القدس والأقصى / عين على الاقصى
صفحات مطوية من القضية الفلسطينية قبل قيام دولة إسرائيل (1)
بداية التوافد الجماعي لليهود على فلسطين
كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد بدأت الموجة الأولى من الهجرة اليهودية الجماعية إلى فلسطين بين عامي 1882م و1904م برعاية البارون "إدموند روتشيلد" ثم برعاية البارون "موريس دي هيرش"، وكان بعض رجال الأعمال اليهود، وفي مقدمتهم: "روتشيلد"، و"موسى مونتيفيوري" قد تزعموا في بداية القرن التاسع عشر الميلادي دعوة تهدف إلى إنشاء مستعمرات لليهود في فلسطين.
وحتى عام 1880م، وقبل ظهور الحركة الصهيونية في أوروبا لم يكن يوجد في فلسطين إلا 25 ألف يهودي من أصل سكان فلسطين وقتها، البالغ عددهم آنذاك 600 ألف نسمة، وأكثر هؤلاء اليهود كانوا وقتها من اليهود العرب، وليسوا من اليهود الأوروبيين.
وبالرغم مِن اضطهاد أوروبا لليهود في القرون الميلادية الوسطى -ضمن الاضطهادات الدينية في أوروبا وقتها- إلا أن الوجود اليهودي في فلسطين كان محدودًا جدًّا يقتصر على بضع مئات من الأشخاص وفقًا لتقديرات الرحالة الغربيين إلى الأماكن المقدسة بين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر.
وعندما اضطهد الملوك الأسبان اليهود فيمن اضطهدوهم في أواخر القرن الخامس عشر وحدثت هجرة جماعية لليهود من أسبانيا إلى خارجها اتجه نفر قليل من اليهود الأسبان إلى فلسطين، بينما نزح أكثرهم إلى بلدان أوروبا الغربية وإلى شمال إفريقية وبلاد البلقان.
ومعلوم أنه من بعد انتصار صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- على الصليبيين وإخراج المسلمين للصليبيين من الشام كان هناك جو مِن التسامح من المسلمين مع الأقليات الدينية الأخرى -بما فيهم اليهود- في فلسطين بعد تحريرها، وقد امتد هذا التسامح طوال حكم الدولة العثمانية حتى في فترات شدة النزاع مع أوروبا، ولا يخفى أن هذا التسامح من المسلمين مع غيرهم ليس له مثيل في أي مكان في العالم الأوروبي.
ويلاحظ على هذه الموجة الأولى من الهجرة اليهودية:
1- أن غالبيتها من اليهود الشرقيين من روسيا وأوروبا الشرقية؛ إذ كان اليهود الغربيون قد استقروا في العديد من دول أوروبا الغربية ولا يرغبون في مغادرتها، ولذلك لم يتحمس اليهود الغربيون -حتى بعد ظهور الحركة الصهيونية الداعية إلى الهجرة إلى فلسطين- للهجرة لفلسطين، حتى نجح اليهود الصهاينة بعد ذلك بعقود في دفعهم للهجرة إليها كما سنبينه -إن شاء الله-.
2- أن في إثر مذابح تعرض لها اليهود في روسيا عام 1882م قامت حركة يهودية قوية، ألَّف معها "هيكلر الجرماني" كتابه: "إرجاع اليهود إلى فلسطين حسب أقوال الأنبياء"، كما ظهرت حركة "أحباء صهيون" في روسيا، وفي عام 1890م ظهرت "جمعية مساعدة الصناع والمزارعين اليهود في سوريا وفلسطين"، وترأسها "ليون بنسكر"، وكانت تهدف إلى تشجيع الهجرة إلى فلسطين وإحياء اللغة العبرية.
وفي عام 1893م استعمل الكاتب الألماني "ناثان برنباوم" مصطلح "الصهيونية" لأول مرة، ثم بلور "تيودور هرتزل" أفكار اليهود في حركة صهيونية حديثة تضمنها كتابه: "الدولة اليهودية"، وسعى إلى تحقيقها وفق مخططات مدروسة توحد جهود اليهود لتنفيذها، وقد لاقت تلك الأفكار الاستجابة الأكبر لدى اليهود الشرقيين أولاً، وهذا يفسر سبب كون أكثر زعماء إسرائيل بعد ذلك كانوا من هؤلاء اليهود الأوائل القادمين من أوروبا الشرقية، وروسيا المتأثرين بتلك الأفكار اليهودية.
3- أن هذه الهجرة اليهودية خاصة مع الدخول في القرن العشرين الميلادي أخذت شكل التملك والاستيطان وطابع التهويد، فقد قام اليهود بتهويد الملكية ورأس المال والأيدي العاملة، وقد منعت الوكالة اليهودية اليهود المهاجرين من بيع الأراضي المشتراة مطلقًا، وقصرت العمل في مشروعاتها الزراعية على اليهود دون غيرهم.
وقد انكشفت تلك الحقيقة بعد ذلك بعقود:
- ففي اضطرابات عام 1929م جاء في تقرير لجنة التحقيق البريطانية: "أن تملك الأراضي الفلسطينية مِن قِبَل الصندوق الوطني اليهودي قد أخرج هذه الأراضي في الواقع عن السيادة الفلسطينية, وهو يعني أن العرب قد فقدوا هذه الأراضي إلى غير رجعة، فليس فقط لن يكون بإمكانهم استئجار هذه الأراضي أو زراعتها، بل أيضًا وبموجب الإجراءات الدقيقة الواردة في نظام الصندوق اليهودي لن يعود بإمكان العرب أبدًا القيام حتى بالعمل المأجور فوق هذه الأرض, إضافة إلى ذلك لن يعود بإمكان العرب إعادة شراء هذه الأراضي كي تدخل من جديد في الملكية القومية؛ لأنها أصبحت غير قابلة لمبدأ التنازل".
- وقد أصدرت المنظمة الاشتراكية الإسرائيلية "منظمة ماتزين" في عام 1969م نشرة بينت كيف كان منهج الهجرة والاستيطان والتهويد لدى الوكالة اليهودية، حيث جاء فيها: في مطلع القرن -يعني القرن العشرين- عندما بدأت الهجرة اليهودية المنظمة تلقي بأفواجها في فلسطين لم يعد بالإمكان تجاهل الواقع وما حمله من مفاجأة، وهو أن البلاد كانت مأهولة بالسكان -حيث كان يزعم زعماء اليهود لليهود وللأوربيين أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض!- وعلى غرار أي مجتمع استعماري كان على رجال المستوطنات الصهيونيين أن يرسموا سياسة محددة تجاه أهالي البلد.
ونصل هنا إلى الطابع الخاص بالصهيونية والذي يميزها تمامًا عن كل استعمار آخر في العصور الحديثة: ففي كل البلدان المستعمرة الأخرى سعى المستعمرون الأوربيون إلى استثمار ثروات البلاد بما فيها طاقات أبناء البلاد أنفسهم، محولين في كل مرة السكان إلى طبقة بروليتارية -أي طبقة عاملة- داخل المجتمع الرأسمالي الجديد الذي أنشأوه، أما الصهيونية فلم تُرِد ثروات فلسطين فقط، بل كانت تريد فلسطين نفسها أيضًا مِن أجل إقامة دولة قومية جديدة فيها.
وكان على الأمة الجديدة أن تكون لها طبقاتها الاجتماعية الخاصة بها بما فيها الطبقة العاملة، وبالتالي لم يكن المطلوب هو استغلال العرب، بل المطلوب استبدالهم كليًّا.
وقد لاحظ هذا التوافد الجماعي لليهود بعض أعيان القدس من الفلسطينيين، ووجهوا مذكرة في عام 1891م إلى السلطة العثمانية في الأستانة يطالبون بمنع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومنع اليهود من شراء أراضٍ في فلسطين، فمع أن مجمل هذه الموجة الأولى من الهجرة اليهودية لم تتجاوز 25 ألف يهودي، ولكن تلك التحركات اليهودية جعلت من العرب الفلسطينيين مَن يتوجس منها رغم أن مثل هذا التوجس لم يعرفه المسلمون مِن قبْل تجاه غيرهم؛ إذ لا تمنع دولة الإسلام غير المسلمين من العيش فيها.
وفي عام 1901م تحرك بعض مزارعي طبرية بمعارضة شراء الأراضي في منطقتهم، وقد توجسوا من التوافد الجماعي لليهود، وقد حذرت بعض الصحف العربية من النتائج التي أسفر عنها المؤتمر الصهيوني الأول في "بال" بسويسرا عام 1898م.
وفي عام 1905م أصدر "نجيب عازوري" كتابه: "يقظة الأمة العربية"، وفيه نبَّه على خطر الصهيونية على فلسطين والمنطقة العربية، وفي عام 1911م أصدر "نجيب نصار" أول كتاب باللغة العربية عن الحركة الصهيونية بعنوان: "الصهيونية: تاريخها وهدفها وأهميتها".
وفي مواجهة التحركات اليهودية الأولى صدرت بعض الصحف الفلسطينية متبنية مواجهة هذا التحرك كصحيفة "الكرمل" الفلسطينية عام 1908م.
وللحديث بقية -إن شاء الله- مع مقالنا الثاني من هذه السلسلة.
.