فلسطين التاريخ / تاريخ
كلمة العدد- ما هو المخرج.. لنعود لعزنا وغزنا؟!!

كلمة العدد- ما هو المخرج.. لنعود لعزنا وغزنا؟!!
الشرف العام
ما أشبه الليلة بالبارحة حين تقلب صفحات التاريخ... فالحالة التي كانت عليها الأمة في المشرق الإسلامي بالخصوص حين بدأ مشروع الحملات الصليبية لاحتلال القدس ومدن المشرق الاسلامي أشبه بحالنا اليوم.
كثير من المدن والدويلات لم تصمد أمام الهجمات الصليبية بسبب الحالة المزرية التي وصلت بتلك الدويلات وحكامها والصراعات بينهم على متاع الدنيا وكراسي الرئاسة؛ بل وتحالفهم مع النصارى ضد إخوانهم... وإضعاف الخلافة العباسية وانتشار الفرق الباطنية وسيطرتها على الكثير من الدول والمدن... وهكذا سقطت القدس في نهاية المطاف في أيدي الصليبيين واستمر احتلالها لإحدى وتسعين عاما، وأصبح لحكام النصارى صولة وجولة في أرض المسلمين!!
ولعلنا نتساءل كيف كان الخروج من ذلك الظلام؟! وكيف نهضت الأمة من جديد وعرفت طريق نصرها وعزها؟! ومن قاد مسيرة التغيير وكيف قادها؟! وهل كان طريق النصر سهلا؟! وكيف تحول المسلمون من شتات الغوغائية والغثائية إلى أمة عمل وجهاد؟! وكيف كان الطريق للوصول إلى صلاح الدين؟!!
الدور الأول والأساس في إحياء الأمة من جديد - في تلك الفترة وفي كل فترة- قام به العلماء الصالحون الربانيون الذين عرفوا الناس بطريق النصر والعز... وهو طريق الرجوع إلى الله تعالى، وأفهموهم أن للنصر سننا لا بد أن نسير عليها ليتحقق موعود الله بالتمكين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} (محمد:7)، وكان شعارهم هو ما قاله أبو الدرداء رضي الله عنه: "نحن قوم نقاتل عدونا بأعمالنا".
تلك كانت بداية مبشرات ومقدمات إحياء الأمة من جديد، حيث قام العلماء مجتمعين بالإنكار على الخليفة العباسي "الراشد بالله" حيث كان ظالما وفاسدا وشاربا للخمر، ولم يحرك ساكنا مع كل النصح لحفظ بيضة المسلمين ومحارمهم، والدفاع عن مقدساتهم وصد نفوذ الفرق الباطنية التي أضعفت الخلافة، وشقت الصف، وحرفت عقائد المسلمين وتحالفت مع النصارى، ولم تدافع عن القدس والمسجد الأقصى... وكان آخر الدواء الكي!! حين أجمعوا على العمل لتغيير الواقع بالإصلاح الشامل- الراعي والرعية- فنشروا حلقات العلم ونشطوا في واجب الدعوة إلى الله تعالى، والتمسك بالكتاب والسنة، ما أعطى العلماء مكانة وكلمة بين الناس، ونصحوا للخليفة وحذروه ثم نقضوا بيعته وأعلنوا البيعة لعمه، الذي قام بالإصلاح والتغيير لمصلحة المسلمين.
ثم عين الخليفة حاكما للموصل وهو المجاهد "عماد الدين الزنكي"(٥٣٩هـ - ١١٤٥م) ومن هنا بدأ العمل الفعلي... عماد الدين ذلك الرجل الصالح الذي أقام حلقات العلم، وأعاد تدريس وقراءة باب الجهاد في تلك حلقات، وبدأ بالعلم والإصلاح وتهيأت الأمة للجهاد؛ وهكذا نجد أن الإصلاح والإعداد الايماني والعقدي يجب أن يسبق الجهاد، لأن حال الأمة لن يستقيم إلا بالعلاج الشرعي، وترسيخ عقيدة التوحيد بداية ثم الانتقال لما بعد ذلك من أمور.
وحين أعلن "عماد الدين" توحيد الأمة حورب من الدويلات المحيطة به ومنع عنه الامداد والسلاح والمال.... فأمر المجاهدين أن يجتمعوا من كل مكان في الموصل؛ ومنها بدأ تحركه على الدويلات؛ فقصد حلب وضمها إلى حكمه بعد ٤٦ سنة تحت الحكم الصليبي، فاستشعر البابا بالخطر، وتحالف حاكم دمشق المسلم مع حاكم القدس النصراني، وقام الفاطميون باغتيال "عماد الدين زنكي" فتولى مقاليد الحكم من بعده ابنه البطل "نور الدين زنكي" وكان قد تربى في حلقات العلم وسيرة والده الجهادية، وكان من أعظم الحكام المسلمين في ذلك الزمان؛ فبدأ الاصلاح بنشر الدعاة بين الناس ومحاولة القضاء على الفساد، وأصلاح الاقتصاد، وأصلاح نظام القضاء باختيار أهل الصلاح لتولي المناصب... فأصلح في الحكم والاقتصاد والنظام الاجتماعي: وبعد ذلك بدأ يعد للجهاد، وعين قائدين باسلين هما" أسد الدين شيركوه بن شادي بن أيوب" ويسمى" شيركوه الأيوبي" وأخوه" نجم الدين الأيوبي" والد صلاح الدين الأيوبي.
وكان من المبادئ الرئيسة لـ "نور الدين " رحمه الله: أن الأمة لا بد لها - حتى تستطيع أن تواجه عدوها - أن تعد العدة، ولا يمكن لأمة ضعيفة مفككة أن تنتصر فلابد من إعدادها إيمانيا وفكريا وعقائديا واجتماعيا وجهاديا واقتصاديا... ولابد أن تكون عادلة.
وكان من بركة عمل الأبطال المصلحين عماد الدين وابنه نور الدين الزنكي ومن سبقهم من العلماء وعلى مدى خمسين عاما من العمل والإصلاح والإعداد والجهاد أن تقلد القائد "صلاح الدين الأيوبي" الوزارة في مصر ومن هنا بدأ التغيير ليتحقق النصر الفعلي، لأن من سنن الله تعالى أن جعل للنصر أسبابا، وللهزيمة أسبابا كذلك، فأخلص القائد صلاح الدين النية لله تعالى وأصلح وأعاد مصر إلى العقيدة الصحيحة وجند العلماء والوعاظ لحث الناس على الجهاد في سبيل الله، ولم يركن إلى الدنيا فكان مجاهدا في وسط المعركة يقودها بنفسه، ووحد الأقاليم والممالك لا عداد القوة المادية، وإمداد المعركة بالجنود وتحقيق الوحده الاسلامية.
ولم ير الخروج على الخليفة العباسي وبقى وفيا له وهو في حالة الضعف التي يعانيها، ويكتب إليه في كل صغيرة وكبيرة، مع ما كان بيد صلاح الدين من الأقاليم تجعله أهلا أن يكون خليفة، ونشر العدل بين المسلمين، ومن ذلك رفع المكوس عن الحجاج التي كان والي الحجاز يفرضها عليهم، فأحب المسلمون صلاح الدين لأنهم وجدوا منه صدق النية والعمل، وعاش مجاهدا ومات ولم يترك ثروة ولا عقارا.
قال عنه بن شداد: " كان- رحمه الله- عنده من القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال" وقال: وهو كالوالدة الثكلى، يجول بفرسه من طلب إلى طلب، ويحث الناس على الجهاد، ويطوف بين الأطلال بنفسه وينادي: يا للإسلام، وعيناه تذرفان بالدموع.. وكان حين يتفقد الجند ويرى خيمة فيها جنود لا يقومون الليل يشير إلى الخيمة ويقول:" من هذه الخيمة تأتيكم الهزيمة": {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.
ويتحدث صاحبه القاضي "بهاء الدين بن شداد" عن حبه للجهاد، فيقول: ولقد كان حبه للجهاد والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوارحه استيلاء عظيما، بحيث ما كان له حديث إلا فيه، ولا نظر إلا في آلته، ولا كان له اهتمام إلا برجاله، ولا ميل إلا إلى من يذكره ويحثه عليه، ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسائر بلاده، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تهب بها الرياح ميمنة وميسرة.
وخلاصة القول... لن يخرج فينا كأمثال صلاح الدين... ولو بحت حناجرنا.. ما دمنا على حالنا... فـ"صلاح الدين" سبقه جهود علماء مخلصين نشروا العلم، ووجهوا الناس للعمل، حتى تهيأت الأمة وأعدت عدتها للنصر فمقدمات النصر نصر... نسأل الله تبارك وتعالى أن ينصر إخواننا المرابطين في غزة وأن يخفف عن ضعفائهم.
مجلة بيت المقدس للدراسات – العدد السابع
تحميل الموضوع بصيغة:(PDF).. من هنا 👇
. تحميل الملف المرفق