دراسات وتوثيقات / دراسات وبحوث
مكانة القدس بين التشكيك اليهودي والحق الإسلامي.
مكانة القدس بين التشكيك اليهودي والحق الإسلامي
"القدس ليست مقدسة عند المسلمين" عبارة أطلقها العديد من المستشرقين من أمثال "جولد تسيهر"، وكتّاب يهود من أمثال "إسحق حسون"– العضو في معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية في الجامعة العبرية - في المقدمة التي وضعها في تحقيقه لكتاب "فضائل بيت المقدس" لأبي بكر الواسطي، وكذلك البرفسور "أمنون كوهين" في كتابه "القدس، دراسات في تاريخ المدينة" والذي يرأس مؤسسة للأبحاث والدراسات، تقدم دراسات متخصصة – للقرّاء العرب والباحثين - لتاريخ القدس!! ، وكتابات "كستر kister M.j "، وهو من العاملين في معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية في الجامعة العبرية بالقدس المحتلة، والوثائق التي يعدها ويوزعها بشكل واسع مؤسس "جامعة الدفاع اليهودي" ويدعي "دانيال ياسين"، وبوهل F.Buhl الذي أسند إليه كتابة تاريخ القدس في الموسوعة الإسلامية وهو يهودي صهيوني، وكذلك جميع الموسوعات الغربية – من غير استثناء - التي تشكك في مكانة القدس، وتتبنى وجهة نظر اليهود وتدافع عنها.
وتحمل كتاباتهم التشكيك في مكانة القدس في الشرع الإسلامي بطرق ملتوية ونصوص لا تحتمل كل ذلك بهدف التزييف والتشويه وتوهين حقائق الإسلام ومقدساته في نفوس المسلمين.
وخلاصة مزاعمهم:
· أن مكانة القدس في الإسلام، كانت موضع خلاف بين المسلمين الأوائل.
· وإن ما روي من أحاديث عن قداسة القدس كانت موضع شك عند كثير من المسلمين.
· وإن عوامل سياسية، داخلية وخارجية، هي التي حفزت على إضفاء صفة القداسة على المدينة، ومن هذه العوامل مثلاً حرص بني أمية على أن يجنبوا الناس الحج إلى مكة خلال ثورة عبد الله بن الزبير رضي الله عنه.
وهذا غيض من فيض مما كتبت الأقلام اليهودية الخبيثة حول التشكيك في أفضلية القدس والمسجد الأقصى واهتمام المسلمين بهما، ومكانتهما في الشرع الإسلامي.
"جولد تسيهر" المستشرق اليهودي المجري وأكاذيبه:
يعد "جولد تسيهر" المستشرق اليهودي المجري المرجع الأساس للكثير ممن كتب من الباحثين اليهود حول القدس والمسجد الأقصى، وهو من أوائل من شكك في الأحاديث التي جاءت بفضل المسجد الأقصى وبركته. بل تعدى ذلك بقوله أن القسم الأكبر من الحديث النبوي ليس إلا نتيجة للتطور الديني والسياسي والاجتماعي للإسلام في القرنيين الأول والثاني!!
ودلل على ذلك بزعمه: أن عبد الملك بن مروان منع الناس من الحج أيام فتنة ابن الزبير، وأنه بنى قبة الصخرة في المسجد الأقصى ليحج الناس إليها ويطوفوا حولها بدلاً من الكعبة، وزعم أيضاً أن عبد الملك أراد أن يحمل الناس على الحج إليها بعقيدة دينية، فوجد الزهري وهو ذائع الصيت في الأمة الإسلامية مستعداً لأن يضع له أحاديث كحديث: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" وزعم أن الأحاديث التي وردت في فضائل بيت المقدس مروية من طريق الزهري فقط!!.
مع أن الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا وقد الأسس الكاملة لبنيان الإسلام الشامخ، بما أنزل الله في كتابه، وبما سنه عليه الصلاة والسلام من سنن وشرائع شاملة وافية، حتى قال صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي، وقال: "تركتكم على الحنيفية السمحة ليلها كنهارها ". ومن أواخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" وذلك يعني كمال الإسلام وتمامه.
فما توفي رسول الله إلا وكان الإسلام ناضجاً تامّاً لا طفلاً يافعاً كما يدعي هذا المستشرق. ومع كثرة الفتوحات والأمم التي دخلت الإسلام إلا أنهم كانوا متحدين في العبادات والمعاملات، ولو كان الحديث أو القسم الأكبر منه نتيجة للتطور الديني في القرنيين الأولين للزم حتماً ألا تتحد عبادة المسلم في شمال أفريقيا مع عبادة المسلم في جنوب الصين.
ونلخص الرد على مزاعم "جولد تسيهر" المستشرق اليهودي بالآتي:
- لا نعلم في الدنيا أحداً اتهم الزهري بأمانته وصدقه في الحديث قبل هذا المستشرق اليهودي المتعصب جولد تسيهر. وقد قال عنه الأمام أحمد: "الزهري أحسن الناس حديثاً وأجودهم إسناداً " وقال عنه ابن حجر في تهذيب التهذيب: "هو الفقيه أبو بكر الحافظ المدني أحد الأئمة الأعلام، وعالم الحجاز والشام".
- لا شك أن بناءها ـ كما يزعم جولد تسيهر ـ لتكون بمثابة الكعبة يحج الناس إليها بدلاً من الكعبة، حادث من أكبر الحوادث وأهمها في تاريخ الإسلام والمسلمين، فلا يعقل أن يمر عليه هؤلاء المؤرخين مر الكرام، وقد جرت عاداتهم أن يدونوا ما هو أقل من ذلك خطراً أو أهمية.
- إن نص الحادثة كما ساقها جولد تسيهر بيّن البطلان، لأن بناء شيء ليحج الناس إليه كفر صريح، فكيف يقدم عبد الملك عليه، وهو الذي كان يلقب بـ "حمامة المسجد" لكثرة عبادته؟ على أن خصومه طعنوا فيه بأشياء كثيرة ولم نجدهم اتهموه بالكفر، ولا شنعوا عليه ببناء القبة، ولو كان الأمر ثابتاً لجعلوها في أول ما يشهرونه به.
- ولد الزهري سنة إحدى وخمسين أو ثمان، ومقتل عبد الله بن الزبير كان سنة ثلاث وسبعين، فيكون عمر الزهري حينذاك على الرواية الأولى اثنين وعشرين عاماً، وعلى الثانية خمسة عشر عاماً، فهل من المعقول أن يكون الزهري في تلك السن ذائع الصيت عند الأمة الإسلامية بحيث تتلقى منه بالقبول حديثاً موضوعاً يدعوها فيه للحج إلى القبة بدلاً عن الكعبة ؟
- إن نصوص التاريخ قاطعة بأن الزهري في عهد ابن الزبير لم يكن يعرف عبد الملك ولا رآه بعد، فالذهبي يذكر لنا أن الزهري وفد لأول مرة على عبد الملك في حدود سنة ثمانين، وابن عساكر روى أن ذلك كان سنة اثنتين وثمانين، فمعرفة الزهري لعبد الملك لأول مرة إنما كانت بعد مقتل ابن الزبير ببضع سنوات، وقد كان يومئذ شاباً بحيث امتحنه عبد الملك، ثم نصحه أن يطلب العلم من دور الأنصار، فكيف يصح الزعم بأن الزهري أجاب رغبة صديقه عبد الملك فوضع له حديث بيت المقدس ليحج الناس إلى القبة في عهد ابن الزبير؟.
- إن حديث لا تشد الرحال .... إلخ . روته كتب السنة كلها، وهو مروي من طرق مختلفة غير طريق الزهري، فقد أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري من غير طريق الزهري . ورواه مسلم من ثلاث طرق إحداها من طريق الزهري وثانيهما من طريق جرير عن ابن عمير عن قزعة عن أبي سعيد، وثالثهما من طريق ابن وهب عن عبد الحميد عن عمران بن أبي أنس عن سلمان الأغر عن أبي هريرة. فالزهري لم ينفرد برواية هذا الحديث، كما يزعم جولد تسيهر، بل شاركه فيه غيره، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله عن حكم زيارة بيت المقدس والصلاة فيه فقال: ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تشد الرحال .... إلخ وهو في الصحيحين من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وقد روي من طرق أخرى، وهو حديث مستفيض متلقى بالقبول، أجمع أهل العلم على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق، واتفق علماء المسلمين على استحباب السفر إلى بيت المقدس للعبادة المشروعة فيه، وكان ابن عمر يأتي إليه فيصلي.
- إن هذا الحديث رواه الزهري عن شيخه سعيد بن المسيب، ومن المعلوم أن سعيداً ما كان ليسكت عن الزهري لو أنه وضع هذا الحديث على لسانه إرضاء لأهواء الأمويين، وهو الذي أوذي من قبلهم وضرب، وقد توفي سعيد (سنة 93) من الهجرة أي بعد مقتل ابن الزبير بعشرين سنة، فكيف سكت سعيد عن هذا كل هذه المدة، وقد كان جبلاً شامخاً من جبال القوة في الحق لا يبالي في الله لومة لائم؟ .
- لو فرضنا أن الزهري وضع هذا الحديث إرضاء لعبد الملك، فلم لم يصرح فيه بفضيلة قبة الصخرة وقد أراد عبد الملك أن يحج الناس إليها؟ كل ما في هذا الحديث وما صححوه من أحاديث بيت المقدس فضل الصلاة فيه وفضل زيارته غير مقيدة بوقت معين، وهذا شيء أثبته القرآن جملة، فأين هذا مما يريده عبد الملك من الحج إلى القبة بدلاً من الكعبة في أيام الحج.
- إن حديث لا تشد الرحال الذي صححه العلماء لا يرتبط بما ورد في فضائل بيت المقدس والصخرة أو غيرها من أحاديث مكذوبة ليس للزهري رواية فيها، وقد نقدها العلماء جميعاً حتى قالوا: كل حديث في الصخرة فهو كذب.
- أغلب المؤرخين الثقات لم يختلفوا في أن الذي بنى القبة "قبة الصخرة" هو الوليد بن عبد الملك، هكذا ذكر ابن عساكر والطبري وابن الأثير وابن خلدون وابن كثير وغيرهم، ولم نجدهم ذكروا ولو رواية واحدة نسبة بنائها إلى عبد الملك.
أقوال وكتابات الباحثون اليهود الذين ساروا على خطى كبيرهم "جولد تسيهر":
لا تكاد تجد بحثاً وكتاباً أو تحقيقاً وإصداراً للباحثين اليهود إلا ويؤكد أن قدسية مدينة القدس يشوبها الكثير من الشكوك، فلم يكتف اليهود بسلب القدس واحتلال أرض فلسطين بالقوة والسلاح، بل ما زالت محاولات اليهود مستمرة لسلب القدس من أصحابها الشرعيين تراثاً وتاريخاً عبر كتاباتهم ودراساتهم ونشراتهم، والتي حاولوا أن يتصنعوا المنهج العلمي والسمة الموضوعية فيما يكتبون، وهم في الحقيقة ضربوا بعرض الحائط كل قواعد البحث العلمي، ليعيدوا صياغة تاريخ القدس بأسلوب خبيث أدخلوا فيه الكثير من الطعن والدس ليخلصوا في النهاية بأن القدس ليست مقدسة في الشرع الإسلامي، ونذكر منهم:
" ياسين دانيال "مؤسس جامعة الدفاع اليهودي:
جاء في إصدار لوزارة السياحة اليهودية على شكل كتيب ليتداول من قبل السائحين والذي أعده مؤسس جامعة الدفاع اليهودي ويدعى " ياسين دانيال ":
· أن اهتمام المسلمين بالقدس جاء ثانوياً ولهذا فان الإسلام يعطيها المرتبة الثالثة بعد مكة والمدينة.
· وأن تخلي (النبي صلى الله عليه وسلم) عنها كقبلة أولى يعتبر إهمالاً لها وعدم أهميتها في الإسلام.
· وأن القرآن لم يعرها أي نوع من الأهمية خاصة وأنه لم يذكرها باسمها مرة واحدة.
- والقدس لا تذكر على الإطلاق في صلوات المسلمين.
- ولم ترتبط ارتباطاً مباشراً بالأحداث التي جرت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
- ولم تتحول في يوم من الأيام إلى مقر ثقافي أو عاصمة إسلامية.
والأمويون هم الذين أعادوا تفسير القرآن، لإيجاد متسع للقدس عندما بنوا مسجداً فوق الهيكل وأسموه المسجد الأقصى وأعطوها دوراً بارزاً في حياة الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم - بأثر رجعي، وذلك لتقليل أهمية الجزيرة العربية بعد الخلاف مع عبد الله بن الزبير في مكة.
"كستر kister "معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية في الجامعة العبرية:
وهذا "كستر kister" وهو من أصول بلجيكية، ويعمل في معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية في الجامعة العبرية بالقدس المحتلة كتب الآتي:
- أن هناك جدلاً بين المسلمين حول أفضلية المسجد الأقصى.
- وأنه كانت قبل القرن الثاني الهجري، اتجاهات لتأكيد قدسية مكة والمدينة والتقليل من قدسية القدس.
- والتحول بالنسبة إلى قداسة القدس إنما قصد منه أن لا تكون محجاً للناس مثل مكة، لأن بعض المسلمين كادوا يساوون بين المسجد الحرام في مكة والمسجد الأقصى في.
" إسحاق حسون Ishaq Hasson "
ويقول "إسحاق حسون Ishaq Hasson" - العضو في معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية في الجامعة العربية - في المقدمة التي وضعها لكتاب فضائل البيت المقدس لأبي بكر محمد بن أحمد الواسطي والذي قامت بطباعته الجامعة العبرية باللغة العربية:
· أنه كانت ثمة اتجاهات لتعظيم حرمة مكة والمدينة، والتقليل من حرمة القدس.
· وإن علماء المسلمين لم يتفقوا جميعا على أن المسجد الأقصى وهو مسجد القدس. إذ رأى بعضهم أنه مسجد في السماء يقع مباشرة فوق القدس أو مكة ويستعين في هذا الصدد بأقوال كاتب فرنسي هو ديمومين.
· وإن عبد الملك بن مروان ببنائه الصخرة إنما كان يسعى وراء تحويل الحج من مكة إلى القدس.
· وإن معاوية بويع بالخلافة في القدس، وإنه هو الذي أسمى القدس وبلاد الشام الأرض المقدسة.
· وأن الأحاديث الخاصة بفضائل القدس قد ازدهرت في هذه الفترة وإن هذه الأحاديث تستند على أقوال أهل الكتاب، سواء ما كان منها نصاً مروياً أم أسطورة، كما أن زيارة أماكن خاصة في القدس، ابتدأت في هذه الفترة .
· ثم جنح إلى فرضية غريبة، مؤداها أنه في سنة 407 هـ وقعت قبة الصخرة، وأن خطيب المسجد قد جمع على أثر ذلك الأحاديث والروايات المتعلقة بفضائل القدس من أجل جمع الأموال، بغية إعادة بناء المسجد وترميمه، وأنه قد تشجع على الربط بين القدس وكل من مكة والمدينة، بسبب ما وقع للركن اليماني في الكعبة من تصدع وما أصاب أحد الأسوار الخارجية لقبر الرسول (عليه السلام) من سقوط تلك السنة.
شلومو دوف غويتاين - معهد الدراسات العليا جامعة برنستون:
وشلومو دوف غويتاين - بروفسور يهودي في معهد الدراسات العليا جامعة برنستون - لخص ما توصل إليه بالآتي:
- بقيت القدس مدينة جانبية لا تأثير يذكر لها.
- والقدس لم تلعب في الإسلام قط دور مركز ثقافي.
- وشعر المسلمون جيداً أنها كانت في الأساس مكاناً مقدساً لليهود والمسيحيين.
" الموسوعة الإسلامية Encyclopacdia of Islam ":
وجاء في " الموسوعة الإسلامية Encyclopacdia of Islam " تحت كلمة: AL-Kuds والتي كتبها اليهودي " بوهل Buhl F. ":
- أنه ربما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يظن أن المسجد الأقصى مكان في السماء! ليشكك في أن المسجد الأقصى المذكور في الآية الأولى من سورة "الإسراء"، هو مكان في القدس وبالتالي فهو يحاول أن ينفي عن القدس سبباً من أهم أسباب نظرة القداسة الإسلامية إليها.
- وأن عبد الملك بن مروان بنى قبة الصخرة من أجل أن يطاف حولها، ولإضفاء سمة القداسة على المدينة، ولكي تضاهي القدس مكة في شرعية الحج إليها.
أقوال المنصفين من اليهود
ومع ذلك فإن هناك ممن كتب لدحض أكذوبة أن القدس ليست مقدسة عند المسلمين، نذكر منهم:
س . د . جوتين S.D. Goitein - أستاذ في جامعة برنستون – الذي لم يستطع أن يتقبل كثيراً من هذه الفرضيات والتصورات فألف كتاباً عام 1966 بعنوان: "دراسات في التاريخ الإسلامي والمؤسسات الإسلامية، Studies in Islamic History and Institutions نفي أن يكون عبد الملك بن مروان قد حاول ببنائه قبة الصخرة أن يحول الحج من الكعبة إلى القدس، وذلك انطلاقاً من كون عبد الملك إنساناً مسلماً ملتزماً بشريعة الإسلام. ونفى أن يكون استعمال عبارة " الأرض المقدسة " للدلالة على فلسطين استعمالاً أموياً حركته دوافع سياسية، وأورد الآية القرآنية التي استعملت فيها هذه العبارة للدلالة على فلسطين – الآية "يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين"، وقال إن عروة بن الزبير قد استعمل في وقت مبكر عبارة "الأرض المقدسة" للدلالة على فلسطين وأن فلسطين قد قدست لأنها كانت أرض النبوات ومنزل الوحي، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حث أصحابه على السكن في بلاد الشام، وأن تحول بلاد الشام فيما بعد إلى أرض جهاد طيلة أحقاب متعاقبة ضد البيزنطيين، كان سبباً آخر في إضفاء القدسية عليها باعتبارها أرض مرابطة وجهاد.
وفي نهاية دراسته هذه عن قدسية القدس وفلسطين ، يخلص إلى أن الكتابات الإسلامية الأولى تحتوي قدراً كبيراً منذ القرن الأول عن قداسة فلسطين والقدس وقبة الصخرة، وأنه لا يمكن القبول بأن هذه الأقوال كانت نتيجة للنزاع بين الأمويين وابن الزبير، وأنه لا أساس للقول بأن الصخرة قد بنيت لتحويل الحج إلى القدس وأنه قد آن الأوان لاختفاء هذه الأسطورة من الكتب، وأن معارضة علماء المسلمين للإفراط في تقديس القدس وفلسطين وقبة الصخرة لم تكن ذات علاقة بأشياء سياسية طارئة، بل كانت نابعة من حوافز دينية أصيلة.
وقبل ستة عشر عاماً من تأليف جوتين هذا الكتاب كان قد نشر مقالاً في مجلة الجمعية الشرقية الأمريكية بعنوان "الخلفية التاريخية لبناء قبة الصخرة" The Historical Background of Erection of the Dome of the Rock أورد فيها قسماً كبيراً مما ورد في كتابه اللاحق ووصف فيه روايتي اليعقوبي وابن البطريق عن دوافع عبد الملك لبناء قبة الصخرة، بأنه قد قصد منهما تشويه سمعة الأمويين.
أما تشارلز ماثيوز الأمريكي، فإنه لم يحاول أن ينفي صفة القداسة عند المسلمين لمدينة القدس في أي وقت من الأوقات أو أن يوحي بأن الأمويين هم الذين أضفوا عليها مكانة قداسة خاصة، ويقول إنه لم يكن بالإمكان تحويل الحج عن مكة وعن زيارة المدينة، غير أن الكثيرين من المؤمنين بقوا ينجذبون نحو فلسطين لزيارة أقل شأناً من الحج ثم يضيف أن تعلق المسلمين بفلسطين قد ازداد بعد أن احتلها الصليبيون مؤقتاً، وذلك بسبب جهاد المسلمين من أجل استعادتها وأن ردة الفعل الإسلامية لحملات الصليبين، كانت عاملاً في تطور أدب الفضائل الخاص بالقدس وفلسطين.
وكتبت حواء لا تسروس يافه: برفسور في الجامعة العبرية في القدس تحت عنوان "قدسية القدس في الإسلام" :
أن الأسباب التي دفعت عبد الملك إلى إقامة قبة الصخرة ليست في الواقع سياسية وإنما دينية بحتة، يمكن وضعها في إطارين:
أ – تعاظم الهالة القدسية التي أحاطت بفلسطين عامة وبالقدس خاصة بشكل خاص منذ بداية الإسلام.
ب- محاولة لمنافسة الكنائس المسيحية الفخمة التي كان من الممكن أن يعتبرها البعض بمثابة الحط من عظمة الإسلام. فجاءت قبة الصخرة لتفوق الفن المعماري المسيحي.
لذلك علينا أن نقبل الحقيقة التي تقول أن القدس لها حرمة ومكانة خاصة في الإسلام.
حقائقنا حول المسجد الأقصى
· لتحويل القبلة بعد الهجرة قصة مع اليهود، حيث فرحوا بدايةً باستقبال النبي صلى الله عليه وسلم لقبلتهم ورأوا في ذلك مدخلاً للحديث عنه صلى الله عليه وسلم، حيث يزعمون أنه قلدهم في القبلة وسار على نهجهم مع أنه صلى الله عليه وسلم ينفذ ما أمره به ربه عز وجل، وحيث أوحي إليه باستقبال القبلة نفذ ذلك بفرح وسرور، ولكن اليهود ظنوا أن ذلك لهوى في نفسه فحاولوا خداعه فقالوا: يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها، ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك، وإنما يريدون بذلك فتنته عن دينه.
· ولنا عبرة في كتاب الله تعالى حيث أخبر أنه سيعترض السفهاء من الناس على تغيير القبلة وتحويلها من استقبال بيت المقدس إلى استقبال المسجد الحرام، وأخبر بذلك قبل أن يأمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم باستقبال المسجد الحرام في قوله سبحانه وتعالى: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) فوصف ممن وقع منهم هذا القول بالسفه لأنهم اعترضوا على حكم الله وشرعه، وكان في قوله السفهاء ما يغني عن رد قولهم وعدم المبالاة بهم ولكنه سبحانه مع هذا لم يترك هذه الشبهة حتى أزالها وكشفها مما سيعرض لبعض القلوب من الاعتراض فقال تعالى: (قل لله المشرق والمغرب) أي قال يا محمد لهم مجيباً لله المشرق والمغرب وكل الجهات ملك لله.
· فاخبرنا الله تبارك وتعالى لذلك لكي تبقى رؤوسنا مرفوعة وعرّفنا بمن يشككون في معتقداتنا حتى لا نهون في مجالس الصراع وحتى لا نذل في حربنا معهم، وقد أخبرنا ابن عباس بهذه الحادثة، ليظهر لنا اليهود على حقيقتهم بعد أن مر على هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً.
· وما أشبه اليوم بالبارحة فهذه الشبه التي يطلقها اليهود وأعوانهم أرادوا منها التشكيك والتوهين والتسخيف ولكن أنى لهم هذا وهم يعلمون الحق ويكتمونه وهم يعلمون أن سيعزلون عن منصب قيادة الأمة الإنسانية، لما ارتكبوا من الجرائم التي لم يبق معها مجال لبقائهم على هذا المنصب، فانتقلت القيادة الروحية من أمة ملأت تاريخها الغدر والخيانة والإثم والعدوان إلى أمة تتدفق بالبر والخيرات.
· أما بالنسبة إلى منزلة القداسة التي أُنزلتها مدينة القدس عند المسلمين في أبكر عهود الإسلام، فإن اتخاذ هذه المدينة قبلة للمسلمين مدة ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً بعد هجرة المسلمين إلى المدينة يقوم دليلاً لا ينقض على مكانتها لدى المسلمين منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.
· ومما يتصل بهذه الحقبة المبكرة جداً من تاريخ الإسلام بالنسبة إلى مكانة القدس عند المسلمين، حادث الإسراء برسول الإسلام صلوات الله عليه من مكة إلى القدس، ثم معراجه من القدس إلى السماء، وقد وثقت هذه الرحلة العجيبة توثيقاً خالداً في الآية الأولى من سورة الإسراء:)سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء:1).
· فالمسجد الأقصى في القدس، قد أسري بالنبي إليه، والأرض التي ضمت الأقصى وامتدت حولها، هي أرض مباركة في الإسلام بحكم نص القرآن الكريم، منذ أن تنـزلت آية الإسراء .
· أما ما ورد من أقوال سابقة، من أن المسجد الأقصى لم يكن في القدس، وإنما هو مكان تصوره الرسول في السماء، فقول لم يأخذ به أو يتقبله أو يقله أحد من المسلمين، منذ أن تنزلت آية الإسراء وإلى يومنا هذا، وما فسرت به الآية القرآنية.
· على أن عدداً من مفسري القرآن الكريم، لم يقتصروا على آية الإسراء الأولى فيما يتعلق بقداسة القدس، بل شموا إلى هذه الآية التي لا خلاف على دلالتها آية قرآنية أخرى، مثل الآية 13 من سورة الحديد:)فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ)(الحديد: من الآية 13) فقالوا إن السور المقصود، وهو سور بيت المقدس الشرقي، ومثل الآية 14 من سورة النازعات: ( فإذا هم بالساهرة )، فقالوا إن المقصود "بالساهرة" البقيع الموجود جانب الطور، شمالي سور القدس اليوم، ومثل الآية 36 من سورة النور: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه)، فقالوا إن المقصود هو بيت المقدس، وغير هذه من الآيات .
· وأما بالنسبة إلى الأحاديث التي تؤكد مكانة القدس في الإسلام، فهي كثيرة جداً، وقد ورد منها في كتب الفضائل، موضوع هذه الدراسة، عشرات الأحاديث، وإذا كان ثمة اختلاف في الآراء حول مدى صحة هذه الأحاديث، فلا خلاف على الإطلاق على حديث مجمع على صحته، وقد ورد في كتب الصحاح، وفي كل كتب فضائل القدس، وجرت روايته بطريق مختلفة، منها رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى ومسجدي هذا: مسجد المدينة ". وقد وصف ابن تيمية هذا الحديث بأنه ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه حديث مستفيض، متلقى بالقبول، أجمع أهل العلم على صحته وتقليه بالقبول وتصديقه".
· ولم يغب عن مؤلفي كتب الفضائل أن الأحاديث التي تنسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في فضل القدس، ليست كلها على مستوى واحد من الصحة والقبول. فها هو شهاب الدين أبو محمود أحمد بن محمد المقدسي، صاحب كتاب "مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام" يقول في خاتمة كتابه، مبيناً ما يمتاز به الكتاب عن كتب الفضائل الأخرى: "وصنف آخرون أيضاً في فضائل الشام وفضائل القدس، وهذا المصنف بحمد الله تعالى مشتمل على الفصلين معاً ( فضائل الشام وفضائل القدس ) قد احتوى على الآيات الواردة في القرآن العظيم في فضلهما، والأحاديث الواردة في ذلك: الصحيح، والحسن، والغريب، والضعيف المحتمل، والواهي التأليف والموضوع، والآثار القوية والواهية.
· والقدس كانت تعني لجيوش عمر بن الخطاب التي أرسلت لفتح الشام أكثر مما كانت تعنيه بلدان الشام الأخرى، حتى قبل أن تفتح المدينة المقدسة بالفعل.
· أما القول بأن الخليفة الأموي، عبد الملك بن مروان، قد أراد أن يضفي على القدس طابع قداسة خاصة ببنائه قبة الصخرة، أو مسجد الصخرة، من أجل أن يتحول الناس في حجهم من مكة إلى القدس، فقول مرفوض في إطار العقيدة الإسلامية، وفي إطار النصوص الصحيحة المنقولة.
· والرجل الذي اعتمد عليه عبد الملك اعتماداً أساسياً في بناء مسجد الصخرة، وهو رجاء بن حيوة، كان من علماء المسلمين وكان صديقاً لعمر بن عبد العزيز، الرجل الصالح، ولم يكن هذا ليشارك أبداً في بناء يقصد به خديعة المسلمين وغشهم، بأن يتحولوا إلى لحج إليه بدلاً من مكة.
· ومن البديهيات كذلك أن عبد الملك ما كان ليفكر مجرد التفكير في إحلال صخرة القدس محل مكة وهو ركن من أركان الإسلام المفروضة والمبينة في القرآن الكريم، ولو أنه فعل ذلك لوصم بالكفر ولحل قتاله، بل لأصبحت مجاهدته فرضاً واجباً على المسلمين وقد تنبه لهذه الأمور كلها كاتب غير مسلم هو جويتين كما هو واضح من المادة التي كتبها عن الخلفية التاريخية لبناء قبة الصخرة.
· وأما رواية منع عبد الملك الناس من الحج إلى مكة إبان ثورة ابن الزبير فهي رواية متهافته منقوضة، حتى في كتابة المؤرخ الذي كان أول من أوردها وهو اليعقوبي فرواية اليعقوبي تقول إنه منع الناس من الحج إلى مكة خشية أن يأخذهم ابن الزبير بالبيعة، وأنه أقامه بذلك أيام بني أمية.
· ولكن اليعقوبي نفسه يقول بعد صفحتين فقط من إيراده هذه الرواية، إنه في سنة 68هـ وقفت أربعة ألوية بعرفات: محمد بن الحنفية في أصحابه، وابن الزبير في أصحابه، ونجدة بن عامر الحروري، ولواء بني أمية. ثم ينقل عن المساور بن هند قيس قوله: وتشعبوا شعباً، فكل قبيلة فيها أمير المؤمنين ومعروف أن حكم الزبير في مكة امتد من عام 66 إلى عام 73 هـ وهو عام مقتله.
· بل إن اليعقوبي يورد بعد ذلك أن عبد الملك نفسه قد حج سنة 75 هـ مما يخالف روايته الأولى عن منع حكام الأمويين الناس من الحج أيام بني أمية. ويقول اليعقوبي وهو يتحدث عن حج عبد الملك في السنة المذكورة، إنه بدأ بالمدينة، ولما أراد الانصراف بعد الحج وقف على الكعبة وقال: "والله إني وددت أني لم أكن أحدثت فيها شيئاً، وتركت ابن الزبير وما تقلد" فهو هنا إذن يشعر بالندم لأنه أباح لقائدة الحجاج أن يضرب الكعبة بالمجانيق خلال اعتصام عبد الله بن الزبير بها.
· ويعدد لنا اليعقوبي نفسه بعد ذلك الذين أقاموا الحج للناس من رجال الأمويين خلال السنوات من 72 حتى 85 هـ ، ومنهم عبد الملك نفسه وابنه سليمان وأبان بن عثمان بن عفان والحجاج بن يوسف.
· ولا نشك في كره اليعقوبي الصريح لبني أميه، هو الذي دفعه إلى محاولة تشويه سمعة الأمويين، ولكنه لم يكن متحرزاً فيما أورده، ولا منسجماً مع نفسه في رواياته المتناقضة.
· فاليعقوبي يقدم لنا في تاريخه قائمة برجال بني أمية الذين أقاموا الحج زمن الوليد ويحدثنا عن اهتمام خاص للوليد بن عبد الملك بمقدسات الحجاز في مكة والمدينة، ومما يتناقض مع القول بأنه أراد أن يصرف الناس عن مدينتي الحجاز المقدستين إلى مدينة القدس في فلسطين. فقد ذكر اليعقوبي أن الوليد كتب إلى عمر بن عبد العزيز الذي كان عامله على المدينة بأن يوسع مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يدخل فيها المنازل التي حولها ويدخل فيه حجرات أزواج النبي، كما بعث إلى خالد بن عبد الله القسري واليه إذ ذاك على مكة، بثلاثين ألف دينار، فضربت صفائح وجعلت على باب الكعبة، وعلى الأساطين التي داخلها، وعلى الأركان والميزاب، فكان أول من ذهّب البيت في الإسلام.
· ورواية اليعقوبي هذه ، تؤكدها رواية مؤرخ يعتبر من أقدم من أرخوا لمكة: ذلك هو أبو الوليد محمد بن عبد الله – أو ابن عبد الكريم – بن أحمد الأزرقي. فقد ذكر الأزرقي في كتابه " أخبار مكة " أن الوليد بن عبد الملك عمر المسجد الحرام وعمل عملاً محكماً.
· وهذا دليل واضح على أن اليعقوبي ناقض نفسه واعترف بأن الوليد بن عبد الملك كان من عمار المسجد الحرام، وبهذا تنتفي فرية تحويله الناس من حج بيت الله الحرام إلى القدس، ومع ذلك ما يزال هناك من يعتمد أقوال المستشرقين واليهود للتقليل من قيمة القدس في الإسلام، وإبعاد المسلمين عن نصرتها، ولكن هيهات أن يصدق المسلمون مثل تلك الأباطيل.
وخلاصة القول في فضائل المسجد الأقصى المبارك:
أولاً: إن ذكر الأرض المقدسة "أرض بيت المقدس" جاء في العديد من الآيات في كتاب الله عز وجل:
قال تعالى: ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) [ الإسراء : 1 ].
وقال تعالى: ( ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمَين ) [ الأنبياء : 71 ].
وقال سبحانه: ( وَلِسُلَيْمان الريح تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ) [ الأنبياء : 781 ].
وقال تعالى: ( وجعلنا بينهم وبين القُرَى التي باركنا فيها قُرىً ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياماً ءامنين ) [ سبأ : 18 ].
وقال تعالى: ( والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين ) [ التين : 1 ، 2 ، 3 ]، ذكر بعض المفسرين أن المقصود بالتين: بلاد الشام ، والزيتون: بيت المقدس.
وقال تعالى: ( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين ).
وقال تعالى: ( يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ) [ المائدة : 21 ] .
ثانياً: إن المسجد الأقصى المبارك كان مسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم من أول مسجد وضع في الأرض إلى ثاني مسجد وضع فيها، فجمع له فضل البيتين، ورؤية القبلتين.
ثالثاً: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد الأقصى بالأنبياء إماماً في ليلة الإسراء إقرارٌ لصبغته الإسلامية ولإمامة أمة محمد على المسجد الأقصى، ولم يجتمع الأنبياء على الأرض في غير هذا المكان، فازداد المسجد الأقصى مكانة وتشريفاً.
رابعاً: بشر النبي محمد صلى الله عليه وسلم أمته بفتح المسجد الأقصى قبل أن يفتح، روى عوف بن مالك رضي الله عنه قال: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال اعدد ستاً بين يدي الساعة :- ذكر منها - ثم فتح بيت المقدس )[1]
خامساً: وأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على المسجد الأقصى لفضله وعظيم شأنه ، وأخبر بتعلق قلوب المسلمين به لدرجة أنه يتمنى المسلم أن يكون له موضع صغير يطل منه على المسجد الأقصى أو يراه منه ويكون ذلك عنده أحب إليه من الدنيا وما فيها ، فعن أبي ذر – رضي الله عنه – قال: ( تذاكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل: أمسجد رسول الله أم بيت المقدس ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن[2] فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعاً. قال: أو قال خير من الدنيا وما فيها ) [3].
سادساً: ويدل اهتمام الصحابة رضوان الله عليهم في السؤال عن المسجد الأقصى وأجر الصلاة فيه لعظيم الدلالة على مكانته في قلوبهم ونفوسهم واستعدادهم لفتحه، وقد فُتح في عهد عمر رضي الله عنه في 15هـ ، وكُتبت حينها " العهدة العمرية ".
سابعاً: وأجمع أهل العلم على استحباب زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه، وأن الرحال لا تشد إلا إلى ثلاثة مساجد منها المسجد الأقصى، وتلك المساجد الثلاثة لها الفضل على غيرها من المساجد فقد ثبت في الصحيحين من رواية أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا ) .
ثامناً: وتميزت القدس وبيت المقدس عن كل المدائن التي فتحها المسلمون، وكان تسليمها للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي ركب من مدينة رسول صلى الله عليه وسلم ليتسلم أمانتها، وليعقد بنفسه عهدها، وأوقف أرضها المباركة لتكون أمانة في عنق الأمة إلى قيام الساعة.
تاسعاً: ودخل بيت المقدس من الصحابة رضي الله عنهم جمـع كثير شـدوا الرحال إليه، وقصدوه بالسكن والعبادة والوعـظ والإرشاد، نذكـر منهـم : أبو عبيدة بن الجراح، وكان القائد العام لجيوش الفتح في الشام، وبلال بن رباح، شهد فتح بيت المقدس مع عمر بن الخطاب، وأذن في المسجد الأقصى، ومعاذ بن جبل، وخالد بن الوليد، وعبادة بن الصامت وهو أول من ولي قضاء فلسطين سكن بيت المقدس ودفن فيها، وتميم بن أوس الداري، وعبد الله بن سلام، وغيرهم الكثير الكثير[4] من الصحابة الأخيار.
عاشراً: وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسجد الأقصى ثاني مسجد وضع في الأرض، وفيه مقام الطائفة المنصورة وعقر دار المؤمنين، وفيه يتحصن المؤمنين من الدجال ولا يدخله، وفيه ومن حوله ينطق الحجر والشجر ويقول: ( يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعالى فاقتله )[5]، وفي بيت المقدس الأرض التي يحشر إليها العباد، ومنها يكون المنشر، فعن ميمونة بنت سعد مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله أفتنا في بيت المقدس ؟ فقال :( أرض المحشر والمنشر)[6] .
الحادي عشر: وأتباع رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين بذلوا أرواحهم لطرد الروم والصليبيين منه، ودفعوا تسع حملات صليبية عنه، بقيادة نور الدين محمود بن زنكي، وصلاح الدين الأيوبي رحمهم الله وغيرهم من الحكام المسلمين الذين قادوا المجاهدين المسلمين حتى تحقق على أيديهم تحرير بيت المقدس بعد 91 عاماً من اغتصابها، لأن مكانة الأقصى والقدس في القلوب، وأرض المسلمين المباركة، وهذا من عقيدتنا، ولن ينجح الأعداء في انتزاع هذه المحبة مهما أشاعوا من الأكاذيب.
الثاني عشر: وكانت القدس وما زالت موضع اهتمام علماء المسلمين، وما كتبه علماء المسلمين في فضائل المسجد الأقصى في القرون الأولى وما تلاها لدلالة على مكانتها، وما زالت إلى اليوم تدرس وتحقق تلك المخطوطات والتي جرى عليها من الدراسات الإسلامية والدراسات ذات الصبغة العالمية ما لم يجرِ على أية مدينة إسلامية أخرى.
فالقدس ستبقى وديعة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم عندنا، وأمانة عمر رضي الله عنه في ذمتنا، طال الزمان أو قصر، فالعاقبة للمتقين، وستعود إلينا بإذن الله، وهذا وعده سبحانه، والله لا يخلف الميعاد.
[1] - رواه البخاري .
[2] - الشَّطَن: ( الشَّطَنُ: الحبل، والجمع أشْطان ). وقال في " المعجم الوسيط ": الشَّطَنُ: الحبل الطويل يُستقى به من البئر، أو تشدُّ به الدابة.
[3] - أخرجه الحاكم ووافقه الذهبي وصححه الألباني .
[4]_ للاستزادة في أسماء الصحابة الذين قصدوا بيت المقدس ، راجع : مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام ، والأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل .
[5]_ وتلك الفضائل ثابتة بالأحاديث الصحيحة .
[6] _ صححه الألباني .
العدد الثاني – مجلة بيت المقدس للدراسات
.