فلسطين التاريخ / الواقع والمأمول

تحرير الأقصى بالوحدة على كلمة التوحيد

أسامة شحادة

لا تجد الداعشية اليهودية الوحشية بقتل الأبرياء في فلسطين والقدس بحرقهم في بيوتهم أحياء كبارا وصغارا وعبر إعدامات ميدانية تحت أنظار العالم كله أي استنكار، ولا تلقى حوادث التشفي بتصفية دماء المصابين من الفلسطينيين من قبل طواقم الإسعاف والأمن اليهودي أي استنكار، ولا يكترث المجتمع الدولي لسيل القوانين والإجراءات العنصرية تجاه الفلسطينيين المقاومين للاحتلال والتي تبيح لجيش اليهود وشرطته مواجهة الحجر برصاصة، في الوقت الذي يستنكر فيه مواجهة المتظاهرين بالماء في أماكن أخرى!! وكل هذه الجرائم اليهودية الداعشية تتم بمباركة الحاخامات وفتاواهم، دون نكير أو اتهام بالإرهاب والعنف والتطرف، فهو فقط حكر على فتاوى علماء المسلمين التي تدين الاحتلال والعدوان يهودياً كان أو روسياً!!

وهذه الممارسات العالمية تجاه قضية فلسطين والأقصى وبقية قضايا المسلمين، لن تزيد المسلمين إلا إصرارا على الثبات والمقاومة والجهاد ضد المعتدين والغزاة، متوكلين على الله عز وجل وحده.

إن تاريخ الصراع بين المسلمين والصليبيين الإفرنج واليهود على الأقصى يؤكد أن المسلمين لا يخسرون الأقصى إلا عند تقصيرهم تجاه دينهم وشريعتهم، وتفريطهم بوحدتهم وائتلافهم وتفرقهم وتنازعهم.

بل إن التنازع والتفرق كان حال العرب والمسلمين قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت العرب في الجاهلية متنازعة متفرقة متشتتة، ولذلك تلاعب الفرس والروم ببعض قبائل المناذرة والغساسنة، وجعلوها أداة لهم في تحقيق مصالحهم وأغراضهم.

فأرسل الله عز وجل عبده ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، فدعا قومه العرب إلى توحيد الله عز وجل، فتوحدت كلمة العرب واجتمع شملهم وحسنت أحوالهم وصلحت أخلاقهم، فعلَت رايتهم فنشرت الحق والنور وأنجدت الضعيف والمظلوم وكسرت الباغي والجاني، فعمّ ضياء القرآن الأرجاء وخيّم العدل والرحمة على البؤساء، فأخضرّت الربوع وبوركت الأقوات وزال عنها الفقر والجوع، ولذلك انتشر في الأرض انتشار النار في الهشيم، وتهدمت دولة الطغاة وقامت دولة الإيمان.

وقد بين هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه مع الأنصار بعد غزوة حنين، فقال لهم: "ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وكنتم متفرقين فجمعكم الله بي؟" متفق عليه.

فلما اجتمع العرب على التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم واتّباع شريعته وسنته، دانت لهم الجزيرة العربية، ثم هزموا إمبراطورية الظلم والعدوان في فارس والروم، وفتح الفاروق عمر بن الخطاب بيت المقدس، وعمّ الإيمان والعدل والرحمة والخير بلاد المسلمين وبيت المقدس، حتى بدل المسلمون حالهم مع أحكام الشريعة وتنازعوا وتفرقوا واختلفوا، فظهرت الفرق المنحرفة والمبتدعة وأصبح لها شوكة وقوة عسكرية، فدب الفساد في بلاد الشام مما سهل للغزاة من الصليبيين الإفرنج احتلال بيت المقدس لأول مرة سنة 492هـ/1098م.

حول مقدمات احتلال بيت المقدس يقول خليل عثامنة في كتابه (فلسطين في خمسة عقود) ص287: "تعرضت فلسطين لغارات القرامطة المتتالية من جهة، وعرفت غارات مماثلة من قبل بني الجراح الطائيين من جهة أخرى، وفي خضم هذه الغارات الموسمية المدمرة جاء الاجتياح الفاطمي الشيعي... قبل أن تسقط فلسطين نهائياً في أيدي الغزاة الأوروبيين".

وبقيت فلسطين وبيت المقدس والمسجد الأقصى محتلة ضائعة مدة 91 سنة، حتى أثمرت جهود قادة كثر مثل الأمير مودود وعماد الدين زنكي ثم ولده نور الدين زنكي، ثم أكمل المسيرة صلاح الدين، ولم تقتصر جهود هؤلاء العظماء على العمل العسكري، بل كان العمل التعليمي والديني والعمراني هو الأساس الذي قام عليه جهدهم العسكري لاحقاً.

فبنشر المدارس وعودة التدين الصحيح بين الناس والقضاء على الفتن والفرق والطوائف المبتدعة، حصلت الوحدة الشعبية ورافقها توحيد المدن والدول في محور واحد تحت راية الخلافة العباسية، وعندها نجحت جيوش المسلمين في استعادة بيت المقدس.

وبقي بيت المقدس والمسجد الأقصى في حوزة المسلمين حوالى 40 سنة، حتى دبّ الخلاف والتنازع بين أبناء صلاح الدين، فتفرقت بلاد الشام التي تعب في توحيدها نور الدين زنكي وصلاح الدين، ثم انفصلت مصر عن الشام، في هدمٍ لكل مجهود توحيد الأمة الذي قام به القادة العظام!

وفي سنة 626هـ/ 1229م وبعد خلافات بين الأمراء الأيوبيين، سلّم الملك الكامل، ابنُ شقيق صلاح الدين، بيتَ المقدس للإفرنج بمعاهدة لمدة 10 سنوات، يبقى المسلمون فيها ولهم المسجد الأقصى، وكان هذا ثاني احتلال صليبي لبيت المقدس.

وبعد 10 سنوات حاول الإفرنج نقض الهدنة بإعادة إعمار قلعة في القدس وجعلوا برج داود أحد أبراجها وإعادة تحصين أسوارها، فتوجه الملك الناصر داود إلى بيت المقدس وحاصر القلعة، حتى نفدت مؤنتهم فاستسلموا، وحرّر بيت المقدس سنة 637هـ/ 1239م، للمرة الثانية.

ولكن للمرة الثالثة دبّ الصراع بين الأمراء الأيوبيين، فاستعان الصالح إسماعيل ومن معه من الأمراء بالإفرنج واتفق معهم على تسليمهم بيت المقدس، وفعلاً بعد 4 سنوات من التحرير الثاني، عاد الإفرنج لبيت المقدس سنة 641هـ/ 1243م، للمرة الثالثة.

ولما تولي الملك الصالح نجم الدين أيوب حكم مصر، أدرك خطورة تحالف الصليبيين في القدس مع أمراء دمشق والكرك وحمص المسلمين ضده!! فهاجم دمشق ثم القدس وتخلص من شرهم واستعاد بيت المقدس سنة 642هـ/ 1244م.

وبقيت القدس في حماية الإسلام والمسلمين حتى تفرقوا في دينهم ودنياهم، فنجح البريطانيون في احتلال فلسطين سنة 1917م، ثم وقعت تحت احتلال الصهاينة في سنة 1967م.

فاحتلال بيت المقدس كان يسبقه دوماً ابتعاد عن الإسلام واتباع للشهوات وشبهات الفرق المنحرفة وتنازع وتفرق سياسي وحروب داخلية.

والتحرير كان يمر عبر سلسلة من الجهود المباركة في العودة للدين ونبذ الشهوات وانتشار العلم والتدين الصحيح مما يقوي الجبهة الداخلية ويساهم في تقوية الجهد العسكري فتتوحد الجبهة الإسلامية ويتم إنهاء الاحتلال.

وهذه الوحدة تكون بالاجتماع على كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فلا معبود ولا مطاع ولا خالق ولا ناصر إلا الله عز وجل، وبهذا تسقط الوثنية والخرافة والشعوذة التي تعطل طاقات المؤمنين وتشتت قوة قلوبهم من الاعتصام بالله عز وجل إلى التعلق بأسباب ضعيفة وواهية، وقد رأينا جموع المسلمين في الشام وفلسطين تهتف بالتكبير و"ما لنا غيرك يا الله"، وقد بارك الله في جهودهم المتواضعة فعجزت أمامهم أضخم الجيوش والميلشيات المزودة بالعتاد الخاص والتدريبات الطويلة، لكنها عجزت عن مقارعة الإيمان في قلوبهم وتوحيد رب العالمين الذي رسخ في وجدانهم.

ولا يمكن الوصول لتوحيد الله عز وجل الصحيح الذي يكسر هام الطغاة، كما كسرها الصحابة الكرام إلا بتوحيد الاتباع للرسول صلى الله عليه وسلم.

فلا سبيل لمعرفة حقيقة الإيمان والتوحيد والعقيدة، إلا بالتقيد بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا التوحيد والإيمان والعقيدة التي لما سكنت في قلوب سلفنا الصالح مِن الصحابة والتابعين ومَن سار على نهجهم، أشرقت الأرض بنور القرآن وعمت الشعوب والأجناس والأعراق السعادة بالإيمان، ولليوم تتمسك هذه الشعوب والأعراق والأجناس بالإسلام، برغم ما يعانونه بسبب إسلامهم من قتل وتشريد وعدوان في أرجاء العالم، لكنها بشاشة الإيمان حين تخالط القلوب الطاهرة.

ولا سبيل لمعرفة شعائر الإسلام وتعاليمه وعباداته ومعاملاته وأخلاقه إلا بتوحيد مصدر التلقي عن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاءنا بالقرآن الكريم والسنة النبوية من عند الله عز وجل، وهذا هو معنى قولنا (محمد رسول الله) أي هو حامل رسالة الله لنا، فلا طريق لمعرفة مراد الله لنا إلا باتباع رسالة الله لنا التي أرسلها مع محمد صلى الله عليه وسلم، وهي القرآن والسنة.

وختاماً، فإن أي طريق لتحرير المسجد الأقصى لا تقوم على توحيد الله عز وجل بعبادته وحده والتزام أمره ونهيه، وذلك بتوحيد مصدر التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي محاولة فاشلة لن تنجح.

فتوحيد العبادة لله واتباع رسول الله هما الكفيلان بتوحيد المسلمين شعوباً ودولا، وهما الكفيلان بتحرير الأقصى وسائر ما احتل من بلاد الإسلام.

فالدعوات الهدامة لتفريق المسلمين عبر نشر العنصرية والإقليمية والقطرية والتطرف أو الطائفية أو المناهج الضالة سواء كانت مناهج بدعية أو مناهج علمانية حداثية تصادم اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هي دعوات باطلة تخدم أعداءنا وتزيد في احتلال الأقصى وتبعد التحرير عنه!

.