوب بكافة أنواعه ، أو لو انبرى من المهتمين جماعات أو وحداناً يجدُّ كل منهم فيما يجيد من الإعلام وكانت قضيته تصدير القدس في رأس المشهد الإعلامي ، وعدم السماح بتغييبها مهما كانت هناك من أحداثٍ غيرها ، وكأنّها مُسلّمة إعلامية لا مناص من وجودها دوماً ، ولا أظنّ هذا بالمعجز أو المستحيل في أمةٍ فيها من الطاقات والإمكانات والمقدرات ما يَعصى عن الإحصاء .
فصورة واحدة لرئيس الولايات المتحدة وزوجته حصدت ملايين المشاهدات عبر الفيسبوك ، وبعض صفحات الفنانين أو اللاعبين التي يُروَّجُ لها باستمرار تحصد الملايين من المعجبين والمتابعين ، فلا نعجز في عالم دخلت فيه وسائل الإعلام حتى إلى أسرّة نوم الناس عوضاً عن بيوتهم أن نحسن نشر قضايانا ونعرّف العالم بها .
وأنا هنا أركز مرةً أخرى موجهاً كلامي لكل ناشطٍ أو مهتم بواقع القدس ، سواءً كانوا أفراداً أو هيئات ، أن كفى لعمل ردود الأفعال والارتجال ، فنحن في عالم لا يحتمل على طريق النجاح إلا من أشبع أعماله تخطيطاً وعلماً ودراسة .
وبعد الإعلام أطرح السؤال الآن على كلِّ فرد أو هيئة من الأمة مهتمة بقضية القدس ، ويريدون الدعم وأداء الواجب تجاهها ، اسأله بشخصه وعينه : مَن محور الرباط والصبر والانتصار والاستمرارية للأمة في هذه البقعة المقدّسة ؟ أليس هم أبناء المدينة ؟ كيف تتوقع أن تنصر المكان دون أبنائه ؟ أو بالأحرى كيف تتوقع نصرة المكان دون أن تعلم واقع هذه الفئة الصامدة في المقدمة ، رأس الحربة المدافعة عن واحد من أقدس مقدسات الأمة ؟ أليس المقدسيون الآن منهم الثلة المرابطة في الأقصى والقدس صباح مساء ؟ والمدافعة أمام كل بلاء ؟ أيّها المهتم بنصرة القدس هل تعلم واقع هذه الفئة ؟ هل قرأت آخر الإحصاءات عنهم ؟ هل تعلم أنّ آخر الإحصاءات تفيد أنّ 75 في المئة من أهل القدس تحت خط الفقر ؟ وأنّ 84 في المئة من أطفال القدس تحت خط الفقر ؟ وأنّ المقدسي إن بقي في بيته خارج الجدار سيفقد حقوقه الصحية وإقامته داخل المدينة ؟ وأنّه إن أراد أن يسكن داخل المدينة بعد أن عزلت معظم بيوتها العربية خارج الجدار عليه أن يبحث لأشهر طويلة حتى يجد منزلاً في الأحياء القليلة المتبقية داخل الجدار ؟ وأنّه إن وجد بيتاً عليه أن يوفر مبالغ طائلةً لأجرته الشهرية والتي تتراوح بين 600 و1500 دولار أمريكي شهرياً حسب اختلاف الحي مع شح الدخل وكون دخل المواطن المقدسي من الدخول المتدنية على صعيد الدولة كلها ؟ وأنّ عليه بعد هذا كلّه أن يدفع لدولة الاحتلال ومؤسساتها المحلية من ضرائب تساوي المواطن الصهيوني أو أكثر دون أن يصل إلى دخله أبداً أو يأخذ من الخدمات ما يقابل هذه الضرائب شيئاً يوازي المواطن الصهيوني ، وأنّه إن امتلك بقعة أرض وسط هذا الزحام وأراد أن يبني بيتاً عليه أن يدفع دون مبالغة مئات الآلاف من الشواقل ثم قد لا يحصل على الترخيص ، فإن تجرّأ وبنى يدفع مخالفة بمئات الآلاف أيضاً ثم بعد هذا الدفع قد يهدم البيت أيضاً ويدفع تكاليف الهدم التي تصل عشرات الآلاف من الشواقل أو يهدمه هو بيده؟
هذا جانب بسيط مما يواجه المقدسي في حياته اليومية ، فماذا تتوقع ممن كانت حياته كذلك داخل قفص كبير أن يفعل ؟ إنّ هذا المقدسي المحوري والذي يقف سداً مانعاً في الحفاظ على هذه المدينة على الأقل ببقائه فيها وعدم استسلامه لهذه الضغوط العنيفة ورحيله يحتاج للعون كلّ العون ليبقى ، وليس عون المقدسي بكساء أو صدقةٍ رمضانية أو وجبة صائمٍ كما يظن كثيرٌ من إخواننا أهل الخير في خارج فلسطين جزاهم الله خيراً ، لا بل دعم المقدسي يحتاج أكبر من هذا بكثير ، ليستطيع الوقوف في وجه هذا الإعصار أو الطوفان سمّه كما تشاء من الضغوط اليومية الهائلة ، ليجد مسكناً ويشعر بوجود سندٍ من خلف صموده فليست القدس للمقدسيين وحدهم وليس الأقصى للمقدسين وحدهم يا أمّة الإسلام .
فمما يثير العجب كم الدعم الهائل النازل على كل صهيوني مستوطن في القدس ليمكث ويبقى ، مع أنّه المُمَكن له المحمي بدولة وجيش ومال واقتصاد ، وحجم التجاهل المريب الذي يرزح فيه المقدسي مع أنّه بقيّة الأمّة في الدفاع عن أقصاها ومسراها .
هذه لمحة لناظر من قلب المكان في آخر وجوه التهويد التي تلطخ إسلامية المدينة وعروبتها وتتفاقم يوماً بعد يوم بشكل ورمٍ يكاد يقلب المكان مكاناً آخر قد يصعب عليك أن تصفه يوماً أنّه ثالث بقاع الإسلام قداسة .
.