فلسطين التاريخ / تاريخ
المسجد الإبراهيمي ..معانيه ودلالاته ومحظوراته
المسجد الإبراهيمي ..معانيه ودلالاته ومحظوراته
سعيد إدريس
كثيراً ما يطرق أسماعنا كلام الناس حول تَسميةَ المسجدِ الإبراهيميِّ في مدينة الخليل، حَرَماً، ويقولون عنه : "الحرم الإبراهيمي" لذا كان هذا المبحث ، وسأتناول فيه العناصر التالية:
أولاً: الحَرَم -لغةً واصطلاحاً-.
ثانياً: الحرمان الشريفان: مكة وما حولها، والمدينة وما حولها.
ثالثاً: تسمية المسجد الإبراهيمي: حَرَماً.
أولاً: الحَرَم -لغة واصطلاحاً-.
الحرَم -في اللغة-: هو ما امتنع فعله، وهو نقيض الحلال، والجمع حُرُمٌ، وأَحْرامٌ([1]).
و-في الاصطلاح- هو: المكان الذي حُرِّم فيه كثيرٌ مما ليس بمحرَّمٍ في غيره، كالصّيْدِ وقطعِ النَّباتِ ونحوِهِما([2])، ويطلق على مكانَيْن: مكةَ وما حولَها، والمدينةِ وما حولَها.
ثانياً: الحرمان الشريفان: مكة وما حولها، والمدينة وما حولها.
أ: مكة وما حولها، قال -تعالى- مُمْتَنًّا على قريش أنه جعل لهم مكة حرماً آمناً: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [العنكبوت: 67]، قال القرطبي: «أي: جَعَلْتُ لهم حَرماً آمنًا، وأَمِنُوا من السَّبْيِ والغارةِ والقتل»([3]).
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما-: أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله حرَّم مكة، فلم تَحِلَّ لأحد قبلي، ولا تَحِلُّ لأحد بعدي، وإنما أُحلَّت لي ساعةً من نهار، لا يُخْتَلى([4]) خَلاها([5])، ولا يُعْضَدُ([6]) شجرُها، ولا يُنَفَّرُ صيدُها، ولا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُها([7]) إلا لمُعَرِّف([8])»، وقال العباس: يا رسول الله إلا الإذْخِرَ لصاغَتِنا([9])وقُبُورِنَا، فقال: «إلا الإذْخِر([10])».
وعن خالد عن عكرمة، قال: هل تدري ما «لا يُنَفَّرُ صَيدُها؟» هو أن يُنَحِّيَهُ من الظل ينزل مكانه([11]).
ب: المدينة وما حولها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «المدينة حَرَم من كذا إلى كذا، لا يُقطع شجرها، ولا يُحْدَثُ فيها حدث([12])، من أحدث فيها حدثاً؛ فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين»([13]).
وقد وردت أحاديث كثيرة تبين ذلك، منها ما رواه عبدالله بن زيد بن عاصم، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ إبراهيم حرَّم مكة، ودعا لأهلها، وإني حَرَّمْتُ المدينة، كما حَرَّمَ إبراهيمُ مكَّةَ، وإني دعوت في صاعها، ومُدِّها، بِمِثْلَيْ ما دعا به إبراهيمُ لأهل مكَّة»([14]).
وللحرَمينِ الشريفينِ مزايا وخصائص وفضائل كثيرةٌ جدًّا([15])، من أهمها مضاعفةُ أجرِ الصلاةِ فيهما بما لا مَزيدَ عليه؛ فعن عبدالله بن الزبير قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «صلاةٌ في مسجدي أفضل من ألفِ صلاة فيما سواهُ من المساجدِ، إلا المسجدَ الحرامَ، وصلاةٌ في المسجدِ الحرامِ أفضلُ من مائةِ صلاةٍ في مسجدي»([16]).
ثالثاً : تسمية المسجد الإبراهيمي: حَرَماً.
والمسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل، لم يرد فيه شيء من الكتاب والسنة يُحرِّمُه ويَجعلهُ حَرَماً، ولا يُوجد فيه، أو حَولَهُ مكانٌ حَرَّمَ اللهُ صَيدَه ونباتَه، بل إن هذا المسجدَ في حقيقةِ أمره مقبرةٌ؛ لا تجوز الصلاة فيه؛ لأنَّ فيه عِدّةَ قبورٍ مرفوعةٍ بارزةٍ ظاهرةٍ في وسطه وبعض نواحيه؛ منسوبة لأربعة أنبياءَ مِن بني إسرائيلَ وزوجاتِهِم، وهم: إبراهيم، واسحاق، ويعقوب، ويوسف، وسارة، ورِفقة، ولِيئة، فعن عائشة وعبد الله بن عباس –رضي الله عنهما-، قالا: لمَّا نَزَلَ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- طَفِقَ يَطرَحُ خميصةً لهُ على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفها عن وجهِهِِ، فقال وهو كذلك: «لعنةُ الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ» يُحَذِّرُ ما صَنعوا([17])، أي: يُحذِّر أُمتَه أن يفعلوا مثل فعلهم، فيتخذوا على القبور مساجدَ.
وفي رواية عن عائشة –رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن اللهُ اليهودَ والنصارى، اتخذوا قبورَ أنبيائهم مسجدًا»، قالت: فلولا ذاك لأُبْرِزَ قبرُهُ، غيَر أنه خُشِيَ أنْ يُتَّخَذَ مسجدًا([18]).
فقد لعن النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- اليهودَ والنصارى على العموم؛ لاتخاذهم القبورَ مساجدَ، بل وأخبر أنهم بهذه الفِعلة أصبحوا شرارَ الخلق عند الله؛ فعن عائشة أنَّ أمَّ سلمَةَ ذكرت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كنيسةً رأتها بأرض الحبشةِ يُقال لها: ماريةُ، فذكرت له ما رأتْ فيها من الصور، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أولئك قومٌ إذا مات فيهم العبدُ الصالح -أو الرجل الصالح-؛ بنوْا على قبرهِ مسجداً وصوَّروا فيه تلك الصورَ، أولئك شرارُ الخلق عند الله»([19]).
وإن أول من فتح هذا البناءَ هم جهلةُ المسلمين، أو
النصارى لما استوْلَوْا على تلك البلاد، أو أن بعضهم أَوْحَى إلى بعض بذلك، وحصل
ذلك كلُّه بعد القرون الثلاثة المفضلة الخيرية، ولقد كان سلفنا الصالح
–رضي الله عنهم- َيْمَتِنعُونَ عن الصلاة فيه، ويَمْنَعُونَ غيرهم عن الصلاة فيه؛
طاعةً لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحذراً من معصيتِه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - عن قبر الخليل في المسجد الإبراهيمي في «مجموع الفتاوى» (27/18): «ولم تكن القُبَّة التي على قبره مفتوحةً؛ بل كانت مسدودةً، ولا كان السلف من الصحابة والتابعين يسافرون إلى قبره ولا قبر غيره؛ لكن لمَّا أخذ النصارى تلك البلاد فسوَّوْا حجرتَه واتخذوها كنيسةً، فلما أخذ المسلمون البلادَ بعد ذلك؛ اتخذ ذلك من اتخذه مسجداً، وذلك بدعة منهي عنها».
وقال في «الاقتضاء» (331): «وقد كانت البِنية التي على قبرِ إبراهيمَ -عليه السلام- مَسدُودَةً لا يُدخل إليها إلى حدود المئة الرابعة، فقيل: إن بعض النِّسوة المتصلات بالخلفاء رَأَتْ في ذلك منامًا فنقبت لذلك! وقيل: إنَّ النصارى لما استوْلَوْا على هذه النواحي نَقبوا ذلك، ثم تُرِك ذلك مسجدًا بعد الفتوح المتأخرة، وكان أهلُ الفضل من شيوخنا لا يُصَلُّون في مجموع تلك البِنية، ويَنْهَوْنَ أصحابَهم عن الصلاة فيها([20])، اتباعًا لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واتقاءً لمعصيتِه -كما تقدم-».
وقرر شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - في «مجموع الفتاوى» (1/107، 2/192): أن المساجد التي بُنِيَتْ بعد القبور يجبُ هدمها، أو أن تُزال صورة القبر، وأن المساجدَ التي كانت قبل الدفن، سُوِّيت القبورُ فيها، أو نُبِشَتْ وأُخِرجت من المسجد، قال: «اتفق الأئمة أنه لا يُبنى مسجدٌ على قبر؛ لأن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبورَ مساجدَ، ألا فلا تتخذوا القبورَ مساجدَ؛ فإني أنهاكم عن ذلك»، وأنه لا يجوز دفن مَيتٍ في مسجد، فإن كان المسجد قبل الدفن غُيِّر، إما بتسويةِ القبر، وإما بنبشه إن كان جديداً، وإن كان المسجدُ بُنيَ بعد القبر، فإما أن يُزال المسجد وإما تزال صورة القبر، فالمسجد الذي على القبر لا يُصلَّى فيه فرضٌ ولا نفلٌ؛ فإنه منهيٌّ عنه».
أما حكم الصلاة في المساجد التي فيها قبور، فهي حرام بالاتفاق، فقد ذهب الإمام أحمد إلى بطلانها، وذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية – رحمهم الله جميعاً - إلى كراهتها كراهةً تحريمية.
وقد فصَّل الإمام الألباني – رحمه الله - في هذه المسألة تفصيلاً علمياً بديعاً، وذهب إلى أن قَصْد الصلاة في المساجد المبنية على القبور يُبطل الصلاة فيها، وأن الصلاة فيها اتفاقاً بدون قصد، كبيرة من الكبائر وفيها إثم شديد، لكن مع صحة الصلاة.
قال في «تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد» (121): «ذكرنا فيما سبق (ص 30) أن النهي عن بناء المساجد على القبور يستلزم النهي عن الصلاة فيها من باب أن النهي عن الوسيلة يستلزم النهي عن الغاية بالأولى والأحرى، فينتج من ذلك أن الصلاة في هذه المساجد منهي عنها، والنهي في مثل هذا الموضع يقتضي البطلان كما هو معروف عند العلماء، وقد قال ببطلان الصلاة فيها الإمام أحمد وغيره.
ولكنا نرى أن المسألة تحتاج إلى تفصيل؛ فأقول:
قَصْدُ الصلاةِ في المساجدِ المبنيةِ على القُبورِ يُبْطِلُ الصلاة
إن للمصلي في المساجد المذكورة حالتين:
الأولى: أن يَقْصِدَ الصلاةَ فيها من أجل القبور والتبرك بها كما يفعله كثير من العامة، وغير قليل من الخاصة!
الثانية: أن يُصلي فيها اتفاقاً لا قَصداً للقبر.
ففي الحالة الأولى لا شك في تحريم الصلاة فيها بل في بطلانها؛ لأنه إذا نهى –صلى الله عليه وسلم- عن بناء المساجد على القبور، ولَعَنَ من فَعَلَ ذلك، فالنَّهيُ عن قصد الصلاة فيها أولى، والنهي هنا يقتضي البطلان كما سبق قريباً.
كراهية الصلاة في المساجد المذكورة ولو لم تُقْصَدْ من أجل القبر
وأما في الحالة الثانية، فلا يتبين لي الحكم ببطلان الصلاة فيها، وإنما الكراهة فقط؛ لأن القول بالبطلان في هذه الحالة لا بد له من دليل خاص، والدليل الذي أثبتنا به البطلانَ في الحالة الأولى لا يمكن سحبه على هذه الحالة، ذلك لأن البطلان في الحالة السابقة، إنما صح بناءً على النهي عن بناء المسجد على القبر، وهذا النَّهيُ لا يُتَصَوَّرُ إلا مع تحقق قصد البناء، فيصح القولُ بأن قصدَ الصلاةِ في هذا المسجد يبطلها، وأما القول ببطلان الصلاة فيه دون قصد، فليس عليه نهيٌ خاصٌ يمكن الاعتماد عليه فيه، ولا يمكن أن يقاس عليه قياساً صحيحاً.
ولعل هذا هو السبب في ذهاب الجمهور إلى الكراهة دون البطلان، أقول هذا معترفاً بأن الموضوع يحتاج إلى مزيد من التحقيق، وأن القول بالبطلان مُحتَمَلٌ، ومن كان عنده علم في شيء من ذلك، فليتفضل ببيانه مع الدليل مشكوراً مأجوراً.
وأما القول بكراهة الصلاة في المساجد المبنية على القبور، فهذا أقل ما يمكن أن يقولَهُ الباحثُ؛ وذلك لأمرين:
الأول: أن في الصلاة فيها تشبُّهاً باليهودِ والنصارى الذين كانوا ولا يزالون يَقصِدون التعبُّدَ في تلكَ المساجدِ المبنيةِ على القبور!([21]).
الثاني: أن الصلاة فيها ذريعةٌ لتعظيم المقبور فيها تعظيماً خارجاً عن حد الشرع، فيُنْهى عنها احتياطاً وسداً للذريعة، لا سيَّما ومفاسدُ المساجدِ المبنيةِ على القبور ماثلةٌ للعيَان كما سبق مراراً، وقد نصَّ العلماءُ على كلٍّ من العلَّتين.
فقال العلامة ابن الملك مِنْ علماءِ الحنفيةِ: «إنما حَرُمَ اتخاذُ المساجدِ عليها؛ لأنَّ في الصلاةِ فيها؛ استناناً بسنة اليهود».
نقله الشيخ القاري في «المرقاة» (1/470) وأقره، وكذلك قال بعضُ العلماءِ المتأخرينَ من الحنفيةِ وغيرِهم كما سيأتي.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميةَ – رحمه الله - في «القاعدة الجليلة» (ص22): «واتخاذ المكان مسجداً هو أن يُتَّخَذَ للصلواتِ الخمسِ وغيرها، كما تُبنى المساجدُ لذلك، والمكانُ المتخذُ مسجداً إنما يُقْصَدُ فيه عبادةُ الله ودعاؤه لا دعاءَ المخلوقينَ، فحرَّم –صلى الله عليه وسلم- أن تُتَّخَذَ قبورهمْ مساجدَ تُقصدُ الصلواتُ فيها كما تُقصَدُ المساجدُ، وإن كان القاصِدُ لذلك إنما يَقصِدُ عبادةَ اللهِ وحدَهُ؛ لأن ذلك ذريعةٌ إلى أن يَقصِدُوا المسجدَ لأجلِ صاحبِ القبرِ ودعائهِ والدعاءِ بهِ والدعاءِ عندَهُ، فنهى رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- عن اتخاذِ هذا المكانِ لعبادةِ اللهِ وحدَهُ لئلا يُتَّخَذَ ذريعةٌ إلى الشرك بالله ، والفعلُ إذا كان يُفضي إلى مفسدةٍ وليسَ فيه مصلحةٌ راجحةٌ؛ يُنهى عنه ...
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في «اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم» (ص159): «فهذه المساجدُ المبنيةُ على قبور الأنبياءِ والصالحينَ والملوكِ وغيرِهِم؛ يَتَعَيَّنُ إزالتُها بهدمٍ أو بغيرِه، هذا مما لا أعلَمُ فيه خلافاً بين العلماءِ المعروفينَ، وتُكرهُ الصلاةُ فيها من غيرِ خلافٍ أعلمُهُ، ولا تصحُّ عندنا في ظاهرِ المذهب لأجلِ النهيِ واللعنِ الواردِ في ذلك، ولأجلِ أحاديثَ أُخَرَ...»ا.هـ
ومع الأسف الشديد فقد أصبح المسلمونَ في زماننا هذا، بالرًُّغمِ من كل هذه اللَّعناتِ المتتابعاتِ، والتحذيراتِ المتتالياتِ، والكلماتِ البيِّناتِ؛ يُنافسونَ اليهودَ والنَّصارى([22])ويُزاحِمُونَهُم على الصلاة فيه([23])، وما هذا إلا تصديقٌ لِما أخبَرَ بهِ النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- من اتباعِ أمتهِ سَنَنَ اليهودِ والنصارى وطرائِقِهِم، حيثُ قال: «لتتَّبِعُنَّ سَنَنَ من كان قبلكم شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ تبِعتموهم»، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: «فَمَنْ؟»([24]).
إنَّ حقيقة تسمية المسجد الإبراهيمي، حرمَاً، لهو من تسميةِ الأشياءِ بغيرِ اسمِها([25])، ورسمِ الأشياءِ بغيرِ رسمِها، ووضعِ الأشياءِ في غيرِ موضِعِها، بل هو من الغُلُوِّ في الدِّين، الذي حذَّرنا منه رسول رب العالمين، وزيادةِ تعظيمٍ لهذه المساجدِ، وإعطائِها أكثرَ مما أُعْطِيَتْ في الدين، فعن ابن عباس –رضي الله عنهما- أنَّ النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- قال له: «وإياكم والغُلُوَّ في الدين؛ فإنما أهْلَكَ من كان قبلكم الغُلُوُّ في الدين»([26]).
وهو تحريمٌ لما لم يُحَرِّمْه الله –عز وجل- كذبًا وافتراء عليه، قال تعالى: { وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ } [النحل:116].
فهذه التَّسْمِيَةُ شرعاً لا تجوز؛ بل هي بدعةٌ في الدِّين لا أصلً لها، فإذا عَرَفْتَ ذلك، فاعْلَمْ أنَّهُ ليس للمُسلمينَ سِوَى حرَمين اثنين فقط، لا ثالث لهما، هما مكة وما حولَها، والمدينةِ وما حولَها، وأما «وَجُّ» الذي بالطائف، ففيه نزاعٌ بين العلماء، والراجحُ أنه ليس بحرم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : «وليسَ ببيتِ المقدسِ مكانٌ يُسمَّى حَرَمَاً، ولا بتربةِ الخليل([27])، ولا بغيرِ ذلك من البقاعِ([28])إلا ثلاثةَ أماكن.
أحدها: هو حرمٌ باتفاقِ المسلمينَ، وهو -حرمُ مكَّةَ- شرَّفَها الله –تعالى-.
والثاني: حرمٌ عند جمهورِ العلماءِ، وهو حرمُ النبيِّ –صلى الله عليه وسلم- من عيرٍ إلى ثورٍ بريد في بريد؛ فإنَّ هذا حرمٌ عند جمهورِ العلماءِ كمالك، والشافعي، وأحمد، وفيه أحاديثُ صحيحةٌ مستفيضةٌ عن النبيِّ –صلى الله عليه وسلم-.
والثالثُ: «وَجٌّ»، وهو وادٍ بالطائف، فإنَّ هذا روي فيه حديثٌ رواه أحمدُ في المسند([29])، وليس في الصحاح، وهذا حرمٌ عند الشافعيِّ لاعتقادهِ صحَّةَ الحديثِ، وليس حَرَمَاً عندَ أكثرِ العلماءِ، وأحمدُ ضعَّفَ الحديثَ المرويَّ فيه([30])، فلم يأخذْ به، وأمَّا ما سوى هذه الأماكن فليس حَرَمَاً عندَ أحدٍ من علماءِ المسلمينَ، فإنَّ الحَرَمَ ما حَرَّمَ اللهُ صَيْدَهُ ونباتَهُ، ولم يُحرِّمِ اللهُ صَيْدَ مكانٍ ونباتَهُ خارجاً عن هذه الأماكن الثلاثة»([31]).
حول : تسمية المسجد الأقصى حرماً :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : «. . . والأقصى اسم للمسجد كلِّهِ، ولا يُسمى هو ولا غَيرُهُ حَرَماً، وإنما الحَرَمُ بمكةَ والمدينة خاصَّة، وفي وادي «وَجٍّ» بالطائفِ نزاعٌ بين العلماء»([32]).
فالمسجد الأقصى كذلك لم يرد في الكتاب والسنة ما يَجعلُه، أو يُسميه حَرَماً، وليس فيه مكان حُرِّمَ صَيْدُه ونباته، إنما ورد فيه أنه يُشَدُّ إليه الرِّحال: فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجدِ الأقصى»([33]).
والمسجدُ الأقصى من المساجد التي ضُوعِفَ فيها أجر الصلاة والمغفرة، فعن أبي ذرٍّ –رضي الله عنه- قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيهما أفضل؟ أمسجدُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أم بيتُ المقدس؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «صلاةٌ في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المُصلى هو، ولَيُوشِكَنَّ لأن يكون للرجل مثلُ شَطَن([34]) فرسِه من الأرض حيث يَرى منه بيتَ المقدس خيرٌ له من الدنيا جميعاً، أو قال: خير له من الدنيا وما فيها»([35])، فالصلاة في المسجد الأقصى تعدل مِئَتيْنِ وخمسينَ صلاةً في غيره من المساجد، إلا المسجد الحرام والمسجد النبوي.
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أنَّ سليمان بن داود -صلى الله عليه وسلم-، لمَّا بنى بيت المقدس (وفي رواية: لمّا فرغ من بناء مسجد بيت المقدس) سأل الله –عزَّ وجل- خِلالاً ثلاثةً: سأل الله -عزَّ وجل- حُكْمَاً يُصادِفُ حُكْمَه؛ فأُوتيه، وسأل الله –عزَّ وجل- مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده؛ فأُوتيه، وسأل الله –عزَّ وجل- حين فرغ من بناء المسجد، أن لا يَأْتِيَه أحدٌ لا يَنْهَزُهُ ([36]) إلا الصلاةُ فيه، أن يُخرجَه من خطيئته كيومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ»، وفي رواية: فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «أمَّا اثنتان فقد أُعطِيَهُما، وأرجو أن يكون قد أُعطِيَ الثالثة»([37]).
والحمد لله رب العالمين
------------
([16]) أخرجه الترمذي (325)، والنسائي (2897)، وابن ماجه (1406)، وصححه الإمام الألباني في «الإرواء» (4/146 و 1129).
([20]) قلت: ولا يزال الخير باقياً؛ فقد قام بعضُ أهل العلم والفضل من أهل الخليل ممن تعلَّم في الأزهر في الثلاثينيَّات من القرن العشرين الميلادي بترك الصلاة في المسجد الإبراهيمي بسبب القبور وكثرة البدع فيه، بل وقاموا ببناء مسجد بالقرب منه على بعد (500م) تقريباً لِيُصَلُّوا فيه، وليُحييوا السنَّة، وسمَّوْه مسجدَ «السنَّة».
([21]) قرأت مقالاً في مجلة «المختار» عدد مايو 1958 تحت عنوان «الفاتيكان المدينة القديمة المقدسة» يصف فيه كاتبه «رونالد كارلوس بيتي» كنيسة بطرس في هذه المدينة فيقول (ص 40):
«إن كنيسة القديس بطرس وهي أكبر كنيسة من نوعها في العالم المسيحي، تقوم على ساحة مكرَّسة للعبادة المسيحية منذ أكثر من سبعة عشر قرناً، إنها قائمة على قبر القديس نفسه: صياد السمك، حواري المسيح، وتحت أرضيتها يقع تيه من المقابر الأثرية، والخرائب الرومانية القديمة».
ثم ذكر أنه يقصدها نحو مائة ألف شخص في أيام الأعياد الكبيرة للعبادة! (الألباني).
([22]) انظر «الحكم بما أنزل الله فرض عين على كل مسلم –مقالات سعد الحصين-» مقال: «التقرب إلى الله بمعصيته»، و مقال: «أرض شهاب الدين» (91-96).
([23]) بعد أن قام اليهود بقيادة باروخ غولد شتاين في 15/رمضان/1414هـ الموافق 25/2/1994م بمذبحة المسجد الإبراهيمي، التي قُتل فيها العشرات وجُرحَ المئات؛ وضعوا أيديهم عليه، وحاولوا أن يمنعوا المسلمين من الصلاة فيه، ليستأثروا به لأنفسهم؛ لأنَّ فيه قبور آبائهم وأجدادهم -كما يزعمون- ، فقام بعض المشايخ ممن ليس لهم كبير اهتمام بصيانة جَناب التوحيد يَدْعون الناس لترك الصلاة في المساجد القريبة منه والذهاب إليه للصلاة فيه؛ لكي لا يأخذه اليهود، غافلين أو متغافلين عن كون الصلاة فيه لا تجوز؛ بسبب القبور التي فيه، فقام اليهود بتقسيمه بينهم وبين المسلمين كل فريق له مكان معلوم يُصلي فيه صلاته، فأصبح مسجداً للمسلمين وكنيسٍ لليهود في آن واحد، وأصبحت المنافسة فيه ظاهرة بين الفريقين، المسلمون ينافسون أهل الكتاب على المساجد التي فيها قبور، ولا حول ولا قوة إلا بالله، واللهَ نسألُ أن يُعيده وسائر مساجد وبلاد المسلمين المغتصبة إلى حظيرة الإسلام والمسلمين، وأن يُهيئ له من يُحَوِّلَه عن القبور والبدعة إلى سنَّة النبي –صلى الله عليه وسلم- وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وهدي السلف الصالحين، والله خير معين.
([25]) وهذه طريقة أهل الأهواء ؛ لاستحلال ما حَرَّمَه الله –تعالى- فعن أبي مالك الأشعري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «ليشربنَّ ناسٌ من أمتي الخمرَ يُسمُّونَها بغيرِ اسمها» أخرجه أبو داود (3688 و 3689)، وحسَّنه الإمام الألباني في «الصحيحة» (89و90و91).
([27]) انظر «معجم المناهي اللفظيَّة» (130)، و«السلفيون وقضيَّة فلسطين» (12و221)،و«اتباع لا ابتداع» (204-207)، و«إتحاف الأنام بفضائل المسجد الأقصى والشام» (ص: 86-87).
([29]) برقم (1416) عن الزبير -رضي الله عنه- قال: أَقْبَلْنا معَ رسولِ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- من لِيَّةَ [أرض من الطائف على أميال منها]، حتى إذا كُنَّا عند السِّدْرَة، وقف رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في طَرف القَرْنِ الأسودِ حَذْوَها، فاستقبل نَخِبًا ببصره -يعنى واديًا- ووقف حتى اتَّقَفَ الناس كلُّهم، ثم قال: «إنَّ صَيْدَ وَجٍّ وعِضَاهَهُ حَرَمٌ مُحَرَّم لله» وذلك قبل نزوله الطائفَ وحصارِه ثَقيفَ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط في تعليقه على المسند: إسناده ضعيف.
([30]) وضَعَّفَهُ البخاري، والأزدي، وابن حبان، والنووي، وأكثر أهل العلم، ومن آخرهم الإمام الألباني في سنن أبي داود (2032).
([35]) أخرجه الطحاوي في «مشكل الآثار» (1/248)، والطبراني في «الأوسط» (6983)، وصححه الإمام الألباني في «الصحيحة» تحت حديث (2902) (6/954)، قال: «وأصح ما جاء في فضل الصلاة فيه حديث أبي ذر –رضي الله عنه- قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله ×، وذكره . . .».
أمَّا حديث: «صلاة في المسجد الحرام مائة ألف صلاة، وصلاة في مسجدي ألف صلاة، وفي بيت المقدس خمسمائة صلاة» فلا يصح؛ انظر: «إرواء الغليل» (4/342-343)، و«تمام المنَّة» (ص292-2994).