فلسطين التاريخ / تهويد وتزوير وإجرام

مشاهد قاتمة في مسح الذاكرة !

 

فيلم "يا قدس"

 

مشاهد قاتمة  في مسح الذاكرة !

 

بمشاركة كل من فرنسا واليونان وبريطانيا وإيطاليا والكيان الصهيوني، وبتكلفة تعدت 25 مليون دولار تم إنتاج فيلم بعنوان: "يا قدس" جرى تصويره في جزيرة "رودس" اليونانية ، حيث أقيمت ديكورات كاملة لمدينة القدس.

جاءت قصة الفيلم من كتاب صدر عام 1972م بعنوان "يا قدس" لمؤلفين اشتهرا بثنائياتهما وهما "دومينيك لابيير" و "لاري كولنز" ، وفي صفحاته الـ600 حطمت مبيعاته رقم الـ30 مليون نسخة ولُقب بأفضل الكتب مبيعاً.

وجاء المخرج الفرنسي " إيلي شوراكي " المعروف بتحيزه لوجهة النظر اليهودية والدفاع عن الكيان الغاصب في فلسطين ... وأخرج مادة الكتاب لتكون فلماً سينمائياً بعنوان "يا قدس" ، يدور موضوعه حول تأسيس الدولة العبرية في مايو 1948 ، وما سبق ذلك من أحداث، ليعيد صياغة الأكاذيب التي أشاعها اليهود والتي ترادفت مع قيام كيانهم على أرض فلسطين، بقالب فني مصور، برر ذلك بقوله: "أن السينما يجب أن تكون في خدمة التاريخ"!!  التاريخ الذي يروج لما أسماه معجزة التنظيم الرائع للحركة الصهيونية وإرادة شعب مستعد لإنقاذ أرضه!! وقدم لها الكثير من التضحيات، وعانى من أجلها الكثير ممن حوله من العرب وأهل فلسطين. ليرسخ في ذهن المشاهد لهذا الفيلم أن اليهود كما كانوا ضحية في السابق أيام النازية، مازالت معاناتهم وصراعهم للعيش بأمن وسلام!!!

 لوبي فرنسي يهودي

وصف النقاد الفيلم الذي بدأ عرضه في فرنسا والعديد من الدول الأوروبية بأنه نتاج جهود اللوبي الفرنسي المؤيد للكيان اليهودي، وأنه حلقة من قافلة الأفلام التي تروج للاحتلال وتبرر ممارساته مهما كانت وحشيتها، حيث ركز على حرب 1948م وأعد مشاهدها ضمن إطار يعيد ترتيب الوقائع، بما يخدم الوجود اليهودي على أرض فلسطين، َورَسم صورة إيجابية للدولة العبرية.  

إسطورة وهمية !!

عمل المخرج "إيلي شوراكي" بخبث ماكر بتصوير أن ما حدث في دير ياسين لم تكن مجزرة ولم تكن حقيقة!! بل أسطورة وهمية!! وأوحى للمشاهد أن كان قد حدثت أمور فردية قام بها بعض رجالات العصابات اليهودية فلا يعنى أنها بأمر قادتهم!! وتعامى هذا المخرج عن الكثير من الحقائق والتي من أبرزها:

ما جاء في  كتاب الثورة "لمناحم بيغين" يقول: "إن مذبحة دير ياسين أسهمت مع غيرها من المجازر الأخرى في تفريغ البلاد من 650 ألف عربي ... وأضاف " لولا دير ياسين لما قامت إسرائيل"!!!.

ونقل "هنري كتين" في كتابه "فلسطين في ضوء الحق والعدل" وصف جاك دي رينيه - كبير مندوبي هيئة الصليب الأحمر الدولية - حين عرض حياته للخطر، واستطاع أن يصل إلى القرية ويرى بعيني رأسه عواقب المأساة .. ومما قاله: "لقد ذبح ثلاثمائة شخص بدون أي مبرر عسكري، أو استفزاز من أي نوع كان وكانوا رجالاً متقدمين في السن ونساء وأطفالاً ورضعاً اغتيلوا بوحشية بالقنابل اليدوية والمدى وبأيدي قوات "أرجون" اليهودية ، تحت الإشراف والتوجيه الكاملين لرؤسائهم".

وتقول "روز ماري" الباحثة والصحافية البريطانية في كتابها "الفلاحون الفلسطينيون من الاقتلاع إلى الثورة": "إن مجزرة دير ياسين التي وقعت في 8 أبريل والتي قتل فيها مالا يقل عن 300 قروي قد حازت على قسط كبير من الاهتمام، وعمدت القيادة الصهيونية في البداية إلى التنصل من المجزرة وبعث "بن غوريون" رسالة اعتذار إلى الملك عبد الله وضع فيها اللوم على كاهل المجموعات الإرهابية غير الرسمية، مع أنه في الحقيقة شاركت وحدة من البالماخ في الهجوم على دير ياسين إلى جانب منظمتي الأرغون وشتيرن".

ولا شك أن المخرج اتبع طريقة اليهود ومن دار في فلكهم، الذين تصنعوا المنهج العلمي والسمة الموضوعية فيما يكتبون، وهم في الحقيقة ضربوا بعرض الحائط كل قواعد الموضوعية والأمانة فيما يكتبون أو يصورون. وها هو المخرج أضاف عملاً جديداً لتبرئة السلاح اليهودي في فلسطين من الجرم والدنس، وإظهار جنود الاحتلال بالصورة الإنسانية المثالية التي يحتذى بها.

 

الخروج من فلسطين

على الرغم من أن الكتاب الذي أخذت قصة الفيلم منه لم يتطرق لموضوع أن الفلسطينيين تركوا بيوتهم بسبب النداءات التي وجهتها إذاعات عربية وبعض القادة العرب، ولكن المخرج "إيلي شوراكي" أضاف تلك المشاهد ليؤكد أكذوبة بأن ترك الفلسطينيين لمنازلهم وأرضهم هو بمحض إرادتهم واستجابة لنداءات ومطالب عربية عبر الإذاعات للخروج من فلسطين ليتسنى تطهيرها من اليهود ورميهم في البحر!! وهي الدعاية التي أشاعها اليهود، وأنكرها المؤرخون اليهود الجدد الذين قالوا أنه لم يثبت لديهم نداء واحداً يطلب منهم الخروج، وإذا بالمخرج الفرنسي الأصل اليهودي الهوى يعيد تلك الأكاذيب بسيناريو وتمثيل وتصوير لتثبت في ذاكرة الأجيال، ويبعد عن مؤسسي دولة الاحتلال المسؤولية عما حدث من تهجير وتشريد وقتل وتجويع.

 

تزوير وتزييف

وتبنى "إيلي شوراكي" الرواية الصهيونية بأن الفلسطينيين خرجوا بمحض إرادتهم ولم يشر لا من قريب ولا بعيد إلى الخسائر اللاحقة بالمدن والقرى الفلسطينية، بل تعامى عن كل ما أقره مؤرخو اليهود الجدد بأن العصابات اليهودية قد دمرت الكثير من القرى والمدن، وقتلت الكثير من أهل فلسطين خلال فترة قيام الكيان اليهودي، وطردتهم من قراهم ومنازلهم.

وحول ذلك لخص "بني موريس" أحد ابرز المؤرخين اليهود، وهو باحث ومراسل ميداني وصحافي مسيرة قادة اليهود وأتباعهم في نشر الأكاذيب بقوله: "نحن الإسرائيليين كنا طيبين، لكننا قمنا بأفعال مشينة وبشعة كبيرة، كنا أبرياء لكننا نشرنا الكثير من الأكاذيب وإنصاف الحقائق، التي أقنعنا أنفسنا وأقنعنا العالم بها، نحن الذين ولدنا لاحقاً بعد إنشاء "الدولة" عرفنا كل الحقائق الآن بعد أن عرض علينا زعماءنا الجوانب الإيجابية فقط من تاريخ  "إسرائيل"، لكن للأسف كان ثمة فصول سوداء لم نسمع شيئاً عنها، لقد كذبوا علينا عندما اخبرونا أن عرب اللد والرملة طلبوا مغادرة بيوتهم بمحض إرادتهم، وكذبوا علينا عندما أبلغونا أن الدول العربية أرادت تدميرنا، وإننا كنا الوحيدين الذين نريد السلام طوال الوقت، وكذبوا عندما قالوا: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وكذبة الأكاذيب التي سموها الاستقلال – ويضيف بني موريس " لقد حان وقت معرفة الحقيقة، كل الحقيقة، وهذه مهمة ملقاة على عاتقنا نحن المؤرخين الجدد!!".

وأضافت روز ماري - الباحثة البريطانية – وصفاً دقيقاً لحجم تلك الأكاذيب بالقول: "لقد آذى التشهير بالفلسطينيين أكثر مما آذاهم الفقر، وأكثرها إيلاماً الاتهام بأنهم باعوا أرضهم، أو أنهم هربوا بجبن، وقد أدى الافتقار إلى تأريخ عربي صحيح لعملية الاقتلاع بالجمهور العربي إلى البقاء على جهله بما حدث فعلاً!!"

فالتاريخ وللأسف يكتبه القوي المنتصر!! ، وأما الضعيف المغلوب على أمره، لا يكتفي بأن يعيش بهزيمته وآلامه، بل عليه أن يرضى ويصدق بهذا التاريخ، ويقبل بسرد الوقائع التي وقعت أمام عينه بصور مغايرة للحقائق، انطلاقاً من المقولة "التاريخ صنع المنتصرين"!!.

ادعاءات باطلة

وهكذا أعاد المخرج في فلمه "يا قدس" إلى الذاكرة المقولات والادعاءات الباطلة بأن الصهيونية قد حققت معجزة التاريخية بانتصارهم على العرب في حرب 1948م، وإقامة "دولة إسرائيل"!! -كما دأبت الدعاية الصهيونية على القول -  وتبرئة اليهود وإظهارهم بصورة إنسانية مشرفة!!

وأعجني وصف أحدهم للمخرج الفرنسي "إيلي شوراكي" بأنه: "محارب من أجل إسرائيل" الذي عمل على تبرئة الصهيونية وإظهارها بالوجه الحسن، وكان أكثر عنصرية من اليهود أنفسهم الذين لا يجدون بأساً من تقديم اعترافات مر عليها الزمن ولم تعد تستوجب العقوبة، ففي نظر الكثير من المؤرخين اليهود وكتابهم أن كيانهم على أرض فلسطين أصبح بحكم الواقع دولة موجودة وقوية ومتفوقة ويبقى في نظرهم إيجاد الصيغة المناسبة لاستمراريتها.

·    لذا نذكر الجميع ومنهم المخرج "إيلي شوراكي" بقول المؤرخ البريطاني "أرنولد تويني": "بأن سلب أراضي فلسطين جرى في أكبر عملية نهب جماعية عرفها التاريخ و من أشد المعالم غرابة في النزاع حول فلسطين هو أن تنشأ الضرورة للتدليل على حجة العرب ودعواهم".

 

·    وبكلمة "لموشى دايان" لم أجد أكثر منها صراحة ووضوحاً قالها لليهود الذين كانوا يعارضون إقامة المغتصبات اليهودية، بما لم يعرفه بعضهم من الجيل الأصغر عمراً قائلاً: "لقد جئنا إلى هذا البلد الذي كان العرب توطنوا فيه، ونحن نبني دولة يهودية …. لقد أقيمت القرى اليهودية مكان القرى العربية. أنتم لا تعرفون حتى أسماء هذه القرى العربية وأنا لا ألومكم، لأن كتب الجغرافيا لم تعد موجودة. وليست كتب الجغرافيا هي وحدها التي لم تعد موجودة، بل القرى العربية نفسها زالت أيضاً، وما من موضع بني في هذا البلد إلا وكان أصلاً سكان عرب".

تساؤلات للإعلام العربي

وسؤالنا بعد أن ظهرت لقطات من الفيلم وانتقده كتاب وصحفيون غربيون فقط!! وما زالت وسائل إعلامنا وقنواتنا التي لا تُعَد في سكرتها لا ترد شبهة ولا تدحض أكذوبة ؟!!

أين الأموال العربية المخصصة للإعلام؟! أليست قضية القدس مركزية في صراعنا مع اليهود وأعوانهم؟! أم ارتضى ببث تلك البرامج الوثائقية التي تتبنى وجهة النظر الغربية من غير إنصاف كما شاهدنا بالأمس القريب البرامج التي تدافع عن الجدار العازل بل تبرر لكل ممارسات اليهود في فلسطين؟!

ولماذا لم يوفق إعلامنا إلى الآن بإنتاج فيلماً إعلامياً عن القدس يكون عمدة في الحقائق والوثائق؟! أين البرامج العلمية الجادة التي حاكت العقلية الغربية، ونقلت لهم قضايانا العادلة بسرد دقيق موثق للأحداث، لتقابل النتاج الضخم الذي يشوه بداية ديننا الإسلامي، ويشكك في ثوابتنا، ومكانة مقدساتنا في شرعنا وقلوبنا؟!! حقائق كثيرة غيب عنها المشاهد العربي عوضاً عن الغربي الذي نال عقله ونظره الكثير مما أنتجه ونشره  اللوبي اليهودي في الغرب!!

وأين الرؤية الإسلامية لقضية القدس والمسجد الأقصى وفلسطين أمام هذا الزخم الإعلامي بكل أشكاله؟!! وما هو نتاج مؤسساتنا الإعلامية ومؤرخينا في حفظ تأريخنا وتأريخ الأحداث بنزاهة وموضوعية؟! وأين الأقلام العربية والإسلامية في الدفاع عن حقوقنا ونقد هذا الفيلم نقداً علمياً موثق وكشف أكاذيب المخرج بلغات عدة ونشر ما يدحض تلك الشبهات التي طالما لامست أسماعنا!! أسئلة نوجهها لكل إعلامي عربي مسلم شاهد أو سيشاهد ذلك الفيلم.

عيسى القدومي

5/11/2006م 

.