القدس والأقصى / عين على الاقصى

الرد على من أنكر أن المسجد الأقصى أول قبلة للمسلمين

أيمن الشعبان

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

التشكيك بمكان ومكانة المسجد الأقصى المبارك ليس وليد اللحظة أو الصدفة، حتى يأتي هذه الأيام من يهرف بما لا يعرف من النكرات، عبر مواقع التواصل بسرد عدد من الأكاذيب والشبهات والتلبيسات، بكلام مرسل لا زمام له ولا خطام، يدل على جهل مركب بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي عليه الصلاة والسلام وبالتاريخ، وما استقر في النفوس من حقائق وثوابت تلقتها الأمة بالقبول جيلا عن جيل.

مكان ومكانة المسجد الأقصى بين المسلمين ليست موضع خلاف، بل هي من الثوابت الراسخة والحقائق الدامغة والعقيدة الناصعة، التي هي محل اتفاق وإن زعم من زعم خلاف ذلك، فلا يلتفت لما يأتي به بعض النكرات - الذين لا يُحسنون كتابة جملة مفيدة، أو قراءة حتى آية من القرآن بشكل صحيح-، بين الحين والآخر بإعادة تدوير وتكرار لأكاذيب وشبهات المستشرقين مثل المستشرق اليهودي المجري جولد تسيهر، وهو من أقدم من أثار هذه الادعاءات والأكاذيب، وكبيرهم من المعاصرين الصهيوني مردخاي كيدار وغيرهم!

فقد أطلت علينا إحدى مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي في أحد المقاطع المصورة تزعم فيه أنها لا تعترف بأن المسجد الأقصى أول قبلة للمسلمين، بدعوى تدل على جهل مركب وسذاجة منقطعة النظير وخلط للأمور وعدم فهم لأبجديات تاريخ المسجد الأقصى.

زعمت هذه "الإعلامية"! أن المسجد الأقصى بناه عمر بن الخطاب! وكونه كان خليفة للمسلمين بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فكيف يكون أولى القبلتين، وعلى أي قبلة كان يصلي؟! والآيات نزلت بحسب ادعائها- تقول للرسول عليه الصلاة والسلام بأن يتجه إلى الكعبة حتى يميز أتباعه عن الآخرين! ثم استنتجت استنتاجا خارقا بقولها: "هذا يعني أن المسجد الأقصى الذي بناه عمر وجدده معاوية"! ثم أكملت قائلة: "فعلى أي أساس أنتم مقتنعون أنه أولى القبلتين، هو ليس أولى القبلتين"!!

ولنا مع هذه الهرطقات والتخريفات والتخليطات والتشكيكات والأكاذيب والافتراءات والجهالات؛ ردود ووقفات وتقريرات وتفصيلات.

 

المسجد الأقصى منذ آدم عليه الصلاة والسلام:

من الحقائق التاريخية المهمة التي قد تغيب عن كثير من المسلمين، أن المسجد الأقصى المبارك وضع وبُني بناء تأسيس وابتداء في عهد آدم عليه الصلاة والسلام، بعد وضع وتأسيس قواعد المسجد الحرام بأربعين سنة، لما في الصحيحين من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ مسجدٍ وُضِع في الأرضِ أولَ؟ قال: (المسجدُ الحرامُ). قال: قلتُ: ثم أيٌّ؟ (قال: المسجدُ الأقصى). قلتُ: كم كان بينهما؟ (قال: أربعونَ سنةً، ثم أينَما أدرَكَتكَ الصلاةُ بعدُ فصلِّهِ، فإنَّ الفضلَ فيه).

وقول الله عز وجل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}[1]، مع حديث أبي ذر رضي الله عنه، فيهما إشارة لحقيقة تاريخية مهمة وعمق في المعنى، من خلال قول ربنا {أول} في الآية، والسؤال بـ" أول " في الحديث، للدلالة على بداية زمانية من حيث الأولية المطلقة، ومكانية من حيث التأسيس والتحديد واختيار المكان، وهنا تكمن أهمية هاتين البقعتين وترابط المسجدين.

يقول ابن عاشور في تفسيره (12/4): وَمَعْنَى وُضِعَ أُسِّسَ وَأُثْبِتَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمَكَانُ مَوْضِعًا، وَأَصْلُ الْوَضْعِ أَنَّهُ الْحَطُّ ضِدُّ الرَّفْعِ، وَلَمَّا كَانَ الشَّيْءُ الْمَرْفُوعُ بَعِيدًا عَنِ التَّنَاوُلِ، كَانَ الْمَوْضُوعُ هُوَ قَرِيبَ التَّنَاوُلِ، فَأُطْلِقَ الْوَضْعُ لِمَعْنَى الْإِدْنَاءِ لِلْمُتَنَاوَلِ، وَالتَّهْيِئَةِ للِانْتِفَاع.

المشهور عند الناس أن إبراهيم - عليه السلام - أول من بنى المسجد الحرام، ويعقوب أو سليمان أول من بنى المسجد الأقصى، وقد تنوعت أقوال العلماء في تحديد ذلك، لكن المتأمل للآية والحديث مع النظر التاريخي، يجد أن أقرب الأقوال وأرجحها، أن المسجد الحرام والمسجد الأقصى بنيا بناء تأسيس وابتداء ووضع للقواعد في زمن آدم - عليه السلام.

 والمتناقل أن آدم - عليه السلام بنى المسجد الحرام، ثم بعده بأربعين سنة بني المسجد الأقصى أي في زمانه-، وممكن أن يكون من قِبَلِ أبنائه لانتشارهم بعده، قال ابن الجوزي: الْإِشَارَة إِلَى أول الْبناء وَوضع أساس المسجدين، وَلَيْسَ أول من بنى الْكَعْبَة إِبْرَاهِيم، وَلَا أول من بني بَيت الْمُقَدّس سُلَيْمَان، وَفِي الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ والبانين كَثْرَة، فَالله أعلم بِمن ابْتَدَأَ. وَقد روينَا أَن أول من بنى الْكَعْبَة آدم، ثمَّ انْتَشَر وَلَده فِي الأَرْض، فَجَائِز أَن يكون بَعضهم قد وضع بَيت الْمُقَدّس[2].

وذكر القرطبي نحو ذلك ورجح الحافظ ابن حجر أن بناء المسجد الأقصى في عهد آدم، كما بني المسجد الحرام في عهده، فيقول: وكذا قال القرطبي أن الحديث لا يدل على أن إبراهيم وسليمان لما بنيا المسجدين ابتدآ وضعهما لهما، بل ذلك تجديد لما كان أسسه غيرهما[3].

ولقد أدرك أهمية الأقصى صفوة البشر من الأنبياء والصالحين، فتعاقبوا على بنائه ورفعه وتجديده، فقد جدده إبراهيم - عليه السلام ثم لما هَرِم جدده يعقوب، كما رفع بنيانه وبناه سليمان - عليهم السلام، وبقيت عمارته جيلاً عن جيل حتى يومنا هذا.

فدعوى أن عمر رضي الله عنه هو أول من بنى المسجد الأقصى الأولية المطلقة هذا جهل مطبق، بل هو أول من بناه في الإسلام، بعد أن كان تحت الاحتلال البيزنطي، أي حدد موضع الصلاة وبنى المصلى الذي يقف فيه الإمام ويتبعه بقية المصلين.

فالمسجد الأقصى بدلالة القرآن موجود قبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام بدليل قول الله عز وجل عن هجرته، {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}[4]، وبركة الأرض من بركة وجود المسجد الأقصى فيها، كما قال سبحانه وتعالى: {الذي باركنا حوله}.

كذلك وجود المسجد الأقصى قبل موسى عليه الصلاة والسلام الذي قال لقومه {ادخلوا الأرض المقدسة} لقداسة المسجد الذي فيها، وأيضا هو قبل داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام الذي قال الله عنه: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}[5].

وقد تعبد زكريا عليه الصلاة والسلام في محراب المسجد الأقصى، وبشره الله بيحيى عليه الصلاة والسلام الذي قام خطيبا في المسجد الأقصى كما صح في الحديث، وتكفل زكريا مريمَ عليها السلام، وقد صلى فيه نبينا عليه الصلاة والسلام إماما بجميع الأنبياء ليلة الإسراء والمعراج كما صح في ذلك الحديث.

فالمسجد الأقصى هو ثاني مسجد وضع في الأرض ومتعبدُ الأنبياء جميعا، ومحرابهم ومحل دعوتهم إلى توحيد الله عز وجل، فمكانته قديمة وارتباطه بالمسلمين ارتباط عقدي شرعي إيماني لا شك في ذلك.

 

المسجد الأقصى أول قبلة للمسلمين:

من الترهات والأغاليط التي أثارتها تلك الإعلامية، أن المسجد الأقصى لم يكن أول قبلة للمسلمين! بدعوى أنه لم يكن قائما في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وأول من بناه عمر رضي الله عنه بعد فتحه!

هذه المغالطة المفضوحة المكشوفة تدل على جهل بالنصوص الشرعية وحقائق الأشياء، وسوء في النوايا وخلط للمفاهيم وقياس فاسد، فلا يمكن الوصول لنتائج صحيحة بناءً على مدخلات ومقدمات غير سليمة وفاسدة، وما بني على فاسد فهو فاسد، وما بني على باطل فهو باطل، وما بني على خطأ فهو خطأ!

تظن هذه وأمثالها أن المسجد حتى يسمى مسجداً لابد فيه من بنيان قائم كما هو حال المساجد الآن، وهذا فهم قاصر لمعنى وحقيقة المساجد، لذلك نظرت لحال البنيان وقاست عليه بقياس فاسد حقيقة المسجد، وهذا تنزيل مغلوط بناءً على فهم مغلوط!

المسجد لغة: هو موضع السجود، فالمكان الذي يسجد فيه المصلون تعبداً لله سبحانه، يسمى مسجدا، ولو كان أرضا خاليا من أي بناء، فالمسجد ليس هو البناء فوق الأرض تحديداً، وإنما هو الأرض نفسها التي يُسجدُ فيها لله تعالى.

ولو نظرنا ورجعنا لأحداث التاريخ، فإن المسجد الأقصى هُدم وأحرق قرابة عشرين مرة ثم يعاد بناؤه، كما أن الكعبة هدمت أكثر من مرة وأعيد بناؤها، وكان البناء في حينها لكل منهما عبارة عن سور يحيط بتلك الأرض.

فالمسجد الأقصى ليس هو المصلى القبلي أو مسجد قبة الصخرة، فهما جزء من المسجد الأقصى، وكل ما بداخل الأسوار التي مساحتها 144 دونماً هي المسجد الأقصى التي تحتوي على أكثر من 200 معلم.

وقد نص الله سبحانه وتعالى على أن هنالك قبلة كان يصلي إليها النبي عليه الصلاة والسلام قبل الكعبة هي بيت المقدس، قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}[6]، وقد ذكر ابن كثير في تفسيره ما أخرجه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه قوله: "صَلَّيْنَا مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ، أوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ صَرَفَهُ نَحْوَ القِبْلَةِ"، وهذا كان بعد الهجرة إلى المدينة.

أضف لذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في مكة طيلة ثلاث عشرة سنة يصلي أيضا وكانت قبلته بيت المقدس، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ بِمَكَّةَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَعْدَ مَا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ صُرِفَ إِلَى الْكَعْبَةِ[7].

قال ابن إسحاق: كانت قبلة رسول الله بمكة إلى الشام، وكانت صلاته بين الركن اليمانى والركن الأسود، ويجعل الكعبة بينه وبين الشام[8].

والإشكال الذهني في عقول محدودي الفهم، بتلازم البنيان مع ثبوت القبلة، فعدم وجود بناء معهود كحال مساجد هذه الأيام يؤدي بحسب فهمهم القاصر- بعدم ثبوت القبلة! والحقيقة أن القبلة تكون للجهة والمكان والبقعة بصرف النظر عن طبيعة البناء المشيد فيها، كحال قبلة المسلمين الكعبة، فلم يكن البناء الحالي للمسجد الحرام معهودا في السابق، ولكن الناس يتجهون إلى الجهة التي هي موضع الكعبة وإن لم يروها!

فعندما نقول المسجد الأقصى المبارك، فهي البقعة من الأرض الموجودة في بيت المقدس، وهي مكان مبارك وأرض مطهرة وبقعة مباركة، مهما تعرضت لمحن واعتداءات وتعاقب عليها المغتصبون، وعاثوا فيها فسادا وانتهاكا وظلما، ستبقى مكانتها الدينية العقدية التاريخية الشرعية الإيمانية راسخة وثابتة لا تغيرها طوارئ الزمان أو عوارض الأحداث.

والتشكيك بمكان المسجد الأقصى أو بأنه قبلة المسلمين الأولى؛ ما هي إلا محاولة يائسة للتشكيك بمكانته في نفوس المسلمين، وبالتالي تقدم هدية وخدمة مجانية للصهاينة المغتصبين، لاستمرار مسلسل العدوان والتهويد، ووضع المسوغات والمبررات من قبل من يتسمى بأسماء عربية وإسلامية! بتزهيد الأجيال عن العناية به ومحبته والدفاع عنه كمقدس مهم ومكان معظم لدى عامة المسلمين.

 

18 ذو القعدة 1444هـ

7/6/2023م



[1] (آل عمران:96).

[2] كشف المشكل من حديث الصحيحين (1/360).

[3]فتح الباري( 6/409)، ط. دار المعرفة.

[4] [الأنبياء:71].

[5] [الأنبياء:81].

[6] [البقرة:143].

[7]أخرجه أحمد بسند صحيح، وصححه الألباني في الثمر المستطاب ص836.

[8] شرح صحيح البخاري لابن بطال (2/59).

.