فلسطين التاريخ / الواقع والمأمول

فلسطين الشهيدة – ابن باديس

عبد الحميد بن باديس

رحاب القدس الشريف مثل رحاب مكة والمدينة، وقد قال الله في المسجد الأقصى في سورة الإسراء: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} ليعرفنا بفضل تلك الرحاب. فكل ما هو واقع بها كأنه واقع برحاب المسجد الحرام ومسجد طيبة.

حمى الإسلام تلك الرحاب من أيامه الأولى، وحمى جميع مقدسات جميع الملل وكف عادية بعضهم عن بعض وعاش اليهود تلك القرون الطويلة ينعمون برخاء العيش وحرية المعتقد واحترام المعاهد.

تزاوج الاستعمار الانكليزي الغاشم بالصهيونية الشرهة فأنتجا لقسم كبير من اليهود الطمع الأعمى الذي أنساهم كل ذلك الجميل وقذف بهم على فلسطين الآمنة والرحاب المقدسة فأحالوها جحيما لا يطاق وجرحوا قلب الإسلام والعرب جرحا لا يندمل.

نقول، لقسم كبير من اليهود، لأن هنالك من اليهود عددا كثيرا يستنكر هذا المأتى الجنوني الظلوم، ويعترف بجميل الإسلام والسعادة التي نعم بها اليهود ويهود القدس في ظله الوارف الأمين. فقد قدم رئيس الطائفة السامرية إلى حاكم نابلس عريضة احتج فيها باسم الطائفة على الاعتداءات الاثيمة التي وقعت على العرب في القدس وحيفا ويافا هذا نصها:

"نحن أفراد الطائفة السامرية رجالا ونساء نستنكر بشدة أعمال الاعتداءات الفظيعة التي يقوم بها أشخاص من اليهود ضد قوم أبرياء في حيفا ويافا والقدس، ونطلب بشدة الحيلولة دون تكرار هذه الحوادث المروعة ونصرح بأننا- على أقليتنا- نعيش منذ ألوف السنين مع مواطنينا العرب في سلام، ولم يحدث أن اعتدى منهم أحد علينا أو حاول اضطهادنا".

هذه هي الحالة العامة التي كانت عليها فلسطين ألوف السنين حتى جاء الزوجان المشئومان الصهيونية والاستعمارية فكان البلاء على فلسطين كلها عربها ويهودها. فليست الخصومة بين كل عرب فلسطين ويهودها، ولا بين كل مسلم ويهودي على وجه الأرض، بل الخصومة بين الصهيونية والاستعمار الانكليزي من جهة والإسلام والعرب من جهة، والضحية فلسطين والشهداء حماة القدس الشريف. والميدان رحاب المسجد الأقصى، وكل مسلم مسؤول أعظم المسؤولية عند الله تعالى على كل ما يجري هنالك، من أرواح تزهق وصغار تيتم ونساء ترمل وأموال تهلك وديار تخرب وحرمات تنتهك، كما لو كان ذلك كله واقعاً بمكة أو بالمدينة، إن لم يعمل لرفع ذلك الظلم الفظيع بما استطاع.

يريد الاستعمار الانكليزي الغاشم أن يستعمل الصهيونية الشرهة لقسم الجسم العربي وحطِّ قدس الإسلام فيملأ فلسطين بالصهيونيين المنبوذين من أمم العالم. ولأجل هذه الغاية الظالمة تجند جنود الانكليز وتجمع أموال الصهيون وتسفك الدماء البريئة وتلطخ بها الرحاب المقدسة.

يجري كل هذا وترتفع له أصوات العالم الإسلامي والعالم العربي بالاحتجاج والاستنكار ويخاطب ملوك العرب والإسلام حكومة الانكليز فلا تزيد آذانها إلا صمما ولا قلبها إلا تحجرا.

نقول العالم الإسلامي والعالم العربي، لأننا لم نر ولم - نسمع من غيرهما احتجاجا جديا واستنكارا صارخا حتى الذين يقيمون الدنيا ويقعدونها بصراخهم ويبذلون ما يبذلون من مساعداتهم في أوطان أخرى لم نرهم إزاء فلسطين الشهيدة إلا سكوتا أو شبه سكوت- وشتان ما بين من يريد المقاومة ومن يريد رفع الملام.

نحن- المسلمين- أعداء الظلم بطبيعتنا الإسلامية ونرحم المظلوم ولو كان هو ظالما لنا. منذ أيام كنت في حانوت تاجر مسلم- وقد قرأ علي أخبارا عن اضطهادات ألمانية جديدة على اليهود فلما فرغ من القراءة قال لي: "هذا يا شيخ حرام عندنا في الإسلام احنا نخلي الناس كلهم يعيشوا بأموالهم" فقلت له: نعم، وأخذت أبين له كيف عاش اليهود في ظل الإسلام. هذا عامي من أوساط الناس متمسك بدينه ومتألم من حالة القدس الشريف ويعرف أن بلاءها من مهاجرة يهود ألمانيا وغيرهم ومع ذلك يستنكر ما يلحقهم من الظلم. وها هم اليهود اليوم قد شردتهم ألمانيا ومن قوانينها الجديدة عليهم بيع أملاكهم ببرلين بالمزاد العام ومنعهم في المستقبل من الامتلاك، ومنعهم من صناعة الطب بتاتاً، والحكومة اليونانية منعتهم من دخول أرضها ولو على سبيل السياحة، وإيطاليا أخذت في اضطهادهم بأساليب علمية دقيقة وسياسة قاتلة، وفرنسا أيضا قد هبت عليها هبات من هذه السموم ستصيب اليهود أو قد أصابهم شيء من لفحها. هذا حالهم بين الأمم المسيحية وقد عادوا - أو كادوا- كما كانوا في القرون الوسطى لا يطمئنون على أزواجهم وأموالهم وثقافتهم إلا في بلاد الإسلام، وها هم مع ذلك يستمرون على ظلم الإسلام في قدس الإسلام ولا ناهي لهم ولا ناصح ممن يسمعون لنهيه ونصحه. وما يدريهم أن هذا البلاء الذي ابتدئ بصبه عليم هو جزاء ظلمهم لفلسطين ظلم الفعل وظلم الرضا وظلم السكوت عن الاستنكار. وأن الله لينتقم من الظالم بالظالم، ثم ينتقم من الجميع.

إن الدفاع عن القدس من واجب كل مسلم. وقد هب رجالات الإسلام في الشرق للقيام بهذا الواجب. فهنالك من ناحية الحكومات ما يقوم به وزير مصر ووزير العراق باسم ملوك العرب في لندن، وهنالك اللجنة البرلمانية المصرية للدفاع عن فلسطين تضم فريقا كبيرا من حضرات الشيوخ والنواب المصريين وقد اعتزموا على عقد مؤتمر برلماني عام للبحث في قضية فلسطين على أن يشترك في المؤتمر أيضا زعماء العرب والمسلمين في الأقطار العربية والإسلامية التي لا توجد فيها برلمانات وصح عزم اللجنة على أن يعقد المؤتمر في مدينة القاهرة إن شاء الله يوم الجمعة الموافق لـ 12 شعبان 1357هـ و 17 أكتوبر سنة 1938م.

سيكون هذا المؤتمر الأول من نوعه في الشرق العربي وستعرف به الصهيونية والاستعمار البربطاني أنها أمام العالم الإسلامي والعربي لا أمام فلسطين وحدها فعلى المسلمين كلهم أن يؤيدوا هذا المؤتمر برفع أصواتهم إليه، وعلى اليهود الذين ينكرون ظلم الصهيونية وشرها أن يغتنموا هذه الفرصة الفريدة لإعلان استنكارهم.

{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

4 غرة جمادى الثانية 1357هـ- أوت 1938م.

 

آثار ابن باديس (3/413-416).

.