فلسطين التاريخ / الواقع والمأمول

حين تصبح النكبة نكبتان نكبة التهجير ونكبة التجهيل

طه أبو طه- مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية

لا زلت أذكر في طفولتي ذلك التاريخ المهم، حين كانت تخط على الجدران شعارات تحمل اسم النكبة مضافًا إليها رقم من أرقام معاناتنا التي تزداد في كل وقت وحين، فأذكر أول رقم رأيته مضافا لهذه الكلمة قليلة الحروف كثيرة الحتوف كان يحمل الرقم 48!

بقيت تلك الشعارات تُكتب كل عام مع ازدياد الرقم، وتُحيى الذكرى على الجدران وإذاعات المدارس، دونما أن تحمل في ثورة معلوماتية تهب على الأدمغة الكسولة، ووسط دوي الشعارات الرنانة التي تؤكد العودة ولا زالت تلك العبارات تكتب حتى يومنا هذا فمن شعار "العودة حق كالشمس " إلى شعار " لكيلا ننسى " إلى شعار " عائدون " وغيرها من الشعارات التي باتت مستهلكة في سوق الشعارات.

 امتدت الأيام وظهر جيل بعد جيل وبقيت ذكرى النكبة لا تحمل في طياتها أسلوبًا إبداعيًا في إيصال صورة إرهاصات ذلك الحدث الأسوأ في تاريخ القضية الفلسطينية بعد سقوط الخلافة العثمانية، صورة توضح أبعاد تلك النكبة وتشرح وتفصل حيثياتها، فما أشبه اليوم بالبارحة إذ توالت علينا نكبات أشد وطأة ما بين الأعوام 2008م وحتى 2015م، لكن دونما أن تترك أثر كتلك النكبة التي تحاول حتى اللحظة تجديد النكبات على فلسطين حتى ينسوا نكبتهم الأولى، انفصامهم الجبري الأول عن أرضهم ومزارعهم وبياراتهم؛ نكبةٌ تمنع الصياد من ممارسة صيده، وتحرم المزارع من استغلال أرضه، وتفصل الفلسطيني عن هويته.

وفي الحقيقة إن مفهوم النكبة رغم تردُّده كل عام إلا أني لم أستقِ من موردٍ ثقافيٍّ ما يشبع من معلومات حول هذا المفهوم وأظن أن مثلي الكثير الكثير، فلا تزال مصطلحات كثيرة تمر على أجيال بأكملها ترددها في موطن معين، دون أن تكون على وعي منها ماذا تعني تلك المصطلحات أو المعاني، وهذا ما قصدته بنكبة التجهيل، التي نشأت بقصد مدبر من الاحتلال ومُرِّرت علينا بغير قصد من حولنا.

لم أستطع أن أقف على معنى النكبة الكامل إلا حينما كبرت وبدأت أبحث على الشبكةالعنكبوتية وبعض الكتب، وكلما ازددت بحثًا بشكل متواضع لأستقي بعض المعلومات، وصلت لنتيجة أن بعض الكتب وبعض المواقع على الشبكة تشاركان بنكبتنا عبر نكبة تجهيلية قديمة جديدة.

أصبحت ذكرى النكبة جزء من مناسباتنا السنوية، فلا زال شعبنا ينتكب كل يوم نكبة جديدة، في الوقت الذي نرفع فيه شعارات العودة، وعلى الخط الموازي نرسخ الشعارات الاستسلامية في أذهان أجيالنا جيلًا بعد جيل، حتى أنك فيما لو ذكرت كلمة " اليهود أو سلطة الاحتلال أو الكيان الغاصب" كبديل عن لفظة إسرائيل اتهمك البعض بالانتماءات الممنوعة التي ترفع تلك الشعارات، ولم يعلموا أن عودتهم ستكون يوم إزالة نكبتنا المعلوماتية حول قضية النكبة ومحو آثارها.

في حين أننا نرسخ المفاهيم الاستسلامية، ندعو أشقاءنا العرب إلى عدم التطبيع مع الاحتلال، فنستخدم في دعوتنا كلمة التطبيع التي روَّج لها الاحتلال، فما حقيقة التطبيع سوى الاستسلام، إذ من المفترض أن نستخدم مصطلحاتنا نحن بدعوة الدول العربية إلى عدم توقيع تفاهمات أو اتفاقيات استسلامية بدل استخدام كلمة (التطبيع) ، فلقد بتنا نُعَوِّد أنفسنا وأبناءنا جيلًا بعد جيل، ونقوم بدورٍ أسوأ من دعواتنا تلك، عبر غسيل الأدمغة التي تلقَّيناه من كل شيء حولنا أثر في ثقافتنا المضمحلة.

فمن نكبة التهجير إلى نكبة التجهيل نكبات متتالية لن تزال الأولى حتى نرفع عوالقها من أذهاننا وصولًا للنكبة الأخيرة.

لقد باتت العودة عن نكبتنا المعرفية أمرًا مقدورا عليه فيما لو قارنَّاه بنكبة التهجير، إذ أن نكبتنا المعرفية لا تتطلب سوى تخطيط مدروس لأجيال قادمة لمحو هذا الجهل الذي عمدت مؤسسات عدة بقصد أو بغير قصد لعقد اتفاقه بين سلطة الاحتلال وعقولنا الباطنة.

حاجتنا لسلاح العلم هي أساس انتصارنا على نكبتنا المعرفية، وعينا لما يدور حولنا، وقراءتنا للتاريخ، وقبل ذلك كله عودتنا لكتاب الله وسنة نبينا، فتلك عوامل لا تحتاج الجهد الجهيد كي نسعى في تحقيقها، فمن اليوم لا يستخدم منا المصطلحات التي وضعها الغرب لنا كـ " الشرق الأوسط "؟! ومن منا لا يشير لإخواننا في عرب ال48 بـ " عرب إسرائيل "؟!، فهل من العسير علينا أن نستبدل مسمياتهم بمسمياتنا فنكون جاهدناهم في حربهم الثقافية ضدنا، وما عذرنا إلى الله ونحن نساعدهم في حربهم التهويدية ضد أنفسنا ثم نجلد أنفسنا بعد ذلك؟!.

مصطلحات كثيرة بات يستخدمها الكتاب والإعلاميون بشكل أصبحت فيه جزء من منظومة لغتنا، فمن ينطق بغيرها يصبح حديثه مستهجن، ولا غرابة حتى المشايخ والعلماء يستخدمون تلك المصطلحات!

فما بالنا اليوم أصبحنا نروج لأعدائنا ما يتمنونه صباح مساء، ألا يوجد جهد يحارب تلك الثقافة التغريبية بحجم يليق بانتشارها، أم أن علينا أن نردد ما نسمعه وأن يكون جهدنا محصور هنا وهناك؟!

أين دور علماء الأمة في التحدث عن ضرورة الوعي التاريخي والتغلب على نكبتنا التاريخية والجغرافية قبل التغلب على نكبة تهجيرنا عن أرضنا؟!

إنها دعوة العودة عن نكبتنا المعرفية ونكبتنا الجغرافية والتاريخية كي تتحقق لنا عودتنا على أرضنا السليبة من كل حدب وصوب.

إنها دعوة لأن نجعل السلب مقتصرًا على أرضنا وألا يمتد إلى عقولنا وبواطننا دونما شعور، إنها دعوة لأن لا نكون عونًا لعدونا من خلال تحقيق أهدافه من خلالنا، لعل الله أن يجعل ذلك سببًا في صحوة الأمة جميعًا، فتصبح حاضرة على كل المستويات المعرفية التي تؤهلها للتخلص من ذلك الاحتلال الغاشم.

.